مطالب ترمب.. والضرورات الأمنية لأوروبا

لا زالت الدول الأوروبية تفترض أن الولايات المتحدة ستتدخل لمساعدتها في الأزمات

مطالب ترمب.. والضرورات الأمنية لأوروبا

إذا كان قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب بتجميد المساعدات لأوكرانيا يهدف إلى دفع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى الدخول في محادثات سلام، فقد أدى ذلك أيضا إلى دفع القادة الأوروبيين لإعادة تقييم قدراتهم الدفاعية بشكل جذري.

وبعد المعاملة المهينة التي تلقاها زيلينسكي خلال زيارته الأخيرة للبيت الأبيض على يد ترمب، إلى جانب قرار إدارة ترمب تعليق جميع المساعدات والدعم الاستخباراتي لكييف، بدأ القادة الأوروبيون يتساءلون عما إذا كانوا قد يواجهون المصير ذاته في المستقبل.

ولطالما شكّل استياء ترمب من القادة الأوروبيين، بسبب فشلهم في تلبية الحد الأدنى من متطلبات حلف "الناتو" بإنفاق 2 في المئة من ناتجهم المحلي الإجمالي على الدفاع، نقطة خلاف رئيسة، وهو أمر يعود إلى ولايته الأولى في البيت الأبيض.

في ذلك الوقت، عندما كان العالم يبدو أكثر أمانا، وقبل فترة طويلة من الغزو الروسي المثير للجدل لأوكرانيا عام 2022، خاض ترمب مواجهات حادة مع القادة الأوروبيين بسبب تقاعسهم عن زيادة الإنفاق الدفاعي.

وبلغت التوترات ذروتها عندما اجتمع قادة "الناتو" في واشنطن عام 2019 للاحتفال بالذكرى السبعين لتأسيس الحلف، حيث استغل ترمب المناسبة لتوجيه انتقادات لاذعة إلى المستشارة الألمانية آنذاك، أنغيلا ميركل، بسبب رفضها زيادة الإنفاق الدفاعي. وقال ترمب: "بصراحة، ألمانيا لا تدفع حصتها العادلة".

ومع بداية ولايته الثانية، بات من الواضح أن استياء ترمب من تقاعس أوروبا عن تحمل مسؤولياتها الدفاعية لا يزال يمثل قضية رئيسة، إذ تواصل الدول الأوروبية افتراض أن الولايات المتحدة ستتدخل لمساعدتها في أوقات الأزمات. وحتى قبل مواجهته العلنية مع زيلينسكي، جدد ترمب انتقاداته للإنفاق الدفاعي الأوروبي، حيث حذرت إدارته من أن واشنطن "لن تتسامح بعد الآن مع علاقة غير متوازنة تشجع على الاتكالية".

وبلغ استياء ترمب من أوروبا بشأن هذه القضية حدا دفعه إلى الإدلاء بأحد أكثر تصريحاته إثارة للجدل خلال حملته الانتخابية الرئاسية العام الماضي، عندما قال إنه "سيشجع" روسيا على مهاجمة حلفاء "الناتو" الذين لا يلتزمون بحصتهم العادلة في الإنفاق الدفاعي.

ومنذ ذلك الحين، أثار ترمب مزيدا من القلق بسبب قراره إجراء محادثات مباشرة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لإنهاء الصراع في أوكرانيا دون التشاور مع حلفائه الأوروبيين، مما أثار مخاوف من احتمال استبعاد القادة الأوروبيين من المفاوضات، رغم دعمهم الكبير للجهود العسكرية الأوكرانية.

تأتي قمة بروكسل في إطار مساعي القادة الأوروبيين للتعهد بزيادة الإنفاق الدفاعي، مع الحفاظ على دعمهم لأوكرانيا، في إشارة إلى تصميمهم على عدم الرضوخ لمحاولات ترمب التخلي عن القضية الأوكرانية

وأثار قرار ترمب الأحادي بإجراء محادثات مباشرة مع الكرملين ردود فعل غاضبة من القادة الأوروبيين، حيث اتهمته كايا كالاس، كبيرة مسؤولي السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي والداعمة القوية لأوكرانيا، بانتهاج سياسة الاسترضاء ذاتها التي أدت إلى اندلاع الحرب العالمية الثانية في ثلاثينات القرن الماضي. وقالت: "الاسترضاء سيفشل دائما. فلا يمكن اعتباره استراتيجية تفاوض فعالة إذا كنت تقدم التنازلات مسبقا حتى قبل بدء المفاوضات".
وأدى تعمّق الشرخ في العلاقات عبر الأطلسي إلى تلميح إدارة ترمب بإمكانية إنهاء دعمها للمادة الخامسة من معاهدة "الناتو"، التي تلزم جميع الدول الأعضاء في الحلف، البالغ عددها 32 دولة، بالدفاع عن أي عضو يتعرض لهجوم، وفقا لمبدأ "الواحد من أجل الجميع، والجميع من أجل الواحد". ونظرا لنهج إدارة ترمب المزعزع في التعامل مع القضايا العالمية الرئيسة، لم يكن مفاجئا أن يسارع القادة الأوروبيون إلى إعادة ترتيب أولوياتهم والدعوة إلى قمة طارئة في بروكسل. وإذا كان ترمب قد عامل حليفا رئيسا لواشنطن مثل زيلينسكي بهذا القدر من الاستخفاف العلني، فمن المحتمل أن يتبنى النهج ذاته تجاه أوروبا، متخليا عن الدفاع عنها في لحظة حرجة.
وتأتي قمة بروكسل في إطار مساعي القادة الأوروبيين للتعهد بزيادة الإنفاق الدفاعي، مع الحفاظ على دعمهم المستمر لأوكرانيا، في إشارة إلى تصميمهم على عدم الرضوخ لمحاولات ترمب التخلي عن القضية الأوكرانية. كما حضر القمة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، حيث عقد سلسلة من الاجتماعات رفيعة المستوى مع كبار المسؤولين في الاتحاد الأوروبي وحلف "الناتو".
وقالت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون ديرلاين، قبيل انطلاق القمة التي تضم 27 دولة عضوا، إن القادة يجتمعون "لإعادة تسليح أوروبا" وتعزيز دعمهم لأوكرانيا.

إلى جانب الدول الأعضاء الـ27 في الاتحاد الأوروبي التي شاركت في القمة، جرى إطلاع كل من النرويج وتركيا والمملكة المتحدة– وهي دول غير أعضاء في الاتحاد– على مجريات المناقشات التي جرت خلالها

وتأتي هذه القمة بعد إعلان فون ديرلاين عن خطة لتعزيز الإنفاق الدفاعي للاتحاد الأوروبي بقيمة 800 مليار يورو بهدف استمالة إدارة ترمب. كما كشفت المفوضية الأوروبية عن مقترحات تهدف إلى تعبئة ما يصل إلى 800 مليار يورو لدعم الدفاع الأوروبي، بما في ذلك خطة لاقتراض 150 مليار يورو لإقراضها لحكومات الاتحاد الأوروبي.
إلى جانب الدول الأعضاء الـ27 في الاتحاد الأوروبي التي شاركت في القمة، جرى إطلاع كل من النرويج وتركيا والمملكة المتحدة– وهي دول غير أعضاء في الاتحاد– على مجريات المناقشات التي جرت خلالها.
وتجلى القلق المتزايد بين القادة الأوروبيين بشأن احتمال أن تكون هذه الخطوة تمهيدا لتخلي الولايات المتحدة عن ضمان أمنهم، وذلك في الخطاب المتلفز الذي ألقاه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قبل انعقاد القمة. حيث قال ماكرون: "أرغب في تصديق أن الولايات المتحدة ستدعمنا، لكن ينبغي أن نكون مستعدين لاحتمال عدم حدوث ذلك". وأضاف الرئيس الفرنسي أن مستقبل أوروبا وأمنها "لا يمكن أن يتحدد في موسكو أو واشنطن"، في انتقاد واضح للمحادثات الأميركية-الروسية حول مستقبل أوكرانيا. كما دعا إلى "دعم طويل الأمد لأوكرانيا،" قد يشمل "إرسال قوات أوروبية إليها" لتجنب الوصول إلى "وقف هش لإطلاق النار". وردا على المخاوف المتزايدة بشأن الاعتماد على الولايات المتحدة في الدفاع عن أوروبا مستقبلا، أعلن ماكرون أن فرنسا مستعدة لمناقشة إمكانية تقديم ترسانتها النووية لحماية حلفائها الأوروبيين.
وإذا كان الهدف من سياسات إدارة ترمب خلال أسابيعها الأولى هو دفع القادة الأوروبيين إلى التركيز بشكل أكبر على احتياجاتهم الدفاعية، فإن تحركاته الاستفزازية– سواء عبر فتح قنوات تفاوض مع روسيا أو تجميد الدعم لأوكرانيا– قد نجحت بالفعل في تحقيق ذلك.

font change