من عراقة تقاليد اختيار عنوان المجاميع القصصية، أن يحتكم المؤلف إلى عنوان قصة قصيرة في إضمامة مجموعته لتكون عرّابة الكتاب ككل، وهو اختيار فني لا يزال القصاصون يداومون جدواه القصصي حتى يومنا هذا. لمسوغ ذلك أكثر من داعٍ جمالي: إما تكون القصة ذات أثر جامع لظلال الأخريات، لا من حيث إغواء عنوانها وحسب، بل قد يتعداه إلى مشترك دامغ في منحى الموضوع أو نزوع الشكل، أو تكون القصة مستقلة تتفرد بثقل يتخفف في كيمياء شقيقاتها، أو يكون العنوان جديرا بالمجموعة في الوقت نفسه الذي لن تحتكره القصة وحدها داخل توليفة فصوص الكتاب، إنْ مجاورة أو بتفرّق.
مدعاة هذا الكلام هو صدور ثلاث مجاميع قصصية بالتزامن حديثا، تشترك بشكل لافت في توسيم عناوينها الرئيسة احتكاما إلى عناوين قصص قصيرة داخل نسيج مجاميعها: "هل أنا ابنك يا أبي" لمحمد برادة، "أحدب الرباط" لأحمد المديني، و"الخميس" لمحمد الأشعري.
من غرابة المصادفات أن الكتاب الثلاثة ينتمون إلى جيل واحد، راسخ في تجريب الكتابة السردية وقلق تحولاتها الجمالية. فإن كان أحمد المديني ينفرد بدأبه على الكتابة في القصة القصيرة والرواية والنقد باطراد، ملتزما إنجازه الرصين في ثالوثها دونما انقطاع، وقد ناهزت إصداراته القصصية 15 عنوانا منذ "العنف في الدماغ" عام 1971، فمحمد برادة اكتفى في منجزه القصصي بثلاث مجموعات لا غير، بدأها عام 1979 بنشر "سلخ الجلد"، وأردفها بمجموعة "ودادية الهمس واللمس" 2014 وأما محمد الأشعري فقلائل هم العارفون بإصداره مجموعة قصصية بعنوان "يوم صعب" عام 1990.
في مجموعة محمد برادة الجديدة "هل أنا ابنك يا أبي؟" المؤسسة على ثماني قصص قصيرة، يكون ترتيب القصة ذات العنوان المفرد للكتاب هو مختتم المجموعة، أي القصة الثامنة. وفي مجموعة أحمد المديني "أحدب الرباط" تشرئب القصة ذات العنوان المفرد للكتاب في المقام 13 من فصوص القصص ككل وعددها 15، أما في مجموعة "الخميس" لمحمد الأشعري فيأتي ترتيب القصة ذات العنوان المفرد للكتاب في المقام 8 من أصل 14 قصة.
محمد برادة: رسالة إلى الأب وراء قبره
"ما وظيفة الأب الميت؟ يصلح الأب الميت لأن تعلق عليه أخطاء العالم، وما عدا ذلك لا أجد شيئا يصلح له الآباء الميتون". بهذه الخلاصة السوداوية تختم قصة "هل أنا ابنك يا أبي"؟ لمحمد برادة، الذي يفصح بقناع السارد عن جانب عاتم من سيرته بقدر شفيف من الذاتية المطبقة، إذ يشكل فقدان الأب في سنة ولادته سؤالا سديميا، بينما يعوض مكانه الفارغ حضور الأم كامل العلامة الإنسانية، ولا يستيقظ هاجس الأب بقوة إلا حين يبلغ السارد هشاشة العمر، مع استفحال أعطاب الجسد، والشعور المفزغ بوشوك النهاية. وإثر مناخ وجودي قلق كهذا، يخاطب الابن على حافة الثمانين والده الراحل، في ما يشبه مونولوغا يسلك فيه مسلكين، مسلك الحوار الافتراضي ومسلك الخطاب التراسلي، فتتأرجح صورة الأب أو تتشظى بالأحرى، فتارة عدم الانتماء إلى الأب هو الانطباع الأولي السائد في طور الفتوة، وهذا ما يفسر عدم الارتباط حتى بصورة فوتوغرافية له، وما يحسب لغياب الأب وفق تقدير الابن هو العيش من دون عبء كما تجشم عناء ذلك أصدقاؤه وقرناؤه. لكن ثقل أسئلة طارئة ما عاد يسعف على الاحتراق بجمرها سوى أن يلوذ الابن أخيرا بمخاطبة والده من وراء القبر، مستنيرا برمزيته كيما يعينه على أسئلة عن معضلة الزمن، وفي الوقت نفسه يعترف له بأن نسيانه له جدير بعتاب أبوي مع أن العذر قائم في احتضان الخال له. ومع ذلك فلعل الخوف من تلاشي العمر هو السبب اللاسع وراء الشوق أو الحاجة المحتدمين إلى الأب وقد احتد ناقوس الهاجس: هل أنا ابنك يا أبي؟