دبلوماسية السعودية والنظام العالمي المتغير

تُمثل القضية الفلسطينية أولوية رئيسة للمملكة

سام غرين
سام غرين

دبلوماسية السعودية والنظام العالمي المتغير

الرياض- في ظل المشهد الجيوسياسي العالمي المتغير بوتيرة متسارعة وغير متوقعة، أعادت المملكة العربية السعودية صياغة سياستها الخارجية، متبنية نهجا جديدا يقوم على تعددية الشراكات الاستراتيجية. إذ تسعى الرياض إلى تعزيز استقلالية قرارها السياسي، وتقليل اعتمادها على القوى التقليدية المهيمنة، بما في ذلك الولايات المتحدة، من خلال قيادة مبادرات دبلوماسية فاعلة، وترسيخ شراكات اقتصادية واسعة، والاضطلاع بدور محوري في الوساطات الدولية لحل النزاعات. ويأتي هذا التحول في وقت تتزايد فيه المنافسة بين القوى الكبرى، مما يفرض على المملكة اتباع سياسات مرنة ومتوازنة لحماية مصالحها وتعزيز مكانتها الإقليمية والعالمية.

يعكس هذا التوجه فهما عميقا لتعقيدات النظام الدولي، حيث توازن المملكة بين مصالحها الاقتصادية، واعتباراتها الأمنية، وطموحاتها القيادية. ويرتكز هذا النهج على مقاربة متكاملة تشمل تطوير العلاقات مع القوى الكبرى مثل الصين وروسيا، وتعزيز الروابط مع الأسواق الناشئة، والاستثمار في قطاعات استراتيجية تتجاوز النفط، بما في ذلك التكنولوجيا والبنية التحتية والتمويل.

ثمانون عاما من العلاقات السعودية- الأميركية

مثلت استعادة الرياض عام 1902 نقطة التحول الأولى في المسيرة التي قادها الملك عبدالعزيز لاستعادة السيطرة على منطقة نجد. وبفضل براعته العسكرية، وتحالفاته القبلية، وشرعيته الدينية، نجح في توحيد معظم أقاليم الجزيرة العربية، بما في ذلك نجد والحجاز، موطن الحرمين الشريفين، إلى جانب أقاليم أخرى ذات أهمية استراتيجية. وقد تُوجت هذه الجهود بإعلان تأسيس المملكة العربية السعودية عام 1932، بعد مسيرة طويلة من الكفاح السياسي والعسكري.

ورغم أن أولويات الملك عبدالعزيز في البدايات تركزت على ترسيخ دعائم الدولة وتوطيد أركان الحكم، فإن المتغيرات الإقليمية والدولية سرعان ما فرضت على المملكة دورا أكبر في المشهد السياسي العالمي، خاصة مع اكتشاف النفط، الذي شكل عنصرا أساسيا في إعادة تشكيل علاقاتها الخارجية، وفتح آفاقا جديدة للتعاون مع القوى الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة.

تستهدف رؤية المملكة 2030، التي يقودها ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان، تقليل الاعتماد على النفط، وتعزيز التكامل الاقتصادي العالمي، وبناء اقتصاد متنوع قادر على مواكبة المتغيرات الدولية

شكل اللقاء الذي جمع الملك عبدالعزيز بالرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت في 14 فبراير/شباط 1945 على متن السفينة الحربية "يو إس إس كوينسي" (USS Quincy) في قناة السويس، محطة مفصلية في مسار العلاقات السعودية-الأميركية، حيث أرست هذه القمة الأسس لتحالف استراتيجي امتد لعقود. في إطار هذا التفاهم، تعهدت الولايات المتحدة بتقديم الدعم العسكري وضمان أمن المملكة، في مقابل حصولها على حق الوصول إلى الاحتياطيات النفطية السعودية، وهو ما عكس رؤية الملك عبدالعزيز الثاقبة لأهمية النفط في صياغة موازين القوى العالمية.

إدواردو رامون

أصبح هذا الترتيب، القائم على "النفط مقابل الأمن"، ركيزة جوهرية في العلاقات الثنائية، حيث عزز موقع المملكة كلاعب رئيس في أسواق الطاقة العالمية، وأسهم في ترسيخ دورها ضمن الاستراتيجية الغربية لمواجهة التمدد السوفياتي خلال الحرب الباردة.
ومع حلول عام 2025، الذي يصادف الذكرى الثمانين لهذا اللقاء التاريخي، تبقى العلاقات مع واشنطن عنصرا محوريا في السياسة الخارجية السعودية، ذات التأثير المباشر على المشهدين السياسي والاقتصادي في الشرق الأوسط والعالم. ومع ذلك، فإن التحولات الجيوسياسية الراهنة والمتغيرات في النظام العالمي تدفع نحو إعادة تقييم الأسس التي تقوم عليها الرؤية الاستراتيجية للمملكة، بما يضمن تحقيق مصالحها الوطنية في ظل عالم يشهد تغيرات متسارعة.
أفق العلاقات الدولية السعودية لم ولن يقتصر على العلاقات مع الولايات المتحدة. فضمن مبدأ التوازن الدبلوماسي تبنت المملكة سياسة التقارب وتأسيس علاقات ودية ومنافع متبادلة مع ثلاث كتل دولية أخرى تشكل الأطراف المنافسة للسياسة الأميركية، وتتمثل بمجموعة دول الاتحاد الأوروبي، والصين، وروسيا. فقد سعت الدبلوماسية السعودية إلى المحافظة على علاقات متينة وتواصل دائم مع هذه الأطراف الدولية، وضمنت المنافع السياسية والاقتصادية والأمنية المتبادلة مع هذه الأطراف.

 

استراتيجيات المملكة الدبلوماسية

منذ تولي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود مقاليد الحكم في يناير/كانون الثاني 2015، شهدت السياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية تحولا استراتيجياً قائما على تنويع الشراكات وتعزيز الدور الإقليمي والدولي للمملكة. وتأتي رؤية المملكة 2030، التي يقودها ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان، كمحور أساسي لهذه الاستراتيجية، حيث تستهدف تقليل الاعتماد على النفط، وتعزيز التكامل الاقتصادي العالمي، وبناء اقتصاد متنوع قادر على مواكبة المتغيرات الدولية.

تعكس جهود المملكة في خفض التصعيد الإقليمي مقاربة برغماتية تقوم على تحقيق توازن دقيق بين الدبلوماسية ومتطلبات الأمن الوطني

تعتمد هذه الرؤية على الاستثمار في البنية التحتية العالمية، وتطوير العلاقات مع الأسواق الناشئة، والانخراط الفاعل في التحولات العالمية في قطاع الطاقة، إضافة إلى دعم الابتكار واستقطاب الاستثمارات. كما توظف المملكة قوتها الاقتصادية لتعزيز نفوذها السياسي، مستفيدة من أدوات الدبلوماسية الاقتصادية، مثل التجارة والاستثمار ودبلوماسية الطاقة، لضمان موقعها في موازين القوى الدولية.

أ ف ب
قمة "مجموعة العشرين" في الهند في 9 سبتمبر 2023

تتبنى المملكة العربية السعودية نهجا بناءً ومتطورا في رؤيتها للنظام العالمي، يرتكز على توسيع نطاق شراكاتها الدولية وتعزيز دورها في الوساطات والمبادرات الدبلوماسية. ويأتي هذا التوجه انطلاقا من إدراك المملكة لأهمية تبني مقاربات جديدة وفعالة لمعالجة النزاعات طويلة الأمد، سواء داخل منطقة الشرق الأوسط أو خارجها، بما ينسجم مع التحديات والمتغيرات الدولية الراهنة.
وفي هذا الإطار، تواصل الرياض الانخراط بفاعلية في الدبلوماسية العالمية عبر تأسيس شراكات استراتيجية شاملة تتجاوز التعاون التقليدي في قطاع النفط، لتمتد إلى مجالات الطاقة والبنية التحتية والتمويل والتكنولوجيا. ويعكس هذا التحول مقاربة أكثر برغماتية ومرونة في السياسة الخارجية السعودية، تعكس إدراكا عميقا لمتطلبات المرحلة وتوازنات القوى الإقليمية والدولية.

كما تعكس جهود المملكة في خفض التصعيد الإقليمي مقاربة برغماتية تقوم على تحقيق توازن دقيق بين الدبلوماسية ومتطلبات الأمن الوطني. فمن منطلق التزامها بترسيخ الاستقرار في اليمن، انخرطت المملكة في حوار مباشر مع جماعة الحوثي المدعومة من إيران، وذلك في إطار نهجها الأشمل الرامي إلى تحييد التهديدات التي قد تؤثر على أمنها ومصالحها الاستراتيجية. وتأتي هذه المباحثات المباشرة، إلى جانب الحوارات المستمرة مع الحكومة اليمنية الشرعية، كمحاور رئيسة ضمن الجهود الدبلوماسية الهادفة إلى إيجاد حلول مستدامة للصراع، حيث أسفرت هذه المساعي عن استضافة الرياض لمفاوضات وقف إطلاق النار في سبتمبر/أيلول 2023، وهو ما يُعد خطوة متقدمة نحو التوصل إلى تسوية سياسية شاملة تُنهي الأزمة على أسس راسخة ومستدامة.

تُمثل القضية الفلسطينية أولوية رئيسة للمملكة، حيث ترى المملكة في أزمة غزة تأكيدا على الحاجة الملحة إلى ترسيخ النظام الدولي القائم على القواعد، والالتزام بالقانون الدولي

إلا أن التصعيد المستمر للهجمات "الحوثية" في البحر الأحمر، لا سيما في أعقاب أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول والموقف الإيراني من الحرب في غزة، عزز من المخاوف السعودية إزاء التوجهات الإقليمية لإيران وقدرتها على توظيف الجماعات الوكيلة لتحقيق أجنداتها الاستراتيجية. ومع ذلك، تظل المملكة ثابتة على نهجها الدبلوماسي في معالجة النزاعات، مؤكدة التزامها بالعمل مع شركائها الدوليين للدفع نحو صياغة إطار سلام شامل، يضمن تحقيق الاستقرار في اليمن، ويعزز الأمن الإقليمي وفق أسس مستدامة.
وفي السودان، تواصل المملكة جهودها الدبلوماسية بوصفها وسيطا رئيسا بين الأطراف المتنازعة منذ اندلاع الصراع الداخلي في أبريل/نيسان 2023، حيث قادت عدة جولات تفاوضية سعيا لتحقيق المصالحة وترسيخ الاستقرار. وفي يوليو/تموز 2024، عقد مجلس السيادة الانتقالي السوداني والمملكة جولة جديدة من المباحثات، في إطار مساعٍ متجددة لاستئناف الحوار السياسي وإنهاء الحرب، بما يعزز فرص التوصل إلى تسوية شاملة تضع السودان على مسار الاستقرار والتنمية.

واس
مؤتمر القمة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي في في الرياض في 11 نوفمبر 2024

بجانب هذا فإن الجهد الدبلوماسي السعودي كان جليا في قضايا مصيرية متعددة تخص أمن واستقرار وسلامة البيت العربي، ومنها:

-    احتضان سوريا خلال أزمتها الداخلية ومد يد العون قبل وبعد التغيرات السياسية في النظام، وإظهار الحرص على عدم انزلاق البلاد في حالة الفوضى أو السماح بالنفوذ والتدخلات الخارجية، وضمان أمن واستقرار البلاد ودعمها في مسيرة إعادة البناء.
-    الاستثمار السعودي في أمن واستقرار مصر، وتقديم الدعم السياسي والاقتصادي اللامحدود للمحافظة على أمن المجتمع المصري ومنع عوامل التفرقة والانقسام والصراعات الداخلية.
-    السعي السعودي لدعم وترسيخ الهوية الوطنية العربية في العراق بعد سنوات من تسلط الهويات الطائفية والنفوذ الأجنبي وفقدان الدولة استقلالية القرار.
-    توجيه الجهد الدبلوماسي السعودي لضمان عودة الاستقرار إلى لبنان، وعودة عامل الشرعية وسلطة الدولة وضمان هيبتها وتمكين قواتها الوطنية المسلحة من القيام بمهامها الوطنية، والحث على اختيار القيادات الوطنية التي ستساهم بإنقاذ البلاد من التدخلات الخارجية التي دمرت أمن وازدهار واستقرار البلاد.
-    عمل الدبلوماسية السعودية على ضمان وحدة البيت الخليجي، وضمان صلابة واستمرارية حاضنة دول "المجلس" في العمل من أجل تعزيز المصلحة الخليجية الجماعية، وتعزيز الموقف الخليجي الموحد تجاه التحديات القائمة.

وضمن اهتمامات القضايا المركزية للموقف السعودي تُمثل القضية الفلسطينية أولوية رئيسة للمملكة، حيث ترى المملكة في أزمة غزة تأكيدا على الحاجة الملحة إلى ترسيخ النظام الدولي القائم على القواعد، والالتزام بالقانون الدولي، وتنفيذ قرارات محكمة العدل الدولية وتؤكد الرياض أن إنهاء الاحتلال وتفعيل حل الدولتين يشكلان حجر الأساس لتحقيق سلام عادل ومستدام، إذ تظل القضية الفلسطينية محورا رئيسا في الأولويات الإقليمية والدولية، مما يستدعي تسوية شاملة تعالج جذور النزاع وتحقق الاستقرار.

تواصل الرياض ترسيخ موقعها كقوة فاعلة في تعزيز الأمن الإقليمي، واضعة نُصب أعينها بناء منظومة أمنية شاملة تتجاوز الحسابات الضيقة، وتؤسس لتعاون فعال يعزز استقرار المنطقة ويخدم مصالحها المشتركة

وترتكز الرؤية السعودية على ضرورة التعامل مع القضية الفلسطينية من خلال دبلوماسية متعددة الأطراف واستباقية، حيث إن غياب الحل النهائي سيظل عاملا مؤثرا في زعزعة الاستقرار الإقليمي ويحول دون تحقيق نظام أكثر توازنا. وفي هذا السياق، وردا على المقترح الذي طرحه الرئيس الأميركي دونالد ترمب بشأن السيطرة على قطاع غزة وإعادة توطين مليوني فلسطيني، شددت المملكة على أن موقفها الداعم لقيام دولة فلسطينية مستقلة "ثابت وغير قابل للمساومة"، مؤكدة أن هذا التوجه "غير قابل للتفاوض" وتواصل المملكة التزامها الراسخ بدعم إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة على حدود الرابع من يونيو/حزيران 1967، تكون القدس الشرقية عاصمتها.
وقد فرضت هذه التطورات تحديات وفرصا أمام المملكة، إذ بات عليها التعامل مع بيئة أمنية معقدة، مع الحفاظ على استقلالية قرارها الاستراتيجي وتعزيز موقعها الريادي في المنطقة. وعلى المستوى الدبلوماسي، شكل الدعم الأميركي غير المشروط لإسرائيل عامل توتر في العلاقات مع الدول العربية والإسلامية، مما زاد من تعقيد المشهد السياسي الإقليمي.

رويترز
وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان ومستشار الأمن الوطني السعودي مساعد بن محمد العيبان يتوسطان وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو ومستشار الأمن القومي مايك والتز، ووزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف

ورغم هذه التحديات، تواصل المملكة دورها الريادي، حيث ترأست اللجنة الوزارية العربية الإسلامية المعنية بغزة، التي تضم كلاً من البحرين، ومصر، والأردن، وإندونيسيا، ونيجيريا، وفلسطين، وقطر، وتركيا، إلى جانب جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، وبدعم من الاتحاد الأوروبي والنروج. وفي هذا السياق، قادت المملكة جهود إطلاق التحالف العالمي لتنفيذ حل الدولتين خلال الاجتماع الوزاري حول "الوضع في غزة وتنفيذ حل الدولتين"، الذي عُقد على هامش الدورة التاسعة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة في 26 سبتمبر 2024 في نيويورك.
ويُجسد هذا التحالف، الذي يضم فاعلين إقليميين ودوليين رئيسين، التزاما متجددا بإيجاد حل جذري للقضية الفلسطينية. ومن خلال معالجة الأسباب العميقة للصراع وضمان الامتثال للقانون الدولي، يهدف التحالف إلى وضع مسار واضح لتحقيق سلام واستقرار دائم في منطقة الشرق الأوسط، عبر بلورة خطة عمل لإنشاء دولة فلسطينية مستقلة، والدعوة لانضمام مزيد من الدول إلى الإجماع الدولي، الذي يُمثله بالفعل 149 دولة تعترف بفلسطين.

 

مبادئ السياسة الخارجية في ظل التحولات العالمية

في ظل التغيرات المتسارعة التي يشهدها النظام الدولي واستمرار حالة عدم الاستقرار الإقليمي، تضع المملكة العربية السعودية نهجا راسخا يقوم على الوساطة، وحل النزاعات، وعدم الانحياز كركائز أساسية لسياستها الخارجية. وانطلاقا من مسؤوليتها تجاه أمن المنطقة واستقرارها، تولي المملكة أهمية قصوى لخفض التصعيد وتعزيز بيئة إقليمية قائمة على التعاون والتفاهم المتبادل.
ويعكس هذا النهج رؤية متقدمة تسعى إلى منع نشوب الأزمات، واحتواء التوترات، وترسيخ أسس الحوار كوسيلة رئيسة لتحقيق الاستقرار. كما تؤمن المملكة بأن السلام المستدام لا يمكن بلوغه إلا من خلال احترام سيادة الدول، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وتعزيز العلاقات القائمة على المصالح المشتركة، بعيدا عن الاستقطاب أو المواجهة.
وفي هذا الإطار، تواصل الرياض ترسيخ موقعها كقوة فاعلة في تعزيز الأمن الإقليمي، واضعة نُصب أعينها بناء منظومة أمنية شاملة تتجاوز الحسابات الضيقة، وتؤسس لتعاون فعال يعزز استقرار المنطقة ويخدم مصالحها المشتركة.

تجاوزت جهود المملكة البعد الدبلوماسي لتشمل تقديم مساعدات إنسانية ومالية واسعة، بالتنسيق مع شركائها في مجلس التعاون لدول الخليج العربية، بالإضافة إلى دعم عمليات تبادل الأسرى بين الأطراف المتحاربة

ويمتد هذا النهج إلى ما هو أبعد من نطاق الشرق الأوسط، حيث ترسخ المملكة العربية السعودية موقعها كقوة دبلوماسية مؤثرة على الساحة الدولية. فمن خلال التزامها الثابت بمبدأ الاستقرار والسلام واستقلالية القرار السيادي، نجحت المملكة في تعزيز علاقاتها مع القوى العالمية الكبرى، وبناء شبكة شراكات استراتيجية تدعم رؤيتها الأشمل لعالم أكثر أمنا واستقرارا.
ويعكس هذا التوجه استعداد الرياض الدائم للاضطلاع بدور محوري في جهود السلام الدولية، سواء عبر استضافة محادثات السلام أو توفير منصة للحوار والتقارب بين الأطراف المتباينة، بما يرسخ دورها كجسر للتفاهم، ويعزز موقعها كطرف فاعل في صياغة حلول دبلوماسية تسهم في تحقيق الأمن والاستقرار على المستويين الإقليمي والدولي.

وقد انعكس هذا النهج المتزن بوضوح في الموقف السعودي من الحرب الروسية- الأوكرانية، حيث تبنت المملكة سياسة الحياد المتوازن القائم على احترام مصالح جميع الأطراف والالتزام بقواعد القانون الدولي والشرعية الدولية، مما أتاح لها الحفاظ على قنوات تواصل فاعلة مع موسكو وكييف، والاستمرار في تعزيز علاقاتها الاستراتيجية مع حلفائها الغربيين. فمن خلال مواصلة التعاون في قطاع الطاقة مع روسيا عبر تحالف "أوبك+"، أكدت المملكة التزامها باستقرار الأسواق العالمية، في الوقت الذي حرصت فيه على طمأنة أوكرانيا وشركائها الغربيين بشأن دعمها لجهود تحقيق الأمن والاستقرار الدولي.
وفي الإطار السياسي، التزمت السعودية بمواقف مبدئية داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث دعمت القرارات التي تدعو إلى إنهاء العمليات العسكرية، واحترام سيادة الدول، ورفض ضم الأراضي الأوكرانية، بما يرسخ موقفها الداعم لمنظومة القانون الدولي. أما على الصعيد الإنساني، فقد تجاوزت جهود المملكة البعد الدبلوماسي لتشمل تقديم مساعدات إنسانية ومالية واسعة، بالتنسيق مع شركائها في مجلس التعاون لدول الخليج العربية، بالإضافة إلى دعم عمليات تبادل الأسرى بين الأطراف المتحاربة، ودعم الوساطات التي أسهمت في إعادة الأطفال الأوكرانيين الذين شُردوا بسبب النزاع. 

إدواردو رامون

وحافظت السعودية على علاقة طيبة مع الجانبين الروسي والأوكراني. ويعكس هذا النهج قدرة المملكة على لعب دور محوري في تسهيل المفاوضات رفيعة المستوى، بعيدا عن الانخراط المباشر في النزاعات، وهو ما تجلى في استضافتها للاجتماع الذي جمع مسؤولين من الولايات المتحدة وروسيا في 18 فبراير/شباط 2025، بحضور وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان ووزير الدولة مستشار الأمن الوطني مساعد بن محمد العيبان. وأسفر الاجتماع عن الاتفاق على تشكيل لجان متخصصة لصياغة إطار مستقبلي للمفاوضات حول الأزمة الأوكرانية، مما يؤكد دور المملكة كقوة دبلوماسية مؤثرة تسهم في إعادة تشكيل مسارات الاستقرار الدولي.
وإذ كانت السعودية أول محطة خارجية للرئيس دونالد ترمب في 2017، يجري حديث عن زيارة مرتقبة لترمب في بداية ولايته الثانية واحتمال عقد قمة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
ويشكل الالتزام الراسخ بمبدأ عدم الاعتداء، وعدم التدخل، واحترام سيادة الدول الركيزة الأساسية في السياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية، إذ تستند إليه في صياغة نهجها الدبلوماسي على المستويين الإقليمي والدولي. وتحرص المملكة على أن تكون جميع تحركاتها الخارجية متسقة مع مصالحها الاستراتيجية طويلة المدى، ومتوافقة مع رؤيتها لترسيخ الاستقرار الإقليمي.

رسخت السعودية تحولا استراتيجيا في سياستها الخارجية، منتقلة من الاعتماد على الدبلوماسية الاقتصادية إلى نهج متكامل يقوم على التعددية والتنوع الاستراتيجي

وانطلاقا من هذا المبدأ، تؤكد المملكة على حق الدول في تقرير شؤونها الداخلية دون أي تدخل خارجي، وهو التزام جوهري يوجه علاقاتها مع شركائها الإقليميين والدوليين. وقد عزز هذا النهج موقع المملكة كدولة فاعلة في تعزيز النظام الدولي القائم على احترام السيادة الوطنية، وترسيخ قواعد الاستقلال السياسي، بعيدا عن أي سياسات تفرض الإملاءات أو تسعى إلى التأثير في قرارات الدول الأخرى.

وتتبنى المملكة العربية السعودية موقفا ثابتا بأن دورها كوسيط ليس ورقة مساومة، ولا يمكن استغلاله لفرض تنازلات في ثوابتها خاصة في القضايا المصيرية التي تشكل إطار مصالح أمن البلاد الوطني والقومي. وترفض المملكة بشكل قاطع أي محاولات لاستغلال جهودها الدبلوماسية وحسن نواياها للضغط عليها نحو سياسات قد تمس بأمنها الوطني أو تتعارض مع أهدافها الاستراتيجية بعيدة المدى.

إدواردو رامون

وفي ظل التحديات الإقليمية والتوترات الجيوسياسية العالمية، تؤكد المملكة أن التزامها بالحياد في الصراعات الدولية وجهودها في بناء السلام لا ينبغي أن يُفسرا على أنهما نقطة ضعف أو فرصة لممارسة الضغوط. وقد أوضحت الرياض بجلاء أنها لن تقبل بأي إملاءات أو ضغوط أحادية قد تمس بسيادتها أو تؤثر على قراراتها الأمنية، انطلاقا من رؤيتها الراسخة بأن أمنها واستقرارها ليسا موضع مساومة، بل ركيزة أساسية لسياستها الخارجية ومسؤوليتها تجاه أمن المنطقة.

رسخت السعودية تحولا استراتيجيا في سياستها الخارجية، منتقلة من الاعتماد على الدبلوماسية الاقتصادية إلى نهج متكامل يقوم على التعددية والتنوع الاستراتيجي، وتوظيف مكانتها كدولة رائدة وقائدة في المجال الخليجي والعربي والإسلامي والإقليمي والنفطي والمالي، مما عزز مكانتها كقوة فاعلة على المستويين الإقليمي والدولي. فمن خلال ترسيخ شراكاتها مع حلفائها التقليديين، والانفتاح على القوى الصاعدة، بالتوازي مع دورها المحوري في حل النزاعات، تؤكد المملكة قدرتها على تشكيل مسارها المستقبلي وتعزيز حضورها في مشهد عالمي يتسم بالتعقيد والتغير المستمر. ويعكس هذا النهج المرونة الاستراتيجية للمملكة والقدرة على التكيف مع الظروف الإقليمية والدولية المتغيرة، حيث تواصل الاضطلاع بدور محوري في ترسيخ الاستقرار الإقليمي، وتعزيز التعاون الدولي، وصياغة توازنات تضمن أمن المنطقة وتخدم المصالح المشتركة، مما يرسخ مكانتها كطرف رئيس في المشهد الجيوسياسي العالمي.

font change