اشتعال الأوضاع في جنوب السودان... هل تغلب أصوات الحكمة؟

نموذج لأمة تسعى للخروج من ماضي الصراعات

أ ب
أ ب
أطفال يلعبون على بقايا دبابة، في ميناء النهر في الرنك، جنوب السودان، 17 مايو 2023

اشتعال الأوضاع في جنوب السودان... هل تغلب أصوات الحكمة؟

يبدو أن للسودانيين نصيبا وافرا من سوء الحظ في أوطانهم، فالتوترات لا تهدأ حتى تشتعل نيرانها من جديد. في السودان، لا يزال النزاع المسلح مستعرا بين قوات الجيش وميليشيا "قوات الدعم السريع"، والذي تسبب، فيما تم الاصطلاح عليه، بأنه أكبر كارثة إنسانية في عصرنا الحديث. أما جنوب السودان، ذلك البلد الذي أنهكته الهشاشة السياسية والصراعات الداخلية، فقد بدأت منذ أواخر فبراير/شباط 2025 نذر حرب أخرى تلقي بظلالها الثقيلة، كأنما القدر يأبى أن يمنح بلدَي السودانيين سيِّئي الحظ فرصة لالتقاط أنفاسهم. يزيد من خطورة الوضع، وجود تقارير متعددة، تشير إلى انخراط مقاتلين من جنوب السودان في صفوف ميليشيا "قوات الدعم السريع" في السودان، وهي ميليشيا تستثمر في صناعة الفوضى، لتعزيز وضعها، ونهب الثروات والموارد، وحصد النفوذ السياسي، مما يجعل مجرد التفكير في انخراطها في الصراع هناك، نذيرا بسيناريوهات كارثية.

تصاعدت الأزمة الأمنية في جنوب السودان، التي أصبحت أحدث دولة مستقلة في العالم عام 2011، بمعدلات سريعة. ففي نهاية فبراير 2025، شهدت ولايتا غرب الاستوائية، وأعالي النيل، وبالأخص مدينة ناصر في ولاية أعالي النيل، اشتباكات عنيفة بين قوات الدفاع الشعبي لجنوب السودان- الجيش الرسمي للدولة، ومجموعات مسلحة تنتمي لإثنية النوير، وتتم تسميتها بشكل فضفاض باسم "الجيش الأبيض".

تم التوصل إلى اتفاق سلام بين سلفا كير ورياك مشار في 2015، لكنه انهار سريعا في 2016، ثم جاء اتفاق السلام المنقح في 2018 لتشكل حكومة الوحدة الوطنية الحالية، بتولي كير منصب الرئيس، ومشار منصب نائب الرئيس

لم تقتصر هذه المواجهات على أسلحة خفيفة، بل شملت استخدام مدافع هاون ورشاشات ثقيلة، ما أدى إلى سقوط عدد مقدر من الضحايا المدنيين، وتدمير الممتلكات ونزوح آلاف الأسر. هذه الاشتباكات لم تكن حدثا معزولا، بل تعكس استمرارية أنماط العنف المرتبطة بالصراعات المحلية والتوترات السياسية، فاستعراض المسار التاريخي لجنوب السودان، يكشف عن البذور التاريخية لهذه الصراعات.

بدأت رحلة استقلال جنوب السودان، بتوقيع "اتفاقية السلام الشامل" في2005 بين حكومة السودان و"حركة التحرير الشعبية السودانية"، والتي أنهت الحرب الأهلية في جنوب السودان، والتي كانت الأطول على الإطلاق في تاريخ الحروب الأفريقية. وتوجت "اتفاقية السلام الشامل" بإعلان استقلال جنوب السودان في2011 بعد استفتاء أيدته أغلبية ساحقة بنسبة 98.83 في المئة لصالح خيار الانفصال. لكن الاستقرار لم يتحقق في جمهورية جنوب السودان الوليدة، فقد اندلعت الحرب الأهلية بين رئيس جنوب السودان سلفا كير ميارديت، الذي ينتمي إلى قبيلة الدينكا، ونائبه رياك مشار، الذي ينتمي إلى قبيلة النوير، في ديسمبر/كانون الأول 2013 على أثر اتهامات كير لنائبه مشار بالتخطيط للانقلاب عليه. وتقسمت البلاد على أسس عرقية بين الدينكا والنوير، مخلفة آلاف القتلى وملايين النازحين.

أ ب
رئيس جنوب السودان سلفا كير (يمين) ونائب الرئيس ريك مشار (يسار) يحضران القداس الذي قاده البابا فرانسيس في ضريح جون قرنق في جوبا، جنوب السودان، الأحد 5 فبراير 2023

وتم التوصل إلى اتفاق سلام بين كير ومشار في 2015، لكنه انهار سريعا في 2016، ثم جاء اتفاق السلام المنقح في 2018 لتشكل حكومة الوحدة الوطنية الحالية، التي تم تكوينها في فبراير 2020، مع تولي كير منصب الرئيس، ومشار منصب نائب الرئيس. لكن بنود "اتفاقية السلام" بقيت بمعظمها غير مطبقة، بسبب عدم وجود تفاهمات بين الطرفين.

 وفي 2022، وبوساطة سودانية، تم تمديد الاتفاق لعامين إضافيين لاستكمال الإصلاحات، وأبرزها توحيد المجموعات العسكرية تحت إمرة الجيش، وتشكيل قيادة موحدة للقوات المسلحة الجنوب سودانية، ونص الاتفاق على تخصيص 60 في المئة من المناصب القيادية في الجيش، والشرطة وقوات الأمن الوطني لمعسكر الرئيس سلفا كير، و40 في المئة لمعسكر مشار.

تعرض منزل نائب الرئيس رياك مشار لحصار أمني يعكس استمرار التوترات بينه وبين الرئيس سلفا كير، ويكشف الخلفية السياسية للأزمة الأمنية

لكن العنف المتقطع استمر، مما يجعل الأزمة الحالية امتدادا لتاريخ طويل من عدم الاستقرار. ولكن بعد اندلاع الصراع أخيرا في ولاية غرب الاستوائية، وأعالي النيل، شهدت العاصمة جوبا الدراما السياسية الخاصة بها. ففي يوم الثلاثاء 4 مارس/آذار 2025، تم اعتقال الجنرال غابريال دوب لام، نائب رئيس هيئة الأركان في جيش جنوب السودان. وغابريال قائد عسكري بارز من مجموعة نائب الرئيس رياك مشار المعروفة باسم "الحركة الشعبية لتحرير السودان المعارضة" (SPLA-IO) والتي أصدرت بدورها بيانا اعتبرت فيه هذا الاعتقال خرقا لـ"اتفاقية السلام". وأيضا في مساء الثلاثاء، تم اعتقال وزير البترول بوث كانج تشول والكثير من أعضاء "الحركة الشعبية لتحرير السودان المعارضة"، وآخرين في منازلهم، وعززت هذه الخطوة الانقسامات في حكومة الوحدة الوطنية الهشة أصلا.

كما تعرض منزل نائب الرئيس رياك مشار لحصار أمني، وهو ما يعكس استمرار التوترات بينه وبين الرئيس سلفا كير، ويكشف الخلفية السياسية للأزمة الأمنية التي اندلعت حول مدينة ناصر في أواخر فبراير الماضي. وجاء هذا التصعيد بعد أن ظهرت بوادر لجهود تهدئة تجلت في لقاء عقد يوم الاثنين 3 مارس 2025 بين الرئيس سلفا كير، ونائب الرئيس رياك مشار، بمشاركة قادة الأطراف الموقعة على "اتفاق السلام المنقح" لعام2018. وركز هذا اللقاء على أهمية وضع مصلحة البلاد فوق الاعتبارات الشخصية، وتجنب الانزلاق مجددا إلى الحرب، خاصة بعد الاضطرابات الأخيرة، في ولايتي أعالي النيل وغرب الاستوائية. دعم هذه الجهود وزير البترول بوث كانج، الذي ينتمي إلى تيار مشار، الذي وجه نداء إلى سكان أعالي النيل، للتعاون مع الجيش في نزع أسلحة المجموعات المسلحة.

ورغم المخاطر المرتبطة بهذا النهج، فإنه يشير إلى وجود إرادة لدى بعض القادة لاستعادة الاستقرار عبر الحوار والتفاهم بدلا من الصدام العسكري. ولكن إعلان ميليشيا "الجيش الأبيض" سيطرتها على مدينة ناصر في ولاية غرب الاستوائية، وطرد قوات الجيش الحكومي منها في يوم 5 مارس سيعقد الأوضاع أكثر.

ولم تتمكن بعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام في جنوب السودان (UNMISS) من تجنب تداعيات هذا التصعيد، حيث أصيب أحد جنودها جراء قصف قريب من قاعدة تابعة لها، مما دفع البعثة إلى إصدار بيان يدعو إلى ضبط النفس وحماية المدنيين. يعكس هذا الحادث التحديات التي تواجه القوات الدولية في ظل بيئة أمنية متدهورة، حيث تظل قدرتها على الحد من العنف محدودة أمام تفاقم الأزمة.

استمرار تفاقم الأوضاع الأمنية في جنوب السودان، قد يصبح عاملا مغريا لبعض الجهات الإقليمية للتدخل في الصراع، خصوصا في ظل تحولات الحرب السودانية، والتي أصبحت مسرحا لتدويل متزايد

وكانت بعثة الأمم المتحدة في جنوب السودان (UNMISS) قد تأسست بقرار مجلس الأمن رقم 1996 في 8 يوليو/تموز 2011، بهدف تعزيز السلام والأمن، ومساعدة الحكومة على حماية المدنيين وبناء الدولة. وتتضمن مهامها الأساسية حماية المدنيين، ومراقبة حقوق الإنسان، ودعم تقديم المساعدات الإنسانية، وتعزيز تنفيذ اتفاقيات السلام.

في ظل الأزمة الحالية، لعبت البعثة دورا بارزا في توفير ملاذات آمنة للنازحين، حيث تستضيف مواقعها الآن، عشرات الآلاف من المدنيين الفارين من العنف، كما تسعى إلى التوسط بين الأطراف لتخفيف التوترات. ويقود البعثة حاليا الممثل الخاص للأمين العام، نيكولاس فينك هايسوم، وهو محامٍ ودبلوماسي جنوب أفريقي، تولى المنصب في يناير/كانون الثاني2021 خلفا لديفيد شيرر. ويمتلك هايسوم خبرة واسعة في الشؤون السياسية والقانونية، حيث شغل مناصب عليا في جنوب أفريقيا، بما في ذلك منصب المستشار القانوني لنيلسون مانديلا، كما شارك في مفاوضات إنهاء الفصل العنصري، ممثلا لمانديلا عندما كان لا يزال في سجنه. أما القيادة العسكرية للبعثة، فيتولاها الجنرال الهندي موهان سوبرامانيان، الذي يدير قوة تضم حوالي 14222 جنديا من أكثر من 73 دولة، إلى جانب 1446 من أفراد الشرطة و2228 موظفا مدنيا حتى مارس 2021، ويتمتع سوبرامانيان بخبرة عسكرية طويلة في عمليات حفظ السلام.

جنود يقفون في موقعهم بالقرب من نزارا، جنوب السودان، 15 فبراير 2025

ولا تزال الأيادي الخارجية بعيدة عن الصراع في جنوب السودان، والذي يبقى حتى الآن نزاعا محليا داخليا. لكن استمرار تفاقم الأوضاع الأمنية، قد يصبح عاملا مغريا لبعض الجهات الإقليمية للتدخل في الصراع، خصوصا في ظل تحولات الحرب السودانية، والتي أصبحت مسرحا لتدويل متزايد، وتدخلات خارجية تفاقم من حدة الصراع.

تقف جمهورية جنوب السودان اليوم أمام مفترق طرق مصيري. ويمثل لقاء 3 مارس نقطة تحول محتملة، حيث يظهر استعداد القادة للحوار بدلا من التصعيد، لكن التحديات لا تزال هائلة، خصوصا أن التصعيد الذي تلاه، يكشف عن جهات ترغب في تأزيم الأوضاع بالدفع نحو مواجهة عسكرية شاملة. وتشمل هذه التحديات التوترات العرقية المستمرة، والأزمة الإنسانية الناتجة عن نزوح أكثر من مليوني شخص داخليا، فضلا عن وجود مجموعات مسلحة، ترفض نزع سلاحها. كما أن غياب جيش وطني موحد، وضعف المؤسسات الحكومية، يعيقان أي تقدم ملموس.

تظل دولة جنوب السودان نموذجا لأمة تسعى للخروج من ماضي الصراعات، نحو أمل هش في الاستقرار

لتحقيق السلام المستدام، يتطلب الأمر خطوات عملية تشمل إجراء انتخابات نزيهة- والتي تم تأجيلها مرارا منذ الاستقلال في 2011- وإنشاء آليات عدالة انتقالية، كما نص عليه اتفاق 2018، وبناء ثقة بين المجتمعات المحلية.

وفي ظل التهديد الإقليمي الناجم عن الصراع في السودان، وخصوصا انخراط بعض المجموعات المقاتلة مع ميليشيا "قوات الدعم السريع" التي تطمح لنفوذ إقليمي، يتجاوز حدود السودان، يصبح الحفاظ على استقرار جنوب السودان ضرورة استراتيجية. فامتداد الفوضى قد يحول البلدين إلى ملاذ للجماعات المسلحة العابرة للحدود، مما يزيد من تعقيد الوضع في القرن الأفريقي. وبالتالي، فإن نجاح جهود التهدئة الحالية، قد يحدد ما إذا كانت البلاد قادرة على تجاوز أزمتها، أم إنها ستظل رهينة لدوامة العنف.

وتظل جنوب السودان نموذجا لأمة تسعى للخروج من ماضي الصراعات، نحو أمل هش في الاستقرار. إن دور الأمم المتحدة، إلى جانب التزام القادة المحليين، يشكلان محورين أساسيين في هذا المسعى. مع ذلك، فإن تحقيق السلام، يتطلب تضافر الجهود الداخلية والدعم الدولي، لمواجهة التحديات المتعددة الأوجه، خصوصا مع الأوضاع المتفجرة في جارها الشمالي السودان، مما يجعل هذه المرحلة من تاريخ البلاد حاسمة وجديرة بالمتابعة الدقيقة.

font change