الترانسفير الإسرائيلي... أقل مساحة من الأرض عليها أقل عدد من الفلسطينيين

الهاجس الديموغرافي ورؤية السيطرة على الأرض

رويترز
رويترز
مشهد جوي يُظهر فلسطينيين ينتظرون السماح لهم بالعودة إلى منازلهم في شمال غزة قبل بدء الهدنة الهشة

الترانسفير الإسرائيلي... أقل مساحة من الأرض عليها أقل عدد من الفلسطينيين

ليس غريبا أن يظن البعض أن أبواب "الجحيم" التي فتحت في قطاع غزة منذ هجمات السابع من أكتوبر، التي شنتها "حماس" على المناطق الإسرائيلية المتاخمة للقطاع، وأن المزيد المحتمل من ذلك الجحيم في ظل تهديدات إسرائيلية متواصلة باستئناف الحرب، سيحمل مجموعات من الغزيين على التفكير في الهجرة، حماية لأنفسهم وذويهم، أو بحثا عن مستقبل أفضل في مواقع سبقهم إليها أقارب وأصدقاء.

في حينه سيكون ذلك انتقالا طوعيا مؤقتا أو دائما، يتخذه كل شخص وفق رؤيته وظروفه. لكن السلطات الإسرائيلية في هذه الآونة، تسعى لأن يكون ذلك الانتقال ضمن خطة تعدها وتوجهها هي تحت اسم "الهجرة الطوعية" التي تحاكي تماما مفهوم "الترانسفير" أو النقل لتفريغ قطاع غزة من سكانه، بذريعة أن الظروف القاسية التي يعانيها السكان، غير قابلة للتغيير في الآونة القريبة. وعلى هذا الأساس جاء قرار وزير الأمن الإسرائيلي يسرائيل كاتس، بإنشاء مديرية خاصة، تعنى بترتيبات خروج الغزيين "المعنيين" بمغادرة مدينتهم، إلى جانب تقديم أشكال أخرى من المساعدة.

في واقع الحال فإن إقامة المديرية، قد تأتى ضمن استغلال إسرائيلي معلن، للدعم الأميركي للفكرة، والذي طرح بشكل واضح من خلال الرئيس دونالد ترمب، وفكرة ترحيل الغزيين إلى دول عربية أو أجنبية للسيطرة على قطاع غزة والاستثمار فيه، لكن الحقيقة أن مشروع "الترانسفير" في القطاع ليس وليد لحظة أو مقترح بعينه، بل هو تجسيد لفكرة يزيد عمرها على المئة عام، وأسست لمبدأ متعارف عليه في ظل الحكومات المتعاقبة: أقل عدد من السكان الفلسطينيين، على أقل مساحة من الأرض.

مسارات "الترانسفير" خلال الحرب الأخيرة

منذ بدء الجيش الإسرائيلي الاجتياح البري لقطاع غزة في أواخر أكتوبر/تشرين الأول من العام 2023 أو حتى خلال التخطيط له، دعت أطياف اليمين المتشدد في الحكومة الإسرائيلية إلى ترحيل السكان، كما طرحت فكرة "نقلهم" إلى منطقة سيناء، لكنها قوبلت برفض قاطع من مصر، حال دون التنفيذ، لكنه لم يمنع مزيدا من الدعوات والمخططات للترحيل.

طوال أشهر الحرب، استخدم أصحاب الخطط، وصناع القرار مصطلح الهجرة الطوعية، تفاديا لتعبير "الترانسفير" الذي يعد جريمة حرب، وفق القانون الدولي، لكن الهاجس الديموغرافي ورؤية السيطرة على الأرض، بقيت مبطنة في كل ما طرح.

وفي أواسط نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2023 أي بعد نحو شهر ونصف الشهر على اندلاع الحرب على القطاع، نشر النائبان داني دانون (اليوم يشغل منصب سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة- ونائب سابق عن حزب "الليكود") ورام بن براك (عن حزب "ييش عتيد" بزعامة يائير لبيد) مقالا في صحيفة "وول ستريت جورنال" كان يعبر عن مبادرة دعت دول العالم، لاستقبال لاجئين غزيين من خلال بناء منظومة دولية، تحاكي المنظومات التي تتعامل مع اللاجئين من جراء أي كارثة أو حرب في العالم. في حينه لم تحظ المبادرة بأي اهتمام دولي، لكنها كانت مناسبة لأحزاب الصهيونية الدينية، للتعبير عن رغبتها في تجديد فكرة ترحيل الغزيين.

الخطة الأبرز جاءت في أوائل سبتمبر 2024 وعرفت بـ"خطة الجنرالات" التي صاغها مستشار الأمن القومي الأسبق غيورا آيلند، وطرحت على المجلس الوزاري المصغر للشؤون الأمنية والسياسية، باسم عدد من ضباط وجنرالات الاحتياط

أما الخطة الأبرز فجاءت في أوائل سبتمبر/أيلول 2024 وعرفت بـ"خطة الجنرالات" التي صاغها مستشار الأمن القومي الأسبق غيورا آيلند، وطرحت على المجلس الوزاري المصغر للشؤون الأمنية والسياسية، باسم عدد من ضباط وجنرالات الاحتياط، إذ اعتمدت الفكرة على مبدأ "الإزاحة أو النقل الداخلي" بمعنى ترحيل الغزيين من شمال محور نتساريم (مدينة غزة ومحيطها) إلى مناطق أخرى لفرض حصار على نشطاء "حماس" وقطع المساعدات الإنسانية.

لم تتبن الحكومة الإسرائيلية رسميا هذه الخطة، لما أثارته من انتقادات دولية واتهامات بمخالفة القانون الدولي، لكن وسائل إعلام إسرائيلية، أشارت غير مرة إلى أن الاجتياحات المتجددة لمناطق شمالي القطاع تبنت أفكار الخطة.

عاد خطر"الترانسفير" لملاحقة سكان قطاع غزة، بعد تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترمب بضرورة تهجير الغزيين، والسيطرة على القطاع، وإعادة بنائه من جديد. منحت تلك الوعود التي وصفها صحافيون إسرائيليون بـ"الترامبسفير" حياة جديدة لحكومة بنيامين نتنياهو، وباتت خطط الترحيل حديثا متداولا ومتاحا، أمام كل الأطياف السياسية في إسرائيل، لكنها مع ذلك قد توفر طوق نجاة مرحلي لائتلاف نتنياهو اليميني المتشدد، خاصة أن الرئيس الأميركي لا يزال يقدم أفكارا وبدائل لا تبدو مستندة إلى الواقع أو نهائية، ولا يستبعد أنه استخدم فكرة الترحيل لممارسة ضغوط على الأطراف العربية لتحمل "أعباء" القطاع بعد الحرب، أو لحث بعضها على التوجه للتطبيع مع إسرائيل، مقابل إقصاء خطر"الترانسفير".

مئة عام من المحاولات

وخلافا للنظرة العامة التي تحصر فكرة "الترانسفير" بأطياف اليمين المتشدد في إسرائيل، فقد سبق وقلنا إن أساس الفكرة في سياق تعامل إسرائيل مع الفلسطينيين، يزيد عمره على المئة عام، ويستند لمبدأ: أقل مساحة من الأرض عليها أقل عدد من الفلسطينيين. وهذه النظرية ترتبط بشكل كبير بالحركة الصهيونية منذ تأسيسها، ودون فوارق جوهرية كبيرة بين الكثير من أقطابها، الذين شكلوا أساسا للحياة الحزبية في إسرائيل بعد النكبة. ومخططات نقل السكان الفلسطينيين إلى خارج حدود فلسطين الانتدابية، بنيت على أساس الهواجس الأمنية والديموغرافية، والرغبة في السيطرة على أكبر مساحة من الأرض لبناء دولة يهودية.

بنت الحركة الصهيونية، منذ أواخر القرن التاسع عشر رؤية تحقيق أغلبية يهودية في "أرض إسرائيل" على توافد اليهود من دول العالم إلى فلسطين الانتدابية، من خلال ما يعرف بـ"العلياة" لكن تلك القاعدة، لم تلغ فكرة تهجير سكان البلاد الأصليين منها، لتسريع بلوغ الهدف الديموغرافي، من منطلق أن ثمة تبريرا أخلاقيا لذلك، يعتمد على تجميع اليهود الملاحقين في بلادهم الأصلية في "أرض إسرائيل" مقابل نقل العرب إلى الدول العربية، التي تربطهم بها القومية والثقافة والدين. وقد تبنى هذه الأفكار عدد من قادة الحركة الصهيونية، كما ينقل مؤرخون وكتاب ولم يقتصر هذا التبني على بناة الحركات اليمينية والأحزاب، بل شمل أيضا مؤسسي اليسار الصهيوني.

بعد النكبة عام 1948 وتهجير سكان ما يزيد على خمسمئة وثلاثين قرية فلسطينية، إلى خارج إسرائيل أو إلى بلدات بقيت ضمن السيادة الإسرائيلية، نشرت "لجنة الترانسفير" صيغة باتت السياسة الرسمية لإسرائيل في تعاملها مع قضية اللاجئين، حملتهم فيها مسؤولية "الهروب" من ديارهم، ومنعت عودتهم، وفرضت المواطنة على الفلسطينيين المتبقين في بلادهم.

نظرية "الترانسفير" ترتبط بشكل كبير بالحركة الصهيونية منذ تأسيسها، ودون فوارق جوهرية كبيرة بين الكثير من أقطابها، الذين شكلوا أساسا للحياة الحزبية في إسرائيل بعد النكبة

منذ ذلك الحين أخذ "الترانسفير" أشكالا وتوجهات مختلفة، ولم يغب عن سياسات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة أو طروحات الأحزاب السياسية ونقاشاتها، وتجسد في أكثر من حالة كانت ملامحها أكثر وضوحا بعد نكسة عام 1967 واحتلال الجولان السورية، والضفة الغربية وقطاع غزة، الذي رافقه ترحيل واستيطان وسيطرة على الأراضي.

أما على صعيد الأحزاب، فقد ظهرت أحزاب يمينية متشددة محسوبة على الصهيونية الدينية، دعت بوضوح إلى التهجير كحزب الحاخام مئير كهانا في ثمانينات القرن الماضي، الذي دعا الى تهجير المواطنين العرب في إسرائيل (فلسطينيي 48) قبل أن يحظر ويمنع من المشاركة في انتخابات الكنيست، إلى جانب حزب "موليدت" الذي تزعمه رحبعام زئيفي وحزب "الاتحاد الوطني" اللذين طالبا بالتهجير الطوعي إلى الضفة الشرقية (الأردن) وشملا فكرة "الترانسفير" ضمن خططهم الانتخابية.

وفي أيامنا هذه يعبر الحزبان المحسوبان على تيار الصهيونية الدينية "هتسيونوت هدتيت" بزعامة بتسلئيل سموتريتش، و"عوتسما يهوديت" الذي يقوده إيتمار بن غفير، عن فكرة "الترانسفير" تارة من خلال الدعوة لاستخدام الحسم والقوة، كما هو في خطة الحسم التي طرحها سموتريتش، وتارة أخرى من خلال دعوات إلى دعم خطط الهجرة الطواعية من الضفة والقطاع.

تعزيز الاستيطان في الضفة الغربية والقدس وخلق بيئة فلسطينية طاردة للسكان، أو من خلال غض البصر عن ممارسات المستوطنين أنفسهم في ملاحقة الفلسطينيين

وعلى الرغم من أن الأحزاب المركزية، التي قادت الحكومات المختلفة مثل "المباي" ("العمل" لاحقا) و"الليكود" (الذي يرأسه بنيامين نتنياهو) لم تعلن رسميا تبنيها فكرة "الترانسفير" فإن أداءها السياسي لم يخل من مقومات الفكرة، سواء من خلال تعزيز الاستيطان في الضفة الغربية والقدس وخلق بيئة فلسطينية طاردة للسكان، أو من خلال غض البصر عن ممارسات المستوطنين أنفسهم في ملاحقة الفلسطينيين. كما أن نوابا وممثلين في تلك الأحزاب، يدعون إلى تطبيق الفكرة.

Getty Images
النكبة الفلسطينية 1948

في المحصلة، تمكنت خطة الرئيس الأميركي الأخيرة من إعادة فكرة التهجير إلى واجهة النقاش والحديث في إسرائيل، ودغدغت مشاعر وأفكار عدد من السياسيين والمستوطنين، لكنها أيضا تزامنت مع ظروف استثنائية، تطرح مزيدا من الأسئلة عن احتمالات التقدم فيها من جانب إسرائيل، وأهم هذه الظروف هي وجود عشرات المحتجزين الإسرائيليين لدى "حماس" وسائر الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة، والذي يعد ورقة ضغط أساسية لدى "حماس" من وجهة النظر الإسرائيلية. أما الرفض العربي المتواصل لفكرة "الترانسفير" والذي برز منذ بداية الحرب، واستمر إلى ما بعد تصريحات ترمب، فمن شأنه أن يؤثر في حسابات إسرائيل والولايات المتحدة معا، خاصة أن التحديات التي تواجه الطرفين في المنطقة، لا تتوقف عند الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وقد تحتاج إلى تحالفات أو تفاهمات مع عدد من الدول العربية. وليس أقل أهمية الصمود الذي يعبر عنه الفلسطينيون في ديارهم، خشية تكرار سيناريوهات النكبة.

كل هذه العوامل من شأنها أن تغيب فكرة "الترانسفير" بمفهومها الأساسي، الذي يعني النقل والتهجير إلى خارج الوطن على المدى القريب، لكنها لن تمنع بالضرورة، استمرار سيناريوهات ترحيل الغزيين في حال استؤنفت الحرب، أو تهجير سكان الضفة الغربية و"نقل" مواقع سكنهم مع استمرار العملية العسكرية في المخيمات والمدن.

font change