للمرة الأولى منذ 62 سنة، يستيقظ السوريون في 8 مارس/آذار 2025 من دون "حزب البعث العربي الاشتراكي" (الحاكم) أو كما كانوا يسمونه زورا في الأناشيد المدرسية "الحزب العملاق". تغيب رايات "البعث" عن شوارع دمشق، في ذكرى كان البعثيون يسمونها بثورة "الثامن من آذار المجيدة"، في إشارة إلى الانقلاب العسكري الذي جاء بهم إلى السلطة في 8 مارس 1963. لقد أصبح حزبهم اليوم أمام محكمة التاريخ، بعد أن جمّد نشاطه في أعقاب فرار أمينهم العام، بشار الأسد، في الثامن من شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، وصدور قرار رسمي بحل "البعث" نهاية شهر يناير/كانون الثاني الماضي.
لم تذرف الدموع على حزب "البعث" الذي قبض على رقاب السوريين وأرزاقهم، لما يزيد على نصف قرن من الزمن، علما أن بدايته لم تكن بهذا السوء يوم تأسيسه، على يد ميشيل عفلق، وصلاح البيطار سنة 1947. وإذا عدنا إلى أدبيات التأسيس، نجد أن عفلق ورفاقه كانوا يسعون إلى إطلاق نهضة في الوطن العربي، وكانت لهم رؤية واضحة للمستقبل، حتى لو اختلفنا معها. سطروا مبادئ براقة على الورق، يدعون فيها إلى توحيد الوطن العربي وتحريره من السيطرة الأجنبية، مع إعادة توزيع الثروات، لكي يعم الخير على كل السوريين، ولكنهم قاموا بعد وصولهم إلى الحكم، بإفقار الأغنياء تشفيا وحقدا، بدلا من رفع سوية الفقراء، وبدلا من خلق مجتمع عادل، أسسوا لأغنياء جدد من البعثيين، فاقت ثرواتهم أضعافا مضاعفة، كل ثروات من كانوا يصفونهم من قبل بالإقطاع "العفن".
في البدايات ركّز "البعث" على التفوق الذاتي، ولكنه وبعد الوصول إلى الحكم، أعطى التفوق مجانا إلى كل الحزبيين، وصارت أفضل الوظائف وأرفعها لهم، ليس لأنهم جيدون بل لأنهم بعثيون. أحكم "البعث" قبضته على كل مفاصل الدولة السورية، فشهد عهده الطويل، إفساد المحاكم والمدارس والجامعات، وتطهير جهاز الإدارة في الدولة من المستقلين، أصبح الانتساب إلى الحزب فرضا، وكانت ترفع التقارير الأمنية في كل من يرفض ذلك، حتى من طلاب المدارس، ما أدى إلى ظهور وحش جائع في المجتمع السوري، استهلك موارده المادية والمعنوية، وأفقر السوريين وصادر إمكانياتهم، ودمر المجتمع الذي كان "البعث" قد وعد بتنميته وتطويره. على مدى ستة عقود ونيف، تماهى "البعث" مع الدولة السورية، وبسبب تفرده بالسلطة وغياب المنافسة والمساءلة، أصبح الحزب حاضنة للفساد على كل المستويات، وصار الانضمام إليه يعني شيئا واحدا فقط: الوصول إلى المكاسب. صار علم "البعث" يتقدم على علم الجمهورية السورية في المناسبات والأعياد الوطنية، وأصبحت ذكرى "ثورته" أعظم شأنا من الذكرى السنوية لعيد الجلاء الوطني عن الانتداب الفرنسي، في السابع عشر من شهر أبريل/نيسان.
شطب فصل من ماضي سوريا
دعونا ننظر إلى حالات مماثلة في تاريخ سوريا الحديث، حاول السوريون فيه شطب صفحة كاملة من ماضيهم القريب بهدف تجاوزها، كما حدث مع الرئيس هاشم الأتاسي يوم عودته إلى الحكم في أعقاب استقالة الرئيس أديب الشيشكلي سنة 1954. كان الأتاسي أحد الآباء المؤسسين للدولة السورية الحديثة، كان وطنيا غيورا مؤمنا بالديمقراطية والتعددية، وقد انتخب رئيسا مرتين، وأشرف على وضع دستور سوريا الأول سنة 1920، والثاني سنة 1928، والثالث سنة 1950. استقال من الرئاسة في أعقاب انقلاب الشيشكلي في 3 ديسمبر/كانون الأول سنة 1951، وعاد إليها بعد استقالة الأخير ليكمل ما تبقى من ولايته الدستورية. وبعد عودته إلى قصر الجمهورية، قرر الأتاسي شطب مرحلة الشيشكلي من الأذهان، فعلّق دستور الشيشكلي ومجلسه النيابي، وأعاد العمل ببرلمان عام 1949 ودستور عام 1950، مع إبطال معظم قرارات الشيشكلي. كانت المهمة سهلة نسبيا لأن الشيشكلي لم يحكم سوريا إلا لثلاث سنوات، منها سبعة أشهر فقط بصفة رئيس جمهورية، مع العلم أنه لم يستحق هذا العقاب، لأن عهده كان من أكثر العهود إصلاحا وتقدما وازدهارا من الناحية الاقتصادية.