سوريا في "8 أذار"... كيف تلاشى "الحزب العملاق" بعد 62 سنة؟

عيد استقلال سوريا الأول وليس ذكرى انقلاب "البعث"

أ ف ب
أ ف ب
مقاتل منتمي إلى الإدارة السورية الجديدة يحمل رأس تمثال مقلوب لباسل الأسد، الابن الأكبر للرئيس السوري الراحل حافظ الأسد الذي قُتل في حادث سيارة عام 1994، داخل قاعدة الحرس الجمهوري السوري المهجورة بالقرب من دمشق في 4 يناير 2025

سوريا في "8 أذار"... كيف تلاشى "الحزب العملاق" بعد 62 سنة؟

للمرة الأولى منذ 62 سنة، يستيقظ السوريون في 8 مارس/آذار 2025 من دون "حزب البعث العربي الاشتراكي" (الحاكم) أو كما كانوا يسمونه زورا في الأناشيد المدرسية "الحزب العملاق". تغيب رايات "البعث" عن شوارع دمشق، في ذكرى كان البعثيون يسمونها بثورة "الثامن من آذار المجيدة"، في إشارة إلى الانقلاب العسكري الذي جاء بهم إلى السلطة في 8 مارس 1963. لقد أصبح حزبهم اليوم أمام محكمة التاريخ، بعد أن جمّد نشاطه في أعقاب فرار أمينهم العام، بشار الأسد، في الثامن من شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، وصدور قرار رسمي بحل "البعث" نهاية شهر يناير/كانون الثاني الماضي.

لم تذرف الدموع على حزب "البعث" الذي قبض على رقاب السوريين وأرزاقهم، لما يزيد على نصف قرن من الزمن، علما أن بدايته لم تكن بهذا السوء يوم تأسيسه، على يد ميشيل عفلق، وصلاح البيطار سنة 1947. وإذا عدنا إلى أدبيات التأسيس، نجد أن عفلق ورفاقه كانوا يسعون إلى إطلاق نهضة في الوطن العربي، وكانت لهم رؤية واضحة للمستقبل، حتى لو اختلفنا معها. سطروا مبادئ براقة على الورق، يدعون فيها إلى توحيد الوطن العربي وتحريره من السيطرة الأجنبية، مع إعادة توزيع الثروات، لكي يعم الخير على كل السوريين، ولكنهم قاموا بعد وصولهم إلى الحكم، بإفقار الأغنياء تشفيا وحقدا، بدلا من رفع سوية الفقراء، وبدلا من خلق مجتمع عادل، أسسوا لأغنياء جدد من البعثيين، فاقت ثرواتهم أضعافا مضاعفة، كل ثروات من كانوا يصفونهم من قبل بالإقطاع "العفن".

في البدايات ركّز "البعث" على التفوق الذاتي، ولكنه وبعد الوصول إلى الحكم، أعطى التفوق مجانا إلى كل الحزبيين، وصارت أفضل الوظائف وأرفعها لهم، ليس لأنهم جيدون بل لأنهم بعثيون. أحكم "البعث" قبضته على كل مفاصل الدولة السورية، فشهد عهده الطويل، إفساد المحاكم والمدارس والجامعات، وتطهير جهاز الإدارة في الدولة من المستقلين، أصبح الانتساب إلى الحزب فرضا، وكانت ترفع التقارير الأمنية في كل من يرفض ذلك، حتى من طلاب المدارس، ما أدى إلى ظهور وحش جائع في المجتمع السوري، استهلك موارده المادية والمعنوية، وأفقر السوريين وصادر إمكانياتهم، ودمر المجتمع الذي كان "البعث" قد وعد بتنميته وتطويره. على مدى ستة عقود ونيف، تماهى "البعث" مع الدولة السورية، وبسبب تفرده بالسلطة وغياب المنافسة والمساءلة، أصبح الحزب حاضنة للفساد على كل المستويات، وصار الانضمام إليه يعني شيئا واحدا فقط: الوصول إلى المكاسب. صار علم "البعث" يتقدم على علم الجمهورية السورية في المناسبات والأعياد الوطنية، وأصبحت ذكرى "ثورته" أعظم شأنا من الذكرى السنوية لعيد الجلاء الوطني عن الانتداب الفرنسي، في السابع عشر من شهر أبريل/نيسان.

شطب فصل من ماضي سوريا

دعونا ننظر إلى حالات مماثلة في تاريخ سوريا الحديث، حاول السوريون فيه شطب صفحة كاملة من ماضيهم القريب بهدف تجاوزها، كما حدث مع الرئيس هاشم الأتاسي يوم عودته إلى الحكم في أعقاب استقالة الرئيس أديب الشيشكلي سنة 1954. كان الأتاسي أحد الآباء المؤسسين للدولة السورية الحديثة، كان وطنيا غيورا مؤمنا بالديمقراطية والتعددية، وقد انتخب رئيسا مرتين، وأشرف على وضع دستور سوريا الأول سنة 1920، والثاني سنة 1928، والثالث سنة 1950. استقال من الرئاسة في أعقاب انقلاب الشيشكلي في 3 ديسمبر/كانون الأول سنة 1951، وعاد إليها بعد استقالة الأخير ليكمل ما تبقى من ولايته الدستورية. وبعد عودته إلى قصر الجمهورية، قرر الأتاسي شطب مرحلة الشيشكلي من الأذهان، فعلّق دستور الشيشكلي ومجلسه النيابي، وأعاد العمل ببرلمان عام 1949 ودستور عام 1950، مع إبطال معظم قرارات الشيشكلي. كانت المهمة سهلة نسبيا لأن الشيشكلي لم يحكم سوريا إلا لثلاث سنوات، منها سبعة أشهر فقط بصفة رئيس جمهورية، مع العلم أنه لم يستحق هذا العقاب، لأن عهده كان من أكثر العهود إصلاحا وتقدما وازدهارا من الناحية الاقتصادية.

لو أردنا استنساخ التجربة اليوم، ولو كان الرئيس القدسي حيّا، لعددناه الرئيس الشرعي لسوريا عشية هروب بشار الأسد، ولكن القدسي توفي سنة 1998، ومعه كل السياسيين السوريين من مرحلة ما قبل 8 مارس 1963

بعدها بسنوات، فكر القائمون على انقلاب الانفصال سنة 1961- المعروفون باسم شلّة الشّوام– فكروا جديا بدعوة شكري القوتلي، آخر رئيس قبل قيام الوحدة مع مصر، للعودة إلى الحكم، واعتبار أن عهد سلفه الرئيس جمال عبد الناصر لم يمر على سوريا. كان عبد الناصر قد أقام دولة بوليسية في سوريا، وشهد عهده صدور قرارات التأميم الظالمة بحق الصناعيين والمصرفيين والتجار السوريين، ولكن الرئيس القوتلي رفض هذا المقترح، وأصر على اعتزاله العمل السياسي فذهبت الرئاسة في ديسمبر 1961 إلى الدكتور ناظم القدسي، آخر رئيس سوري منتخب، قبل أن يطيح به انقلاب "البعث" سنة 1963. لو أردنا استنساخ التجربة اليوم، ولو كان الرئيس القدسي حيّا، لعددناه الرئيس الشرعي لسوريا عشية هروب بشار الأسد، ولكن القدسي توفي سنة 1998، ومعه كل السياسيين السوريين من مرحلة ما قبل 8 مارس 1963. حتى الأحزاب القائمة يومها، ماتت مع أصحابها، إلا "الحزب الشيوعي السوري" و"الحزب السوري القومي الاجتماعي" و"الإخوان المسلمون".

لغاية عام 1963 كان "حزب الشعب" ممثلا لمصالح مدينة حلب الاقتصادية والسياسية، ويسعى لإقامة وحدة مع العراق، بينما "الحزب الوطني" كان مدعوما من تجار دمشق، ومحسوبا على المحور السعودي المصري في الوطن العربي

"الإخوان" موجودون اليوم في الخارج بين لندن وإسطنبول، أما السوريون القوميون والشيوعيون، فقد حظرت أحزابهم بقرار واحد مع "البعث" في 29 يناير/كانون الثاني 2025. البعض يسعى اليوم لاستنهاض حزبي "الوطني" و"الشعب"، قطبي السياسة السورية في الخمسينات. ولغاية عام 1963 كان "حزب الشعب" ممثلا لمصالح مدينة حلب الاقتصادية والسياسية، ويسعى لإقامة وحدة مع العراق، بينما "الحزب الوطني" كان مدعوما من تجار دمشق، ومحسوبا على المحور السعودي المصري في الوطن العربي. وقد صودرت مكاتب الحزبين من قبل "البعث"، ونفي معظم أعضائهما إلى الخارج، واعتقلت قيادات الصف الأول، أو سمح لها بالبقاء في عزلة سياسية تامة داخل سوريا حتى الممات.

اليوم يحاول البعض فرض عزل سياسي مماثل، يكون إما على القياديين السابقين في "حزب البعث"، أو تحديدا على قادة المجموعات العسكرية والميليشيات الموالية للنظام السابق، مثل "كتائب البعث" و"كتائب الدفاع الوطني"، وغالبيتهم من أبناء الطائفة العلوية.

أ ف ب
صورة التقطت عام 1963 لأعضاء الحكومة المجتمعين قبل الانقلاب الذي قاده صلاح جديد بين 21 و23 فبراير 1966

في سنة 1963 عملت الدولة بشكل مزدوج، بين العزل المدني من جهة، وتأميم أملاك السياسيين القدامى، لجعلهم منزوعي المخالب، وغير قادرين على استنهاض قواهم مجددا، أما اليوم فتقوم الدولة بحملة مزدوجة أيضا: العزل المدني من جهة، ومصادرة أملاك العسكريين القدامى مع أسلحتهم من جهة أخرى. ولكن كمية السلاح الموجودة في يدي البعثيين العسكريين القدامى، كانت أكبر بكثير من المتوقع، ما أدى إلى انفجار الوضع الأمني في جبال العلويين، وقرى الساحل يوم 6 مارس قبل يومين من الذكرى السنوية الأولى لـ"ثورتهم" التي لن يحتفل بها أحد بعد اليوم.

استعادة الأملاك المصادرة

من الإنجازات المبكرة للثورة السورية اليوم، انتصارها في استعادة علم سوريا القديم، علم الاستقلال الذي غيّره "البعث" سنة 1964 وحاول بعد سنة 2011 تحقيره ووصفه بأنه "علم الانتداب" أو "علم المفوض السامي الفرنسي"، وهناك من يحاول اليوم إلغاء النشيد السوري بالطريقة ذاتها، باعتبار أن "حماة الديار" يمجد العسكر في شطره الأول، ولكن لا علاقة لـ"البعث" به، فقد وضع في ثلاثينات القرن العشرين، وهو من تأليف خليل مردم بك الملقب بشاعر الشام.

ومن الخطوات المهمة لعودة عقارب الساعة إلى الوراء كانت عشرات التجارب الناجحة لاستعادة الممتلكات المصادرة في العهد الاشتراكي، سواء في مرحلة عبد الناصر أو "البعث"، من أراض وعقارات وقصور وشركات وأبنية. القائمة تطول ومنها كل المؤسسات الاقتصادية المؤممة سنة 1961 أو في السنوات 1963- 1965، ومعها القصر الجمهوري القديم في منطقة المهاجرين (مُلك آل الإدلبي)، وقصر الروضة، ومنزل حافظ الأسد (مُلك الدكتور رشاد فرعون)، ومكتب نائب الرئيس السوري، الذي تعود ملكيته لخالد العظم، آخر رئيس وزراء في مرحلة ما قبل "البعث". وهناك أيضا منزل وزير الدفاع يوسف العظمة في منطقة المهاجرين (المصادر لصالح وزارة الدفاع)، ومنزل رئيس الجمهورية تاج الدين الحسني في منطقة الحلبوني (المصادر من قبل المخابرات العامة)، ومنزل عبد الرحمن باشا اليوسف في سوق ساروجا (المصادر من قبل وزارة الثقافة مؤخرا سنة 2017)، ومعهم القصر الصيفي للأمير عبد القادر الجزائري في منطقة دمّر، وقصر محمد فوزي باشا العظم، والد خالد العظم في ساروجا، المصادر لصالح وزارة الثقافة أيضا. إضافة للأبنية والمنازل، هناك عشرات المدارس المستولى عليها أيضا، والتي يجب أن تعود إلى أصحابها الأصليين، مثل مدرسة اللايك (معهد الحرية اليوم) ومدرسة الفرنسيسكان (مدرسة دار السلام) ومدرسة الفرير (الأخوة).

الكتب المدرسية في عهد "البعث" تحاملت على شخصيات تاريخية عربية معاصرة، مثل الملك حسين بن طلال، والزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، والرئيس المصري أنور السادات، الذي نال حصة الأسد من الشتائم والتخوين، لمجرد أن حافظ الأسد كان يكرهه

وعلى حكام سوريا الجدد نسف كل القوانين الاشتراكية في التشريع الاقتصادي ومناهج التعليم، وإعادة كتابة تاريخ سوريا في الكتب المدرسية الذي شوّهه "البعث" لإظهار أن حافظ الأسد هو "باني سوريا الحديثة". وقد شنت هذه الكتب حملة شعواء على العهد العثماني وسمته "احتلالا"، دون أن تطلق التسمية ذاتها على العهود المملوكية والفاطمية وغيرها، ووصفت جمال باشا (قائد الجيش العثماني الرابع) بأنه "سفاح" لأنه أعدم العشرات من السوريين في 21 أغسطس/آب 1915 و6 مايو/أيار1916. ولكن ماذا ستقول اليوم عن بشار الأسد، الذي قتل ما لا يقل عن نصف مليون سوري، ناهيك عن الآلاف الذين ماتوا أو فقدوا في سجونه وسجون والده منذ سنة 1970؟

إعادة كتابة التاريخ السوري المعاصر

الكتب المدرسية في عهد "البعث" تحاملت على شخصيات تاريخية عربية معاصرة، مثل رئيس وزراء العراق نوري باشا السعيد، الذي طالما وصفته بـ"عميل الإمبريالية والرجعية" وانسحبت العبارات ذاتها على الملك حسين بن طلال، والزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، والرئيس المصري أنور السادات، الذي نال حصة الأسد من الشتائم والتخوين، لمجرد أن حافظ الأسد كان يكرهه.

كما على هذه الكتب اليوم أن تعيد النظر في سردية حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 التي كاد فيها الجيش الإسرائيلي أن يصل إلى مدينة دمشق، ولكن الأسد الأب وصفها بأنها "تحريرية" وقال عن نفسه إنه "بطل التشرينين" (تشرين انقلابه العسكري سنة 1970 وتشرين الحرب سنة 1973).

المشهد الإعلامي قبل "البعث"

عندما وصل "البعث" إلى السلطة، كان في سوريا آنذاك 46 مطبوعة دورية، بين يومية وأسبوعية وشهرية، منعت كلها بقرار من مجلس قيادة الثورة سنة 1963. كانت هذه المطبوعات منوعة، تعالج المواضيع السياسية والثقافية والاقتصادية والفنية، وتعيش من الاشتراكات والإعلانات ودعم بعض الأحزاب، ولكن "البعث" ضاق صدره بها كلها، وأبقى للسوريين ثلاث صحف رسمية فقط، لا تختلف عن بعضها إلا في الاسم: "تشرين"، و"البعث"، و"الثورة".

أ ف ب
رجل سوري يحمل صورة الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد في السابع من أبريل خلال الاحتفالات في دمشق بمناسبة الذكرى الخمسين لتأسيس حزب "البعث" في سوريا

عندما وصل بشار الأسد إلى السلطة سنة 2000، حاول الصحافي والناشر السوري رياض الريّس، استعادة ترخيص جريدة أبيه الرائجة "القبس" ولكن البعثيين عاكسوا بشدة، ووضعوا العراقيل أمامه، فتخلّى عن المشروع، وتوفي في بيروت سنة 2020، دون أن يحقق حلمه. ومؤخرا، قام أولاد الصحافي الراحل عبد الغني العطري، بإعادة مجلته الشهيرة "الدنيا" التي قام "البعث" بإيقافها سنة 1963، ما قد يشكل حافزا لبقية العائلات الصحافية العريقة باستعادة مطبوعات آبائهم وأجدادهم، في حال توفرت لديهم الرغبة والقدرة المالية. وسيكون ذلك بمنزلة انتقام ناعم وجميل، خاصة أن المشهد الإعلامي السوري بحاجة إلى هذا التنوع سنة 2025.

العودة إلى 8 مارس 1920

ولعل خير ما يمكننا فعله اليوم، هو استعادة المعنى الحقيقي ليوم الثامن من مارس، الذي كان قبل أن يخطفه "البعث" عيدا وطنيا لكل السوريين، وهو اليوم الذي أعلن فيه استقلال سوريا عن الدولة العثمانية سنة 1920. في هذا اليوم، توج الأمير فيصل بن الحسين ملكا دستوريا على سوريا، ورفضت فيه دمشق وعد بلفور والانتداب الفرنسي. وقد ظل السوريون يحتفلون به بشكل سنوي ثم أضافوا إليه الاحتفال بعيد الجلاء سنة 1946، ليكون لديهم عيدا استقلال، في 8 مارس/آذار، و17 أبريل/نيسان. ثم جاء "البعث" ليجعل من عيد الجلاء مناسبة هامشية، ويصب كامل ثقله وأجهزته الأمنية والإعلامية على الاحتفال بعيد "ثورة الثامن من آذار المجيدة" فما علينا الآن إلا استعادة المعنى الحقيقي لهذا اليوم، باعتباره عيد استقلال سوريا الأول، وليس ذكرى انقلاب "البعث".

font change