باريس- لا تتوقع أن يكون منزل برهان غليون في باريس سورياً إلى هذا الحد، في الطريق إليه كل شيء فرنسي، الشارع طبعا، ثم مدخل العمارة وبواباتها المرمّزة، لكن عندما يفتح لك الباب ويستقبلك تكثر المداخل إلى سوريا، تحديدا إلى حمص. أولا اللهجة الحمصية، ثم الأثاث الشامي، ثم الصورة بالأبيض والأسود لرجل إلى جانبه فرس أصيلة.
تسأل عنه فهو الوالد الذي كان يربي الخيول العربية ويذهب بها إلى بيروت للسباق. هذه كلها مداخل إلى تلك البلاد البعيدة والتي كانت بعيدة أكثر من أي وقت خلال السنوات الماضية، سنوات الدم والهجرة والتخلي والتواطؤ. أما الآن فقربت المسافات، عادت سوريا لتكون قريبة أينما كان السوريون، عادت لتكون حاضرة حضورا مختلفا لكل من يسأل عنها، عن تلك البلاد التي لم تعد "بلاد البعث" والتي طال طوفانها عقودا طويلة.
شيق الحديث مع برهان غليون ومختلف، لأنه يسقط الربط بين السياسة والسلطة فلا تشعر أنك أمام رجل يبحث عن منصب وإنما عن تصور جديد للوطنية السورية، هنا إعادة تعريف للوطن وللوطنية، فلا تعود الكلمة بين مزدوجين لالتباس المعنى، ولكي لا يظنك الناس تجافي الواقع أو تتكلم لغة الحاكم.
هنا أيضا عودة إلى البدايات، بداية السياسة وبدايات الوطن السوري التي يسردها منذ مطلع القرن الماضي كتقديم للراهن، وهي عودة تبدو الآن خاصية سورية، لأن إعادة البناء ممكنة هناك في وقت تبدو مستحيلة في بلدان قريبة.
ماذا يريد الرئيس أحمد الشرع وفريقه؟ ما المتوقع من الحكومة الانتقالية؟ ما ترتيب الأولويات في سوريا الآن؟ ماذا عن الطائفية؟ وعن التهديدات الإسرائيلية؟
كلها أسئلة أجاب عليها برهان غليون، فكان نص الحوار التالي:
* انطلاقا من قراءتك لتاريخ سوريا منذ مطلع القرن الماضي ماذا يمثل سقوط النظام؟ هل خروج سوريا من تحت عباءة العسكر والمخابرات؟
-باستثناء السنتين من 1918إلى 1919تحت حكم الأمير فيصل بن الحسين والذي شهد وصلا بين بلاد الشام والحجاز يتكرر الآن، وكذلك من 1946إلى 1948وهو الحكم بعد الاستقلال والذي انتهى بانقلاب حسني الزعيم، ثم الأربع سنوات بين 1954و1958، فإن سوريا عاشت منذ 1920إلى 2025 تحت حكم عسكري...عسكري ومخابراتي. أنا لا أعتبر بشار الأسد عسكريا بل هو بالأساس مخابراتي، حتى الجيش محكوم بأجهزة الأمن، ولذلك خلال الثورة عندما كانوا يقولون دمرنا الجيش كان ردي أن النظام لن يسقط إن لم تسقط أجهزته الأمنية التي هي الذراع الأساسية في حكم الأسدين حافظ وبشار.
* إذن، كيف تعرف النظام الجديد.. هل هو حكم مدني؟ هل هو بمستوى آخر انتقال للسلطة من مجموعة سورية إلى مجموعة أخرى؟ انتقال من العلويين إلى السنة؟
- ليس هناك صورة نموذجية تنطبق على واقع معقد ومركب جدا كالواقع السوري، أرى أنه من الممكن القول إن الحكم في سوريا الآن هو عسكري فالذين أخذوا السلطة هم مسلحون لكن قسما كبيرا منهم هم من أطلق ثورة 2011 وكان عمرهم 15 سنة أو 10 سنوات أو 20 سنة، وفي ذهنهم بلدهم الذي نزع منهم وفكرة الثورة، ومعهم أيضا أناس إسلاميون من المفروض بالنسبة إليهم إقامة دولة إسلامية، أي إن هؤلاء عسكر أيضا وفي الوقت نفسه مؤدلجون على اختلاف أيديولوجياتهم. الآن هذا الحكم هو ما قبل انتقالي، أي أقصد مثل أي انقلاب، عملية تغيير مفاجئة، ما كان أحد منتظرا أن تحصل.
هو حكم مختلط، هناك شيء وطني، شيء إسلامي، شيء انتقامي، شيء رومانسي أيضاـ كل هذا موجود مع بعضه البعض، بالتالي هناك ديناميكية جديدة نشأت من وضع سوريا المختلف ومن 14 عاما من العنف والتشرد، مثلما حصل عندما ظهر الفدائيون الفلسطينيون لم يكن لهم مثيل، لا في آسيا ولا في أميركا اللاتينية، أيضا كانوا فريدين لأن وضعهم كان فريدا ووضع فلسطين أيضا.
* ماذا تريد السلطات الجديدة في سوريا؟ ما مشروعها؟
- حتى الآن لا يعرفون ماذا يريدون بعد، برأيي هم يتلمسون طريقهم، قسم منهم يريد دولة إسلامية وقسم آخر يريد الرجوع إلى بلده ويريد بلدا يعيش فيه مع أهله، وقسم آخر تحركه السلطة، لكن السلطة تستدعي تقديم تنازلات، أن تتفاعل مع فاعلين آخرين وتعرض عليهم تسويات، أي أن تكون برغماتيا.
حتى الآن الجناح المسيطر هو الجناح البرغماتي. وأنا أرى أن أحمد الشرع وأربعة أو خمسة أشخاص من حوله أو عشرة يقولون دعونا نتعامل مع العالم، فالنماذج القديمة التي قدمها الإسلاميون في المنطقة فشلت.