طوال تاريخهم الكفاحي، وعلى امتداد ستة عقود، ظل الفلسطينيون يصارعون إسرائيل بعواطفهم وعنادهم وتضحياتهم، وضمن ذلك بمبالغتهم بقدراتهم ("شعب الجبارين")، أكثر من أي شيء آخر، وشعارهم: "ع القدس رايحين شهدا بالملايين"، أو "إنه جهاد فإما نصر أو استشهاد"، بيد أن كل ذلك لم يوصلهم إلى شيء، بقراءة موضوعية تتفحص تجربتهم المديدة والمريرة والمكلفة، في الخارج والداخل، في الأردن، مرورا بلبنان، وصولا إلى الضفة وغزة.
لا علاقة لهذا الكلام بالمفاضلة بين النضال السلمي/الشعبي والنضال المسلح/الفصائلي، ولا بشرعية هذا الشكل أو ذاك، فمن البديهي أن حقوق الشعب الفلسطيني، الفردية والجمعية، المدنية والوطنية، لن تتحقق بالحوار، أو بالمظاهرات، أو بالبيانات، أو المناشدات، بحكم طبيعة إسرائيل، كدولة استعمارية واستيطانية وعنصرية، مصطنعة، وساذج من يعتقد بذلك.
بيد أن تلك البديهية الساطعة لا تعني وضع الشعب الفلسطيني في "بوز المدفع"، أو حصر المقاومة بالكفاح المسلح، في كل زمان أو مكان، وبمعزل عن كلفتها البشرية والسياسية والمادية والمعنوية، وعن ملاءمة الظروف والمعطيات الداخلية والخارجية لها من عدمه. كما لا تعني حصر الكفاح المسلح بعمليات انتحارية، أو قصف صاروخي، أو بعملية مثل "طوفان الأقصى"، التي أقر موسى أبو مرزوق، مؤخرا، وهو من أبرز قياديي "حماس"، بأنه لو كان يعلم بتداعيات تلك العملية على شعبنا لما أيدها، ما يذكّر بكلام مماثل لحسن نصرالله، بعد رؤيته للتداعيات الكارثية التي نجمت، في حينه، عن حرب إسرائيل ضد لبنان (2006).
القصد مما تقدم لفت الانتباه إلى أن الحركة الوطنية الفلسطينية تفتقد، من الأصل، لاستراتيجية كفاحية، أو عسكرية، توضح بها لذاتها ولشعبها، كيفية مصارعة إسرائيل، تاركة ذلك للتجريب والعفوية والمزاجية، وللتوظيفات السياسية الفصائلية والإقليمية.
المشكلة أيضا أن فصائل تلك الحركة تعودت على الشعارات، ولم تتعود على دراسة خياراتها السياسية أو الكفاحية جيدا، ولا على مراجعة تجربتها بطريقة نقدية ومسؤولة، وأنها تنأى بقياداتها عن المساءلة والمحاسبة، رغم كل الإخفاقات التي تكبدتها، طوال العقود الستة الماضية، وهي تستمد التجرؤ على إقحام شعبها في مغامرات غير محسوبة، وتدفيعه كلفة خيارات ومخاطر لا رأي له فيها أصلا، من إيمان الشعب بقضيته، واستعداده للتضحية، ومن إضفاء قدسية على العمل المسلح، بوضعه خارج المساءلة، بغض النظر عن تبعاته وإخفاقاته.
مناسبة هذا الكلام أن الشعب الفلسطيني يواجه اليوم وضعا غير مسبوق بصعوبته، يستهدف وجوده، واقتلاعه من أرضه، في ظل انهيار الخيار العسكري عربيا، على الصعيد الدولتي، وعلى صعيد الفصائل، إذ لم يعد ثمة جبهة شرقية، حتى ولو كانت شكلية أو كلامية، ولم يعد ثمة مقاومة من أي جبهة محيطة بإسرائيل، أو بعيدة عنها.
أولى أبجديات المقاومة هي وجود الشعب الفلسطيني وصموده في أرضه، إذ لا مقاومة من دون الشعب، سواء كان اسمها "حماس" أو "فتح" أو أي اسم آخر، والعكس غير صحيح طبعا
مثلا، لنلاحظ المفارقة المتمثلة بأن إسرائيل هي التي فعلت "وحدة الساحات"، و"بيت العنكبوت" و"زلزلة الأرض"، بطريقتها، بتقويضها كل القوى التي ترى فيها خطرا عليها، بغض النظر عن وظيفة هذا الطرف أو ذاك، بل وزادت، ليس بفرض مناطق عازلة فقط، وإنما بفرض مناطق تحظر فيها وجود أي قوة عسكرية قريبة، كما يحصل في غزة ولبنان وسوريا.
وتتمتع إسرائيل، في كل ما تقوله وتفعله، بقوة مضافة من الولايات المتحدة، في ظل إدارة ترمب، التي تتوعد قطاع غزة بالجحيم، والتي تتوخى تهجير فلسطينيي غزة، ومحو القطاع من المعادلة الوطنية الفلسطينية، وتحويله إلى مجرد عقار للسياحة، والاستثمار.
في الغضون، لنلاحظ أن إدراكات قيادة "حماس" لما يجري ما زالت قاصرة عن رؤية كل تلك المخاطر، إذ يتركز همها، كما يظهر، في الحفاظ على وجودها في غزة، وهيمنتها فيها، بشكل مباشر أو غير مباشر، كأن وجودها أهم من وجود الشعب الفلسطيني في أرضه، أو كأن سلاحها، أهم من تمكين فلسطينيي غزة من البقاء والصمود في أرضهم، كأن ثمة مقاومة دون وجود شعب، أو مع شعب بالكاد يحصّل لقمته، في حين أن أولى أبجديات المقاومة هي وجود الشعب الفلسطيني وصموده في أرضه، إذ لا مقاومة من دون الشعب، سواء كان اسمها "حماس" أو "فتح" أو أي اسم آخر، والعكس غير صحيح طبعا.
على أية حال فإن مراجعة التجربة الوطنية الفلسطينية تعني تحميل "فتح" مسؤولية التراجعات والإخفاقات الحاصلة، السياسية والكفاحية، في الأردن ولبنان والأرض المحتلة، في المنظمة والسلطة، وذلك يعني تحميل "حماس"، أيضا، مسؤولية ما حصل في قطاع غزة منذ تحولها إلى سلطة أحادية فيه (2007)، أي قبل 18 عاما، بتحميلها القطاع أكثر مما يحتمل، وهو ما استغلته إسرائيل كفرصة سانحة لها، بفرضها الحصار على غزة، وشنها حربا مدمرة، واحدة تلو الأخرى عليها، وصولا إلى حرب الإبادة التي تسببت بكارثة لأكثر من مليوني فلسطيني، والتي انتهزتها إسرائيل لتشديد هيمنتها على الفلسطينيين من النهر إلى البحر، مع التغول في لبنان وسوريا، مستغلة الظروف الإقليمية والدولية المواتية لها.
الأولوية اليوم، ليست لمصير "فتح" أو "حماس" أو "السلطة" أو "المنظمة"، فهذه كيانات سياسية تأتي وتذهب ويأتي غيرها، وإنما هي لبقاء الشعب الفلسطيني في أرضه، في الضفة وغزة والقدس و48
الآن، بديهي أن إسرائيل هي المسؤولة عن التداعيات الناجمة عن حرب الإبادة الجماعية، مدعومة من الولايات المتحدة، سياسيا وعسكريا وماليا وتقنيا، لكن ذلك لا يعفي "حماس" من مسؤوليتها عن خطأ خياراتها، وضمنه شن حرب على طريقة جيش لجيش، وصاروخ لصاروخ، بعيدا عن استراتيجية المقاومة طويلة الأمد، وذلك وفقا لإدراكات أو توهمات خاطئة، سواء استمدتها من عقليات قدرية، عن يوم الوعد، ومشاركة الملائكة، أو استمدتها من مراهنات سياسية في غير محلها، عن "وحدة الساحات"، والقدرة على "زلزلة إسرائيل"، التي هي "أوهن من بيت العنكبوت"، في غضون دقائق أو أيام.
أيضا، لا يعفي "حماس" من كونها لم تفكر، منذ البداية، باستراتيجية خروج، أو تراجع، من الفخ، الذي وقعت، وأوقعت فيه الشعب الفلسطيني، بتصرفها وكأنها باتت قوة عظمى (مثل "حزب الله")، أو تستند إلى دولة هي بمثابة قوة عظمى، وهو ما تبين في مختبر التجربة المرة والمكلفة، عن مراهنات خاطئة، مع تداعيات جد خطيرة على الشعب الفلسطيني، ليس في قضيته، وحقوقه فحسب، وإنما بوجوده على أرضه، وهو أس المقاومة أصلا.
على ذلك، فإن مشكلة "حماس"، في هذا الظرف العربي والدولي والإسرائيلي والفلسطيني غير المواتي، اتخاذ القرارات الوطنية المناسبة والمسؤولة، التي تفوّت على إسرائيل شهيتها وتوحشها لاستئناف الحرب المدمرة، المتضمنة محاولة تجويع وتركيع فلسطينيي غزة، وأيضا التي تجنبهم مخططات "الترانسفير"، بأشكالها الإسرائيلية والأميركية.
في كل الأحوال، فإن الأولوية اليوم، ليست لمصير "فتح" أو "حماس" أو "السلطة" أو "المنظمة"، فهذه كيانات سياسية تأتي وتذهب ويأتي غيرها، وإنما هي لبقاء الشعب الفلسطيني في أرضه، في الضفة وغزة والقدس و48، وبناء البيت الوطني الفلسطيني، وكل ما عدا ذلك، وضمنه المقاومة، فسيأتي فيما بعد، على هذين الأساسين.