زيلينسكي… الالتزام الراسخ بالدفاع عن أوكرانيا

الصمود في وجه تآكل الدعم الأميركي لبلاده

المجلة
المجلة

زيلينسكي… الالتزام الراسخ بالدفاع عن أوكرانيا

بينما يستعد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لزيارة دبلوماسية إلى المملكة العربية السعودية لإجراء محادثات مع المسؤولين الأميركيين، تتصدر أجندته محاولة ترميم العلاقات المتوترة بين كييف وواشنطن، والتي دفعت إدارة ترمب إلى تعليق جميع أشكال الدعم العسكري والاستخباراتي للمجهود الحربي الأوكراني ضد روسيا.

في أعقاب طرده المفاجئ من المكتب البيضاوي إثر اجتماع متوتر مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب، بادر زيلينسكي إلى ترميم العلاقات عبر رسالة تصالحية وصف فيها ما حدث بأنه "مؤسف"، معربا عن أمله في التوصل إلى اتفاق سلام تحت "القيادة القوية" للرئيس الأميركي.

وتشير المؤشرات الأولية من واشنطن إلى أن مبادرة زيلينسكي لقيت استجابة إيجابية في البيت الأبيض، حيث أعلن ترمب، الذي سبق أن اتهم الرئيس الأوكراني بعدم الجدية في إنهاء النزاع، ترحيبه بهذه الخطوة.

وفي خطاب ألقاه أمام الكونغرس لاستعراض إنجازاته الأولى منذ عودته إلى السلطة، كشف ترمب عن تلقيه رسالة من زيلينسكي، مقتبسا منها مقاطع تؤكد استعداد الرئيس الأوكراني لـ"الجلوس إلى طاولة المفاوضات" بحثا عن تسوية سلمية.وقال ترمب: "أقدّر إرساله لهذه الرسالة"، التي وصفها بـ"المهمة". وتلى مبادرة زيلينسكي منشور على وسائل التواصل الاجتماعي جدد فيه التزامه بالعمل تحت "القيادة القوية" لترمب من أجل تحقيق سلام دائم.

وقد تزامنت هذه الخطوة الدبلوماسية مع ضغوط متزايدة من القادة الأوروبيين، وعلى رأسهم رئيس الوزراء البريطاني السير كير ستارمر والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، اللذان شدّدا على الأهمية الاستراتيجية لإصلاح العلاقات مع واشنطن دون تأخير.

وقال ترمب أثناء تلاوته مقتطفات من رسالة زيلينسكي أمام الكونغرس: "تؤكد الرسالة على استعداد أوكرانيا للدخول في مفاوضات في أقرب وقت ممكن من أجل تقريب السلام الدائم. فلا أحد يتطلع إلى السلام أكثر من الأوكرانيين". واقتبس من الرسالة نقلا عن الرئيس الأوكراني قوله: "أنا وفريقي مستعدون للعمل تحت قيادة الرئيس ترمب القوية من أجل إحلال سلام مستدام". كما أكد ترمب أن زيلينسكي مستعد لإبرام اتفاق حول المعادن الأرضية النادرة، وهو الملف الذي بقي معلقا منذ توتر العلاقات بينهما في البيت الأبيض.

وطفت على السطح مؤشرات إضافية على استعداد ترمب لخفض حدة التوتر مع أوكرانيا عقب اجتماع بين وزير الدفاع البريطاني جون هيلي ونظيره الأميركي بيت هيغسيث، الذي أشار إلى أن الرئيس الأميركي كان "متحمسا للغاية"برد زيلينسكي.

وفي السياق ذاته، أفاد مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، جون راتكليف، ومستشار الأمن القومي، مايك والتز، بأن استعداد زيلينسكي لإبرام اتفاق المعادن مع الولايات المتحدة قد يفتح الباب أمام رفع الحظر المفروض على تسليح أوكرانيا وتقديم الدعم الاستخباراتي لها.

من جانبه، صرّح ستيف ويتكوف، المبعوث الخاص لترمب إلى الشرق الأوسط والمنسق لاجتماع زيلينسكي المرتقب مع المسؤولين الأميركيين في المملكة العربية السعودية، قائلا: "هناك طريق للعودة، وقد أظهر الرئيس زيلينسكي التزامه بالسير فيه بحسن نية". ومن المقرر أن يتوجه زيلينسكي إلى الرياض يوم الاثنين لإجراء محادثات مع ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان.

وحضرت مبادرات زيلينسكي الدبلوماسية أيضا خلال قمة طارئة للقادة الأوروبيين في بروكسل، عندما اقترح خلال الاجتماع بأن تُفرج روسيا عن أسرى الحرب كخطوة أولى نحو"إرساء الثقة المتبادلة"، مؤكدا أن خطوة كهذه سوف تمهّد الطريق لوقف إطلاق نار شامل يشمل "هدنة للصواريخ، والقنابل، والطائرات المسيّرة بعيدة المدى، ووقف جميع العمليات العسكرية في البحر الأسود".

وعلى أي حال، لم تكن المواجهة العلنية بين زيلينسكي وترمب هي الأولى من نوعها، إذ تعود جذور التوتر بينهما إلى سبتمبر/أيلول 2019، عندما وجدت إدارة زيلينسكي نفسها وسط عاصفة سياسية أميركية داخلية كبرى. ففي ذلك الوقت، قدّم أحد أعضاء الاستخبارات الأميركية بلاغا رسميا يتهم ترمب بحجب حزمة مساعدات عسكرية حيوية عن أوكرانيا في محاولة للضغط على كييف لإطلاق تحقيق مع نائب الرئيس الأميركي الأسبق جو بايدن ونجله هنتر.

لم تكن المواجهة العلنية بين زيلينسكي وترمب هي الأولى من نوعها، إذ تعود جذور التوتر بينهما إلى سبتمبر 2019، عندما وجدت إدارة زيلينسكي نفسها وسط عاصفة سياسية أميركية داخلية كبرى

وزعم ترمب– دون تقديم أي دليل– أن بايدن الأب، قد استغل منصبه السياسي لتعزيز مصالح ابنه هنتر، الذي كان حينها عضوا في مجلس إدارة شركة الطاقة الأوكرانية "بوريزما هولدنغز" (Burisma Holdings).

وبحلول أبريل/نيسان 2019، أعلن جو بايدن ترشّحه للرئاسة عن الحزب الديمقراطي، وسرعان ما أصبح المرشح الأوفر حظا للحزب. وتزامن ذلك مع تحركات محامي ترمب الشخصي، عمدة نيويورك السابق رودولف جولياني، الذي بدأ محادثات مع المدعي العام الأوكراني، يوري لوتسينكو، قبيل تنصيب زيلينسكي رسميا.وفي البداية، تركزت تلك المحادثات على مزاعم مرتبطة بالانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2016 ومدير حملة ترمب السابق، بول مانافورت، لكنها توسعت لاحقا لتشمل قضية بايدن. ورغم أن الفريق الانتقالي لزيلينسكي رفض لقاء جولياني، معتبرا الأمر شأنا سياسيا أميركيا داخليا، فإن ترمب واصل إصراره على متابعة هذه الادعاءات.

وفي مكالمة هاتفية مع زيلينسكي في 25 يوليو/تموز 2019، تطرّق ترمب إلى التحقيق بشأن عائلة بايدن، فردّ زيلينسكي بأنه سينظر في قضية "بوريزما"، وأعقب ذلك إقالته للمدعي العام لوتسينكو في أغسطس/آب.

في ذلك الوقت، جمّد ما قيمته 400 مليون دولار من المساعدات العسكرية الأميركية لأوكرانيا، على الرغم من موافقة الكونغرس عليها بتأييد من الحزبين. ورغم الإفراج عن تلك الأموال في 11 سبتمبر/أيلول 2019، فإن تدقيق المشرعين الأميركيين في تصرفات ترمب بلغ ذروته، ولا سيما بشأن تفاصيل مكالمته مع زيلينسكي في 25 يوليو.

رويترز
اللقاء الذي جمع بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في البيت الأبيض في واشنطن، الولايات المتحدة، 28 فبراير 2025

واستنادا إلى تلك المكالمة الهاتفية، ومعها مزاعم أخرى حول محاولة ترمب الضغط على زيلينسكي، أطلق مجلس النواب الأميركي إجراءات لعزله في 24 سبتمبر 2019.وعلى الرغم من تصويت مجلس النواب لصالح العزل، فإن مجلس الشيوخ برّأ ترمب لاحقا. وردا على ذلك، شنّ ترمب حملة تطهير واسعة استهدفت المسؤولين الذين اعتبرهم غير موالين له، مما أدى إلى استبعاد بعضٍ من أكثر الخبراء معرفة بشؤون روسيا وأوكرانيا من داخل جهاز الأمن القومي الأميركي.

كان نزوع ترمب إلى الانتقام السياسي موثقا بشكل جيد، ويُقال إن توتر علاقته مع زيلينسكي تفاقم بسبب خلافهما حول قضية هنتر بايدن وساهم في النهج الفاتر والمتحفظ الذي تبنّاه ترمب تجاه الرئيس الأوكراني خلال زيارته إلى المكتب البيضاوي، وهو موقف يسعى زيلينسكي اليوم بكل قوة لتجاوزه وإصلاح تداعياته.

التحول الجذري في حياته

وُلد فولوديمير زيلينسكي في 25 يناير/كانون الثاني 1978 في مدينة كريفي ريه بأوكرانيا، التي كانت آنذاك جزءا من الاتحاد السوفياتي. ورغم افتقاره إلى الخبرة السياسية التقليدية، فقد انتُخب رئيسا لأوكرانيا عام 2019، مستفيدا من برنامجه القائم على مكافحة الفساد، والذي أكسبه دعما جماهيريا واسعا. وقد تحوّل حضوره القوي على وسائل التواصل الاجتماعي إلى قاعدة انتخابية متماسكة، مما مكّنه من تحقيق فوز كاسح على الرئيس الحالي بيترو بوروشينكو في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية.

وُلد زيلينسكي لعائلة يهودية، وكغيره من أبناء منطقة دنيبروبتروفسك الأوكرانية، نشأ متحدثا بالروسية، إلى جانب إتقانه الأوكرانية والإنجليزية بطلاقة.

في عام 1995، التحق بمعهد كريفي ريه الاقتصادي، أحد فروع جامعة كييف الاقتصادية الوطنية، حيث حصل لاحقا على شهادة في القانون عام 2000، ولكنه آثر التخلي عن مهنة المحاماة واتخذ لنفسه مسارا مختلفا تماما، حين برز، منذ فترات دراسته، اهتمامه بالمسرح والفنون الاستعراضية، وهو شغف سرعان ما تحوّل إلى مركز اهتمامه المهني في مطلع حياته العملية.غير أن الاضطرابات السياسية العميقة التي اجتاحت أوكرانيا ألقت بظلالها على مسيرته الفنية.

وكانت أوكرانيا شهدت، في فبراير/شباط 2014، اضطرابات سياسية كبرى أطاحت بالرئيس فيكتور يانوكوفيتش بعد أشهر من الاحتجاجات الجماهيرية، مما مهد الطريق لانتخاب الملياردير بيترو بوروشينكو رئيسا في مايو/أيارمن العام نفسه.غير أن فترة بوروشينكو كانت حافلة بالتحديات، وواجهت بلاده تمردا مدعوما من روسيا في شرق أوكرانيا، واستشرى الفساد فزاد من تآكل ثقة الشعب في حكومته.

الاضطرابات السياسية العميقة التي اجتاحت أوكرانيا ألقت بظلالها على مسيرته الفنية

ومع ركود الاقتصاد الأوكراني وتدهور شعبية بوروشينكو إلى مستويات متدنية، توقع كثيرون أن تكون الانتخابات الرئاسية لعام 2019 مجرد إعادة للسيناريو السياسي لعام 2014، حيث يتواجه بوروشينكو مجددًا مع يوليا تيموشينكو، إحدى القيادات البارزة في الثورة البرتقالية.

لكنّ المشهد الانتخابي شهد تحولا غير متوقع، إذ خاض السباق أكثر من ثلاثين مرشحا، وبرز بينهم زيلينسكي كأحد أقوى المنافسين منذ اللحظة الأولى لإعلان ترشحه.واعتمد زيلينسكي استراتيجية انتخابية غير تقليدية، متجنبا البيانات السياسية المطوّلة والمؤتمرات الصحافية لصالح خطابات موجزة واسكتشات كوميدية نشرها على منصات مثل "يوتيوب" و"إنستغرام".وقد لاقى هذا النهج صدى واسعا بين الناخبين، حيث كانوا يبحثون عن بديل للطبقة السياسية التقليدية.وفي 31 مارس/آذار 2019، حقق زيلينسكي انتصارا واضحا في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية، حين حصل على أكثر من 30 في المئة من الأصوات، ممهدا الطريق لفوزه الكاسح في الجولة الثانية.

أ.ف.ب
زيلينسكي يؤدي عرضا مسرحيا مع مجموعته الكوميدية 95th block في كييف، أوكرانيا، 13 مارس 2019

وفي 21 أبريل/نيسان 2019، حقق فولوديمير زيلينسكي فوزا مدويا في الانتخابات الرئاسية الأوكرانية، حيث حصل على نسبة ساحقة بلغت 73 في المئة من الأصوات.ومع ذلك، في غضون أيام من انتخابه، واجه أول تحد كبير في السياسة الخارجية عندما أعلن فلاديمير بوتين عن خطة لمنح جوازات سفر روسية للمواطنين الأوكرانيين المقيمين في المناطق التي يسيطر عليها الانفصاليون في شرق أوكرانيا الذي مزقته الحرب.

وبحلول ذلك الوقت، كانت الحرب الهجينة المدعومة من روسيا قد دخلت عامها الخامس، مع نزوح مئات الآلاف من الأوكرانيين بسبب الصراع الدائر.وردًا على ذلك، سخر زيلينسكي من العرض، ونشر على "فيسبوك" أن أوكرانيا ستمنح الجنسية الأوكرانية للروس وغيرهم "الذين يعانون من الأنظمة الاستبدادية أو الفاسدة".

وفي 20 مايو من العام نفسه، أدى زيلينسكي اليمين الدستورية رئيسا للبلاد، وبعد شهرين فقط، في 21يوليو/تموز، أجريت انتخابات برلمانية مبكرة. وحقق حزبه (خادم الشعب) انتصارا تاريخيا، حيث حصل على 254 مقعدا من أصل 450 مقعدا، وهي المرة الأولى في تاريخ أوكرانيا ما بعد الاتحاد السوفياتي التي يتمتع فيها حزب واحد بالسيطرة التشريعية المطلقة.

بيد أن الأمور سرعان ما بدأت تتأزم، وبحلول أواخر عام 2021، تصاعدت التوترات مع روسيا بشكل كبير حيث بدأت موسكو في حشد وجود عسكري ضخم على طول حدود أوكرانيا ونشرت قوات إضافية في بيلاروسيا، بحجة إجراء مناورات مشتركة، بينما حشدت أسطولا بحريا هائلا في البحر الأسود. وحذرت وكالات الاستخبارات الغربية من أن هذه المناورات كانت تمهيدا واضحا للغزو– وهو ما نفاه بوتين مرارا.

في 24 فبراير 2022، وجّه زيلينسكي نداء متلفزا من أجل السلام، مخاطبا الشعب الروسي مباشرة

وبينما كان القادة الغربيون يتدافعون للتفاوض مع كل من بوتين وزيلينسكي في محاولة لتجنب الحرب، كانت الاستعدادات العسكرية الروسية تمضي قدما. وفي 24 فبراير/شباط 2022، وجّه زيلينسكي نداء متلفزا من أجل السلام، مخاطبا الشعب الروسي مباشرة.

وبعد ساعات قليلة، في حوالي الساعة 6:00 صباحا بتوقيت موسكو، أعلن بوتين إطلاق "عملية عسكرية خاصة"، وانهمرت صواريخ كروز الروسية على أهداف أوكرانية، إيذانا ببداية غزو شامل. وأثار الهجوم إدانة عالمية، حيث ندد قادة العالم أجمع بالعدوان الروسي.

أ.ف.ب
الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي ورئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعد عقد اجتماع خلال قمة في لانكستر هاوس في لندن، بريطانيا، 2 مارس 2025

ومنذ ذلك الحين، برز زيلينسكي كواحد من أبرز القادة في زمن الحرب في العصر الحديث، حيث حشد الدعم الدولي لقضية أوكرانيا وأشرك قادة العالم بلا كلل في محاولة لمنع وقوع بلاده تحت السيطرة الروسية.

وقد أكسبه التزامه الثابت بالدفاع عن أوكرانيا لقب شخصية العام لمجلة "التايم" في ديسمبر/كانون الأول 2022– وهو قرار وصفه محرر المجلة بأنه "الأكثر وضوحا في الذاكرة".

ومع ذلك، بعد ثلاث سنوات من الحرب القاسية التي لا هوادة فيها، ومؤخرا بعد مواجهة دبلوماسية مريرة مع ترمب، يبدو الدعم الحماسي الذي تلقاه زيلينسكي من الولايات المتحدة ذات يوم وكأنه ذكرى بعيدة.

font change