إعادة الإعمار وشروطه... من سوريا إلى غزة ولبنان

تكلفة ضخمة للبناء وتأهيل المؤسسات وسعي لترسيخ استقرار إقليمي مستدام

لينا جرادات
لينا جرادات

إعادة الإعمار وشروطه... من سوريا إلى غزة ولبنان

يصعب تصديق أن وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني كان حتى وقت قريب عضوا محوريا في إحدى أكبر الميليشيات المسلحة الناشطة في سوريا – التي يُنظَر إليها في الغرب كتنظيم إرهابي – أصبح اليوم شخصية ديبلوماسية رفيعة المستوى.

خلال الشهرين المنصرمين بعد تعيينه في منصبه عقب انهيار نظام بشار الأسد، ترأّس الشيباني وفود رسمية عدة في جولات ديبلوماسية إقليمية علنية وأخرى اتسمت بالكتمان.

فهنا نراه في منتدى دافوس الاقتصادي العالمي في ندوة حوارية مع رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير، وفي القمة العالمية للحكومات التي أُقِيمت في دبي. إلا أن ظهوراً غير معلن في المملكة العربية السعودية قد يكون له الأثر الأبرز على سوريا والمنطقة.

في 16 فبراير/شباط، سافر الشيباني إلى العلا، حيث انخرط لساعات في اجتماع مغلق داخل قاعة المرايا – أكبر مبنى مطوّق بالمرايا في العالم – حضره وزراء مالية دول الخليج إلى جانب مسؤولين بارزين من صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، وصناديق تنموية عربية كبرى.

كان جدول الأعمال يتركز على بند واحد حاسم: المساعدة في إعادة بناء الاقتصادات التي دمرتها الحروب في المنطقة. في أعقاب هذا الاجتماع، أعلنت المملكة العربية السعودية وصندوق النقد أن المشاركين اتفقوا على خطة واسعة لإعادة بناء تلك الاقتصادات، مع تركيز خاص على سوريا. تبدأ الخطة بمسح دقيق للأضرار، وإعادة بناء المؤسسات الحكومية، وتخصيص الأموال اللازمة.

دور سوريا الحيوي

بإطاحة الأسد، أصبحت سوريا محورا في مسعى طموح لتحقيق الاستقرار في منطقة كانت حتى وقت قريب خاضعة للنفوذ الإيراني. وبينما يُدرَج لبنان وقطاع غزة من ضمن هذه الخطة، فإن التحول السياسي في سوريا يجعل البلاد نقطة انطلاق واعدة. خاصة بعد تطمينات الحكومة الموقتة، برئاسة الرئيس أحمد الشرع، الداعمين المحتملين بالتأكيد على أن سوريا لن تستضيف بعد الآن إسلاميين متطرفين أو "مستشارين" إيرانيين.

إطاحة الأسد أدرجت سوريا في قلب مسعى طموح لتحقيق الاستقرار في منطقة مضطربة كانت حتى وقت قريب خاضعة للنفوذ الإيراني

كما أعرب مسؤولون التقوا بالشيباني عن إعجابهم بإلمامه بتفاصيل الطلبات السورية لإعادة بناء الاقتصاد في هذه المرحلة، والتي تشمل رفع العقوبات وإعادة بناء المؤسسات الحكومية الرئيسة مثل المصرف المركزي.

وفي حدث نظمته "إس. آر. إم. جي. ثينك" في لندن، قال الأمير خالد بن بندر آل سعود، سفير المملكة العربية السعودية لدى المملكة المتحدة: "تسعى الحكومة السورية جاهدة للتواصل معنا، لن نقول "لا" لذلك. نحاول حيثما نستطيع المساعدة وإشراك الجميع. وكلما أسرعنا في الوصول إلى سوريا جديدة، زادت فرصنا في توجيهها نحو مسار إيجابي يعود بالنفع على الجميع".

أ.ف.ب.
رجل ينظر إلى ركام المباني المدمرة في مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين، جنوب دمشق، 22 ديسمبر 2024

يعكس هذا النهج السعودي في تنسيق الدعم العربي والدولي اعتقادا بأن المساعدات لا تُعَد عملا خيريا فحسب، بل ضرورة استراتيجية لمنع تكرار الاضطرابات في المستقبل. وهو ما يعني أيضاً أنها يجب أن تترافق مع إصلاحات هيكلية حقيقية لتفادي تكرار الأزمات.

إعادة الإعمار مهمة جسيمة

ليس من السهل تجاوز آثار الدمار. فالحرب الأهلية في سوريا شوهت اقتصاد البلاد ودمرت مؤسسات الدولة، بينما يواجه لبنان أزمة اقتصادية أعمق، وتحولت غزة إلى خراب. وفي ظل هذه الظروف، يبدو الطريق نحو إقامة دولة فلسطينية بعيد المنال أكثر من أي وقت مضى.

ما يزيد صعوبة المهمة هو غياب الأمثلة الناجحة في المنطقة، فبعد أكثر من عقدين على الغزو الأميركي للعراق، لا يزال اقتصاد البلاد يعاني، ولا تزال الميليشيات المدعومة من إيران قوة مؤثرة. وفي لبنان، اعتمدت محاولات إعادة الإعمار بعد الحرب الأهلية (1975-1990) على قروض غير مستدامة زادت تعقيد التحديات.

يعكس النهج السعودي في تنسيق الدعم العربي والدولي بأن المساعدات لا تُعَد عملاً خيرياً فحسب، بل ضرورة استراتيجية لمنع تكرار الاضطرابات في المستقبل، وهو ما يعني أيضاً أنها يجب أن تترافق مع إصلاحات هيكلية 

من جهة أخرى، يثير دور الرئيس الأميركي دونالد ترمب قلق الحلفاء. قد ينسب إلى نفسه بعض الفضل في إنهاء النزاعات في غزة ولبنان، لكن "تقلبه المتوقع" يثير المخاوف، ولا سيما في ضوء اقتراحه الخيالي بتملك غزة وطرد سكانها. ووصف أحد المطلعين في الخليج تدخل ترمب بأنه يشبه "شفط الهواء من غرفة". هو يتحدى القوى العربية أن تضع مقترحاتها الخاصة في شأن قطاع غزة وسكانه، وهو ما شكل محور القمة الطارئة التي عقدت في القاهرة.

في الوقت نفسه، تسارعت جهود المشاركة الإقليمية والدولية مع سوريا ولبنان، مدفوعة بالإحساس الملحّ بأن ثمن عدم التحرك قد يكون باهظا، ولا سيما مع حديث الولايات المتحدة وإسرائيل عن تهجير الفلسطينيين إلى مصر والأردن.

ففي سوريا، بدأت قوى أجنبية بالتدخل بالفعل. تحاول تركيا الحلول محل إيران كطرف فاعل رئيس، لأسباب ليس أقلها التخلص من الميليشيات الكردية المسلحة في الشمال، بينما تستغل إسرائيل الفوضى لاحتلال مزيد من الأراضي السورية من دون معارضة.

كيف يمكن إعادة بناء اقتصاد سوريا؟

لا يزال السؤال حول كيفية إعادة بناء اقتصاد سوريا معلّقا. منذ عام 2011، تقلص الاقتصاد بنسبة 85 في المئة، وتشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن تسعة من كل 10 سوريين يعيشون في فقر، مع ارتفاع حاد في معدلات التضخم ونقص في الكهرباء يصل إلى أقل من ثلاث ساعات يوميا.

أ.ف.ب.

يعلق المحلل الجيوسياسي هاني صبرة، مؤسس شركة "ألف للاستشارات" في نيويورك، قائلا: "ما حدث في سوريا هو انهيار حرفي للنظام. لا هياكل قائمة حتى لتحديد الآفاق البعيدة المدى". ويخطط صندوق النقد لإرسال فريق لتقييم احتياجات سوريا، ويُنظَر إلى رفع العقوبات الدولية التي فُرِضت خلال عهد الأسد كخطوة رئيسة نحو تحرير الأموال المخصصة للمساعدات. ومع ذلك، ستأتي المساعدات الخليجية مصحوبة بتوقعات صارمة تشمل إعادة بناء المؤسسات الحكومية، ومكافحة الفساد، وصرف الأموال بكفاءة. وفي هذا السياق، قال الأمير خالد: "سنقوم بذلك بطريقة مدروسة. في مقابل كل مساعدة نقدمها، نرغب في رؤية تغيير إيجابي".

إعمار لبنان والهيكل السياسي الطائفي

يمثل لبنان حالة أكثر تعقيدا مقارنة بجارته الأكبر، ويرجع ذلك جزئيا إلى الهيكل السياسي الطائفي الذي قوض الدولة لعقود. إضافة إلى ذلك، يشكل رفض إسرائيل الانسحاب الكامل من جنوب لبنان عاملا قد يعيق سعي الرئيس اللبناني والحكومة الجديدة لفرض سلطة الدولة. ويحذر محللون من أن استمرار الاحتلال الإسرائيلي قد يستخدمه "حزب الله" كأداة لتجنيد أنصار وتعزيز قوته.

قدر البنك الدولي التكلفة الأولية للقصف الإسرائيلي للبنان والأضرار الناجمة عنه بنحو 8,5 مليارات دولار، منها أضرار مادية بقيمة 3,4 مليارات دولار وخسائر اقتصادية تُقدَّر بـ5,1 مليارات دولار.

وقدر البنك الدولي التكلفة الأولية للقصف الإسرائيلي للبنان والأضرار الناجمة عنه بنحو 8,5 مليارات دولار، منها أضرار مادية بقيمة 3,4 مليارات دولار وخسائر اقتصادية تُقدَّر بـ5,1 مليارات دولار.

وكان لبنان بالفعل في حالة يرثى لها بسبب تخلفه عن تسديد ديونه منذ عام 2020، مما شكل ضربة قوية لعملته وقطاعه المصرفي. ولا تزال خطة إنقاذية بقيمة ثلاثة مليارات دولار، عرضها صندوق النقد، معلّقة بسبب فشل لبنان في تطبيق إصلاحات غير شعبية لكنها ضرورية لاستعادة الثقة.

وفي خطوة اعتُبِرت دفعة مهمة للإصلاح، جاء انتخاب قائد الجيش جوزف عون رئيسا للدولة وعُيِّن القاضي الدولي البارز نواف سلام رئيسا للوزراء، إلا أن المصالح السياسية والمالية الراسخة لا تزال عقبة أمام إجراء الإصلاحات الجذرية.

أ.ف.ب.
نموذج من الدمار في ضاحية بيروت الجنوبية، 6 أكتوبر 2024

ومن بين التحديات الأساسية إعادة هيكلة النظام المصرفي اللبناني، إذ يرفض مصرفيون لبنانيون مؤثرون شروط صندوق النقد، معتبرين أنها قد تؤدي إلى إخراج المصارف المفلسة من السوق اللبنانية.

تلفت الخبيرة الاقتصادية عليا المبيض الى أن مشاكل لبنان الاقتصادية لا يمكن فصلها عن التحديات الاجتماعية والسياسية. وتقول: "لا تستطيع الحكومة تعبئة الموارد لإعادة الإعمار من دون معالجة التخلف عن تسديد الديون السيادية، والخسائر التي لحقت بالنظام المالي والمصرف المركزي. يرغب كل من المواطنين اللبنانيين والجهات المانحة الخارجية في رؤية إصلاحات على صعيد الحوكمة الرشيدة والمساءلة أولاً".

بالنسبة إلينا، يبدأ كل شيء وينتهي بفلسطين. نحن نؤيد حل الدولتين – تأليف حكومة فلسطينية – وبعد ذلك يمكننا البحث في كل شيء آخر. لكن كل شيء آخر لن يتحقق من دون ذلك

الأمير خالد بن بندر آل سعود، سفير المملكة العربية السعودية لدى المملكة المتحدة

هذه المطالب تأتي في بلد تنتشر فيه مستويات عالية من الفساد، حيث أفاد أحدث مؤشر للفساد صدر عن منظمة الشفافية الدولية بأن 40 في المئة من اللبنانيين اضطروا إلى دفع رشوة للحصول على خدمات عامة، واحتل لبنان المرتبة الـ154 من أصل 180 دولة.

البداية بحل الدولتين

كما هي الحال في سوريا ولبنان، ترى الدول العربية أن انسحاب إسرائيل من غزة شرط أساس لاستعادة السلطة الفلسطينية لتولي جهود إعادة إعمار القطاع، على الرغم من رفض رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو هذه الفكرة.

وتشير الأمم المتحدة إلى أن إعادة بناء غزة والضفة الغربية ستصل تكلفتها إلى 53 مليار دولار وسيستغرق إنجازها 10 سنوات.

غيتي
طفلتان أمام أنقاض منزلهما المدمر في غزة تحملان ما تبقى من أمتعة، 28 يناير 2025

لطالما أكد مسؤولون ومحللون عرب أن إنشاء دولة فلسطينية قابلة للحياة هو السبيل الوحيد لتحقيق استقرار إقليمي حقيقي. تضع المملكة العربية السعودية هذه الخطوة كشرط أساس لتطبيع علاقاتها مع إسرائيل. قال الأمير خالد بن بندر: "بالنسبة إلينا، يبدأ كل شيء وينتهي بفلسطين. نحن نؤيد حل الدولتين – تأليف حكومة فلسطينية – وبعد ذلك يمكننا البحث في كل شيء آخر. لكن كل شيء آخر لن يتحقق من دون ذلك".

font change