بيروت: يغرق الشاب الذي لم يتعد عمره 22 عاما في بحر من الأسطوانات الورقية الملفوفة بدقة، كما يليق بالوثائق المهمة التي تحفظ بعناية وحرص فائقين. ينظر إلى اللفائف الثمينة، مكوّمة على رفوف معدنية، نظرة خبير يعرف عناوينها وتصنيفاتها ومكان كل واحد منها. يفرد أحدها على الأرض، فيطوف المخزن الصغير على الفور بعالم من الألوان.
تخرج كريم نعماني في الجامعة، حيث درس الفنون، قبل سنة. لكنه، قرر أن يهب 15 شهرا من حياته الغضة، متطوعا، مهمته تصنيف "ملصقات" الأفلام السينمائية، في مكان، يقول إنه يتعلم فيه معرفة موازية عن السينما والمجتمع، تضاهي كل ما تعلمه في صفوف الدراسة: مكتبة أفلام وطنية في بيروت، تحمل اسم المدينة، كما طموحات كبيرة، بتعزيز الهوية الثقافية للشخصية اللبنانية، عبر استعادة تاريخ من الصناعة السينمائية، يحتفل لبنان بعد 4 سنوات بمئة سنة على بداية سطوره الأولى.
هنا "سينماتيك بيروت"، حيث قاعدة بيانات تضم 2000 فيلم طويل وقصير من مختلف الأنواع، من بينها 400 فيلم متاحة للمشاهدة، ومئات الملصقات التي جمعت على مدى عقدين من الزمن بين بيروت والقاهرة وتونس وبغداد ودمشق، اضافة إلى مئات الكتب والمجلات والكتيبات.
"هنا عالم أشعر فيه بالانتماء والوفاء والثقة"، يقول الشاب في حديثه مع "المجلة"، بينما تلمع عيناه السوداوان، مثل لون شعره الطويل، على هيئة ديناميكة، تذكر بهيئة بطل من عالم القصص السينمائية.
شهادات عن الماضي
في منتصف ستينات القرن الماضي، طافت دور العرض السينمائية في بيروت، بجمهور حاشد، أقبل بحماسة على مشاهدة فيلم لبناني اسمه "غارو"، استلهم مخرجه الأرمني غاري غاربيديان قصته من حياة واقعية عاشها أرمني آخر في المدينة، تداخلت في شخصيته صفات الخارج عن القانون مع المدافع عن المهمشين والفقراء. استفاد ممثل الفيلم الرئيس منير معاصري، من تكوينه التعليمي والتدريبي الذي تلقاه في "استوديو الممثل" في الولايات المتحدة الأميركية، كذلك من ليونة عضلاته بوصفه بطل كرة طائرة، ليبهر الجمهور، بقفزات خطرة لا تنتهي، فوق سطوح بيروت، هاربا من العصابات تارة، ومن الشرطة غالبا.
بعد سنوات قليلة، قتل المخرج على إثر تفجير قنبلة في بيروت، فيما كان يضع اللمسات الأخيرة على فيلم يتناول سيرة أبطال من نوع آخر، وبأدوات مختلفة: "كلنا فدائيون" (1969)، لكن بطله معاصري لا يزال على قيد الحياة، لكي يسرد للأجيال المحبة للسينما اللبنانية وسير الأبطال، من تلاميذه ومريديه، أسرار ومشاهد من تلك الحقبة الزمنية الذهبية للفن اللبناني، ما كان في الامكان استعادتها من دون جهود الـ"سينماتيك".