اتفاق ترمب وبوتين "الأوكراني" والنظام العالمي الجديد

عواصف تهب على موازين القوى والتكتيكات

رويترز
رويترز
امرأة تمشي خارج دير القديس إيفيرون، الذي تعرض لأضرار بالغة خلال المعارك بين روسيا وأوكرانيا، في دونيتسك، وهي منطقة تسيطر عليها روسيا في أوكرانيا، 25 فبراير 2025

اتفاق ترمب وبوتين "الأوكراني" والنظام العالمي الجديد

أطلقت مفاوضات الرياض بين الولايات المتحدة وروسيا مرحلة جديدة في العلاقات بين البلدين، وزادت من حظوظ انتهاء الحرب في أوكرانيا، ولكن التأثيرات لن تقتصر على هذا المآل بل ستطاول ملفات إقليمية عدة، بدا أن نتائج المفاوضات ستنعكس على طبيعة النظام الأمني المستقبلي في القارة الأوروبية، وشكل النظام العالمي الجديد، وعلاقة القوى العظمى والقوى الصاعدة عالميا.

ومع دخول الحرب الروسية على أوكرانيا عامها الرابع، يسود اعتقاد بأن هذا العام سيشهد نهاية للعمليات العسكرية الواسعة والانتقال إلى مفاوضات لا تتعلق فقط بإنهاء الحرب، ومصير المناطق الجنوبية الشرقية من أوكرانيا، بل اصطفاف الجمهورية السوفياتية السابقة سياسيا وعسكريا واقتصاديا. ومع نجاح اجتماعات الرياض في كسر الجليد بين الولايات المتحدة وروسيا، بدا أن نتائج المفاوضات ستنعكس على طبيعة النظام الأمني المستقبلي في القارة الأوروبية، وشكل النظام العالمي الجديد، وعلاقة القوى العظمى والقوى الصاعدة عالميا. وبعيدا عن تأثير جهود وضغوط الرئيس الأميركي دونالد ترمب لإنهاء الحرب، فإن نقاط الضعف وحالة عدم اليقين لدى الطرفين المتحاربين بالحسم العسكري، إضافة إلى الكلفة البشرية والاقتصادية الهائلة دفعت عددا متزايدا من الروس والأوكرانيين لدعم مفاوضات إنهاء القتال.

تقلبات في موازين القوى والتكتيكات

شهدت السنوات الثلاث الماضية من الحرب في أوكرانيا تقلبات كثيرة في موازين القوى، وتغيرات في تكتيكات القوات الروسية والأوكرانية، والانتقال من وضعية الهجوم إلى الدفاع عدة مرات. ففي بداية الحرب، 24 فبراير/شباط 2022، شنت القوات الروسية هجمات ضخمة، وعلى نطاق واسع من الجهات، بهدف حسم مسار الحرب سريعا. واستطاعت القوات الروسية بالفعل احتلال مساحات شاسعة من الأراضي الأوكرانية من ضمنها مدينة خيرسون الاستراتيجية، والوصول إلى ضواحي العاصمة كييف، خلال الأسابيع الأولى من الحرب، لكن ضعف اللوجستيات المتعلقة بالاتصالات وتأمين العتاد والوقود للقوات المتقدمة، وصمود القيادة الأوكرانية في كييف، ولاحقا تصاعد الدعم الغربي، أدت إلى تغييرات جذرية في طبيعة وشكل المعارك.

العقوبات على القطاع الصناعي الروسي، وتقييد الوصول إلى التكنولوجيا المتقدمة، جعلا من الصعب أن تحافظ الصناعات العسكرية الروسية على وتيرة عالية في الإنتاج من الأسلحة الدقيقة

وأُجبرت القوات الروسية المهاجمة، في شهر أبريل/نيسان 2022، على الانسحاب من ضواحي كييف.

وركزت القوات الروسية لاحقا على جبهتي جنوب وجنوب شرقي أوكرانيا، من أجل بناء جسر بري بين الأراضي الروسية وشبه جزيرة القرم، وسيطرت على الكثير من المدن الاستراتيجية، من أهمها ماريوبول، وجعلت بحر آزوف بحرا روسياً خالصا. وحققت القوات الأوكرانية مفاجأة من العيار الثقيل بنجاح الهجوم المعاكس الذي شنته في نهاية صيف، وخريف 2022، على الجبهتين الجنوبية والشرقية، واستعادت من خلاله أجزاء واسعة من مقاطعتي خيرسون جنوبا وخاركيف شرقا، بفضل منظومات الأسلحة الغربية الحديثة التي حصل عليها الجيش الأوكراني.

وبعد فشل الهجوم المعاكس الذي شنته القوات الأوكرانية، متأخرة لعدة شهور، صيف عام 2023، تحولت الحرب عمليا إلى حرب استنزاف، لم تغير كثيرا من طابعها على المستوى الاستراتيجي الهجمات المتبادلة التي تخللتها، وأبرزها توغل القوات الأوكرانية في مقاطعة كورسك الروسية الحدودية، في أغسطس/آب 2024، مع ملاحظة أن نجاح الأوكرانيين تكتيكيا في كورسك انقلب خسارة كبيرة في الجبهات وسط وجنوب دونباس في جبهات دونيتسك وزاباروجيا. وفي المقابل فإن التقدم الروسي كان مكلفا على مستوى الخسائر البشرية والعتاد.

استنزاف القدرات البشرية والمادية

واجهت روسيا وأوكرانيا خلال ثلاث سنوات من الحرب خسائر كبيرة على صعيد القوة البشرية والمعدات العسكرية والذخائر وتوفير استمرار الدعم اللوجستي والإنفاق الدفاعي. حيث خسرت روسيا عددا كبيرا من الدبابات والعربات المصفحة والطائرات والمروحيات وقطع المدفعية. ولا يقتصر هذا على تدمير المعدات، بل أيضا على استهلاكها بشكل كبير. وتجعل العقوبات الغربية على روسيا من الصعب على موسكو تجديد أو استبدال الكثير من الأسلحة والمعدات الحديثة، مما يعوق إمكانية أن تحافظ قواتها على قدرة قتالية عالية.

أ.ف.ب
الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي وهو يتفقد بناء التحصينات في موقع غير معلن عنه في منطقة دونيتسك، وسط الغزو الروسي لأوكرانيا، في 18 نوفمبر 2024

بالإضافة إلى أن استهلاك الذخائر والصواريخ وقذائف المدفعية كان مرتفعا، مما يتطلب أن تستمر روسيا في تصنيع أو شراء المزيد منها. لكن العقوبات على القطاع الصناعي الروسي، وتقييد الوصول إلى التكنولوجيا المتقدمة، جعلا من الصعب أن تحافظ الصناعات العسكرية الروسية على وتيرة عالية في الإنتاج من الأسلحة الدقيقة تكفي للاستمرار في اعتماد الجيش الروسي على تكتيك الاستهلاك المفرط للقذائف والذخائر على الجبهات. ورغم ما سبق فإن "عسكرة" الاقتصاد الروسي مكنتها من إنتاج أربعة أضعاف ما تنتجه البلدان الأوروبية مجتمعة، حسب تقارير أوروبية.

ووفقا لما صرح به الجنرال ألكسندر سيرسكي، القائد العام للقوات المسلحة  الأوكرانية، في مقابلة مع  القناة  الأوكرانية "TSN"، في 19 يناير/كانون الثاني الماضي، سُجِّل في الشهور الأخيرة من العام الماضي انخفاض في معدل استهلاك الجيش الروسي لذخيرة المدفعية إلى النصف تقريبا. فبينما كان الرقم سابقا يصل إلى 40 ألف قذيفة يوميا، أصبح 20 ألف قذيفة فقط، مقابل ارتفاع عدد القذائف التي يطلقها الجيش الأوكراني إلى 15 ألف قذيفة.

وفي الوقت ذاته، فإن الخسائر البشرية الكبيرة لا تعتبر مشكلة عسكرية كبيرة بالنسبة لروسيا، على المدى المنظور، لأنها ما زالت تستطيع تجنيد ما يكفي من جنود جدد والزج بهم إلى جبهات القتال بسبب الميزان الديموغرافي الراجح لصالحها. بالإضافة إلى حصولها على دعم من كوريا الشمالية بالجنود في مقاطعة كورسك. وعلى المدى الطويل من المتوقع أن يشكّل ما سبق معضلة شائكة بالنسبة لروسيا، لأن قواتها تخسر مع مرور الوقت جزءا كبيرا من خبراتها وكوادرها العسكرية عالية التدريب، ناهيك عن ردود الفعل المجتمعية السلبية على الخسائر الفادحة بالأرواح.

من المتوقع أن تمر أوكرانيا بمرحلة عدم استقرار سياسي، وأن يواجه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي وحكومته ضغوطا هائلة لإعادة بناء البلاد واستعادة الاستقرار

وفي المقابل، أصبحت أوكرانيا أيضا منهكة بعد ثلاث سنوات من القتال، وتعاني نقصا كبيرا في الأسلحة والذخائر، وصعوبات متزايدة في تعبئة الجنود. وتخسر البلاد المزيد من الأراضي على الجبهات، في عملية قضم تدريجي فرغم الدعم الغربي الكبير والمكثف لحقت بأوكرانيا خسائر فادحة في المعدات العسكرية، بما في ذلك دبابات ومدافع وطائرات مسيرة. ويبدو اليوم أن أوكرانيا لا يمكنها المراهنة على استمرار الدعم الغربي بالوتيرة السابقة، فالبلدان الأوروبية ليست قادرة على تعويض أوكرانيا عن توقف، أو تراجع الدعم العسكري الأميركي.

وأقر الرئيس الأوكراني في مقابلة له مع قناة "إن بي سي نيوز"، يوم الجمعة 16 فبراير/شباط الماضي، بأن فرصة أوكرانيا ستكون ضئيلة للبقاء على قيد الحياة دون دعم الولايات المتحدة.

الخسائر بالأرقام

يحجم الجانبان عن كشف الخسائر، ووفقا للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (IISS)، خسرت روسيا منذ بداية العدوان في فبراير/شباط 2022 وحتى مطلع 2025، ما لا يقل عن 783 ألف جندي وضابط، ويشمل ذلك 172 ألف قتيل و611 ألف جريح، من بينهم 376 ألفا أصيبوا بجروح خطيرة أدت إلى إعاقة وعدم القدرة على مواصلة الخدمة العسكرية، أما الآخرون فقد أصيبوا بجروح يمكن الشفاء منها وعادوا إلى الخدمة.

وفيما يتعلق بخسائر المركبات المدرعة، يقدر محللو المركز أن قوات الدفاع الأوكرانية قد عطلت ما يقرب من 1400 دبابة قتال رئيسة وأكثر من 3700 مركبة مشاة قتالية وناقلات جنود مدرعة تابعة للجيش الروسي. وإجمالا، منذ 24 فبراير 2022 وحتى نهاية ديسمبر/كانون الأول 2024، بلغت خسائر روسيا من المركبات المدرعة حوالي 14 ألف مركبة قتالية.

وبالنسبة لخسائر الجانب الأوكراني تختلف التقديرات حول الخسائر البشرية التي لحقت بالقوات المسلحة الأوكرانية. غير أنه وفقا لصحيفة "بوليتكو" الأميركية، كشف الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، في 9 ديسمبر 2024، عن مقتل 43 ألف جندي أوكراني، وجرح 370 ألفا آخرين، منذ بداية الحرب 2022. وتؤكد الكثير من المصادر أن عدد القتلى أعلى بكثير من الرقم الذي قدمه زيلينسكي، فهذا الرقم يتعلق بالمراحل الأولى من الحرب.

أ.ب
أندري روبليوك، الرقيب الأول في وحدة استخبارات أوكرانية فقد ذراعيه وساقه في القتال، يحمل بندقية أثناء التدريب العسكري بالقرب من كييف، أوكرانيا، في 14 فبراير 2025

وإلى جانب أعداد القتلى العسكريين، قالت مصادر في الأمم المتحدة، في يناير/كانون الثاني الماضي، إن حوالي 12300 مدني أوكراني قتلوا خلال ثلاث سنوات من الحرب.

ولا توجد تقديرات مؤكدة حول حجم الأسلحة والمعدات التي خسرتها أوكرانيا منذ بداية الحرب. لكن بعض التقارير، استنادا إلى بيانات مفتوحة، تشير إلى أن أوكرانيا فقدت 700 دبابة، و800 ناقلة جنود، و900 عربة قتال مدرعة، وما يقارب 80 طائرة مقاتلة.

تحديات اليوم التالي إذا توقفت الحرب

يرى خبراء غربيون أن أحد شروط نجاح إيجاد تسوية سياسية للحرب الأوكرانية يتطلب تغيرات داخلية في روسيا وأوكرانيا. ويحذر الخبراء من أن التحديات التي من المرجح أن تواجه موسكو وكييف بعد وقف الحرب قد تدفع  نحو مواصلة الحرب، في مسعى سيبذله كل طرف لتقريب شروط التسوية ومخرجاتها من مطالبه.

وعلى الرغم من أن 79 في المئة من الروس يدعمون توقيع معاهدة سلام مع أوكرانيا، بحسب دراسة أجرتها مجموعة الأبحاث "راشان فيلد" في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. وتأييد 52 في المئة من الأوكرانيين إجراء مفاوضات مع روسيا لإنهاء القتال، وفقا لاستطلاع أجرته مؤسسة "غالوب" في الشهر نفسه.

ومن المتوقع أن تمر أوكرانيا بمرحلة عدم استقرار سياسي، وأن يواجه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي وحكومته ضغوطا هائلة لإعادة بناء البلاد واستعادة الاستقرار. وقد تنشأ قوى معارضة داخلية تطالب بإصلاحات سياسية جذرية، تضع المستقبل السياسي للرئيس زيلينسكي والمقربين منه على المحك. مع الإشارة إلى أن الانتخابات الرئاسية الأوكرانية كان من المقرر إجراؤها في نهاية مارس/آذار 2024، لكن هذا الاستحقاق أُلغي في ظل استمرار الحرب، وانتهت ولاية زيلينسكي في 20 مايو/أيار الماضي. وستعاني البلاد من انقسامات في المجتمع ستخلفها الحرب، حيث قد يظهر قلق بشأن القومية والهوية الوطنية، خاصة في المناطق التي شهدت معارك عنيفة أو التي ستبقى خاضعة للسيطرة الروسية.

أثار الانقلاب المفاجئ لإدارة ترمب على السياسة الأميركية المتبعة منذ ثلاث سنوات تجاه أوكرانيا مخاوف من أن الصين قد تتجرأ على دفع مطالبتها الإقليمية في تايوان

بالإضافة إلى ما سبق، ستعترض التعافي الاقتصادي لأوكرانيا عقبات هائلة، تتمثل في إعادة بناء البنية التحتية المدمرة، مثل الطرق والجسور والمرافق العامة والمستشفيات والمدارس. والانكماش الشديد في الاقتصاد، مع انخفاض كبير في الناتج المحلي الإجمالي، وتراجع في الإنتاج الصناعي والزراعي.

ما يؤكد أن عودة الأوضاع الاقتصادية في أوكرانيا إلى ما كانت عليه قبل الحرب ستستغرق وقتا طويلا. ويزيد من صعوبتها الأطماع الأميركية في الثروات الطبيعية الأوكرانية. فضلا عن أن ملايين الأوكرانيين الذين فقدوا منازلهم سيكونون بحاجة إلى إعادة توطينهم ودمجهم في المجتمع، الأمر الذي سيشكل تحديات إنسانية واجتماعية ومالية ضخمة.

وبدورها ستواجه روسيا أيضا في اليوم التالي للحرب تحديات اقتصادية وسياسية واجتماعية كبيرة. ففي حال استمرار العقوبات الغربية، وهذا مرجح في المدى المنظور، ستعيق هذه العقوبات إمكانية استعادة الاقتصاد الروسي لوضعه الطبيعي، لا سيما إذا بقيت العقوبات لفترة طويلة.

وقد يعاني الاقتصاد الروسي من ركود وانكماش طويل الأمد، مع تراجع واردات قطاعي النفط والغاز اللذين يشكلان جزءا كبيرا من عائدات الدولة. علاوة على ذلك، ستكون هناك حاجة لإعادة بناء بعض القطاعات التي تضررت بسبب الحرب. وسيتأثر القطاع الخاص الروسي بقوة بالعقوبات الغربية، خاصة الشركات الروسية العاملة في قطاع التكنولوجيا والابتكار.

رويترز
جسر رومانييفسكا فوق نهر إربين الذي دمر في بداية حرب روسيا على أوكرانيا في اليوم الذي يصادف الذكرى الثالثة للغزو الروسي، في إربين، خارج كييف، أوكرانيا، 24 فبراير 2025

وعلى المستوى السياسي، من غير المستبعد أن تظهر انقسامات داخل النخبة الروسية بشأن مستقبل البلاد بعد الحرب، خاصة إذا فشلت الحكومة في تحقيق أي انتصارات ملموسة، أو عدم تحقيق الأهداف التي تم الترويج لها كسبب للحرب. وقد يواجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وحكومته تحديات سياسية كبيرة، وغير مسبوقة، بعد توقف الحرب، حيث سيكونون تحت ضغط من الشعب الروسي الذي قد يعبر عن استيائه من الخسائر البشرية والاقتصادية الكبيرة.

وفي المحصلة الإجمالية، حتى لو توقفت الحرب الأوكرانية ستترك بصمتها العميقة على العالم، سواء من الناحية السياسية أو الاقتصادية أو الإنسانية. فتوقفها لن يعني نهاية التحديات، فهذه الحرب شكلت نقطة تحول في العلاقات الجيوسياسية، حيث أعادت تشكيل التحالفات العالمية وزادت من حدة الانقسامات بين الشرق والغرب. كما أنها كشفت عن مدى هشاشة الأمن الأوروبي وأعادت النقاش حول أهمية الردع العسكري والدبلوماسي، وسيستمر هذا النقاش خلال الفترة القادمة، لأن خطة الرئيس ترمب تتحدث عن تجميد الحرب، وليس تسوية سياسية تعالج جذور الأزمة، على أسس متوازنة.

تأثير التقارب الروسي الأميركيعلى الملفات العالمية

أثار الانقلاب المفاجئ لإدارة ترمب على السياسة الأميركية المتبعة منذ ثلاث سنوات تجاه أوكرانيا مخاوف من أن الصين قد تتجرأ على دفع مطالبتها الإقليمية في تايوان. ويسود اعتقاد لدى فريق واسع من الخبراء أن حل الأزمة في أوكرانيا وإلقاء أعباء حلها على الجانب الأوروبي جاء ضمن استراتيجية ترمب للتفرغ لمواجهة الصين. وفي المقابل، فإن الصين كانت المستفيد الأكبر من دروس الحرب الروسية الأوكرانية، وأصبحت على علم بما يمكن أن يقدم عليه الأوروبيون والأميركيون في حال التحرك عسكريا لضم تايوان، ومن غير المستبعد أن يذهب ترمب إلى عقد صفقات مع الصين انطلاقا من المبدأ الذي بات واضحا وهو التفاوض بعقلية التاجر أو المطور العقاري. 

بعيدا عن قضية تايوان، فإن التقارب الروسي الأميركي في حال أدى إلى اختراقات حقيقية في التعاون الاقتصادي والاستثماري، سوف يخفف من اعتماد روسيا الكبير على الصين

ومع التغيير الجذري في موقف ترمب، ووصفه الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي، بأنه "ديكتاتور" والتشكيك في شرعيته ونسبة التأييد الشعبي له، وقبلها تصريحات عدد من المسؤولين الأميركيين بأن أوكرانيا لن تكون عضوا في "الناتو"، وأنه يجب أن تقدم تنازلات مع استحالة العودة إلى حدود 2014، لا توجد ضمانة بأن هذه المقاربة لن تنطبق على قضية تايوان.

وكما تؤكد تصريحات المسؤولين الروس أن أوكرانيا منحة البلاشفة ودولة مصطنعة، تنطلق الصين من أن جزيرة تايوان تابعة لها، ولم يستبعد الرئيس الصيني شي جينبينغ الاستيلاء عليها بالقوة. وتلتزم الولايات المتحدة بتزويد تايوان بما يكفي من المعدات والتكنولوجيا لصد الغزو من البر الرئيس، لكنها تحافظ على سياسة "الغموض الاستراتيجي" بشأن ما إذا كانت ستأتي للدفاع عن تايوان.

وفي الآونة الأخيرة، كان ترمب أكثر انتقادا لتايوان، قائلا إنه يجب عليها أن تدفع للولايات المتحدة مقابل دفاعها العسكري، وفي عدة مناسبات، اتهم أيضا تايوان بأخذ أعمال تصنيع رقائق الكمبيوتر بعيدا عن الولايات المتحدة، وأشار إلى أنه قد يفرض تعريفات جمركية على أشباه الموصلات.

وفي الوقت نفسه، عيّن ترمب الكثير من الصقور فيما يخص التعامل مع الصين في إدارته، بما في ذلك في مناصب رفيعة المستوى مثل وزير الخارجية ماركو روبيو، ووزير الدفاع بيت هيغسيث. وبعد اجتماعه مع حلفاء "الناتو" في بروكسل منتصف فبراير/شباط، أكد هيغسيث أنه إذا كانت الولايات المتحدة ستسحب دعمها من أوكرانيا، فسيكون ذلك للتركيز على منطقة آسيا والمحيط الهادئ وترك الدفاع الأوروبي للأوروبيين في المقام الأول. وبعد أيام قليلة، أصدر روبيو بيانا مشتركا مع نظرائه من اليابان وكوريا الجنوبية بعد أن التقوا على هامش مؤتمر أمني في ميونيخ، أكدوا فيه على "أهمية الحفاظ على السلام والاستقرار عبر مضيق تايوان كعنصر لا غنى عنه للأمن والازدهار للمجتمع الدولي".

وعموما فإن التحول في الموقف الأميركي نحو أوكرانيا سيعطي الفرصة للصين لدفع رسالة مفادها أن الولايات المتحدة شريك لا يمكن الاعتماد عليه، ولكن من غير المرجح أن تقرأ بكين استعداد واشنطن الظاهري للتنازل عن الأراضي الأوكرانية على أنه يعني أنها منفتحة بطريقة ما على سقوط تايوان في أيدي الصين.

وبعيدا عن قضية تايوان، فإن التقارب الروسي-الأميركي في حال أدى إلى اختراقات حقيقية في التعاون الاقتصادي والاستثماري، سوف يخفف من اعتماد روسيا الكبير على الصين وتحولها عمليا في السنوات الأخيرة إلى الشريك الأصغر، ويمكن في حال رفع العقوبات كما تريد روسيا أن يرتفع التبادل التجاري مع الغرب، وتحصل على التقنيات الغربية اللازمة لها بشدة في قطاعات النقل والنفط والتقنيات العالية.

ونظرا لتأكيد روسيا أن المفاوضات تتعلق بقضايا التوازن الاستراتيجي العالمي، والحد من التسليح، فإن الولايات المتحدة قد تنجح في كسب موافقة روسيا على ضرورة توقيع إدراج الترسانة الصاروخية النووية الصينية في أي اتفاقات تسليح جديدة، ومعلوم أن الصين هي البلد الثاني عالميا في الإنفاق العسكري بعد الولايات المتحدة.

التأثير على بلدان الاتحاد السوفياتي

يمكن نجاح المفاوضات الروسية- الأميركية وفق شكل أقرب إلى موقف الكرملين من زيادة مخاوف جيران روسيا في جورجيا وبلدان آسيا الوسطى، وخصوصا كازخستان التي فجرت تصريحات مسؤولين روس حولها أزمات دبلوماسية بعد تصريحات برلمانيين روس بأن كازخستان لم تكن دولة قبل سيطرة الإمبراطورية الروسية عليها في القرن التاسع عشر، وأن موسكو عاصمة الاتحاد السوفياتي قد منحتها أراضي روسية.

تسود مخاوف لدى الجارات السوفياتيات القديمات في البلطيق لاتفيا وأستونيا وليتوانيا، من أن بوتين قد يستغل وجود جاليات روسية وازنة للتدخل عسكريا فيها، وبالحجج التي استخدمها في شرق أوكرانيا

وتخشى مولدوفا من فقدان الدعم الأميركي بما يفتح المجال لفتح شهية روسيا لضم إقليم ترانسنستيريا الانفصالي، ومعلوم أن أكثر من ثمانين في المئة من سكان الإقليم حصلوا على جنسية روسيا. وتطال المخاوف انفصال إقليم غاغوزيا الذي تقطنه أغلبية تركية ولكنها تتبع الديانة المسيحية الأرثوذكسية، والإقليمان الانفصاليان صوتا ضد الرئيسة مايا ساندو في الانتخابات الأخيرة، كما صوتت أغلبية كبيرة فيهما ضد الانضمام للاتحاد الأوروبي وهو تعديل دستوري أقر بفارق آلاف الأصوات بفضل الجاليات الملدوفية في الخارج.

ورغم التقارب الكبير بين جورجيا بقيادة حزب "الحلم الجورجي" والكرملين في السنوات الأخيرة، وتأكيد قيادات الحزب أن رفض مساعدة أوكرانيا، وعدم فرض عقوبات على روسيا يساهم في عدم انجرارها إلى الحرب، فإن فرض ترمب تسوية على أوكرانيا أقرب إلى وجهة نظر موسكو، يهدد بأن تضم موسكو الإقليمين الانفصاليين في أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، واللتين احتلتهما روسيا بعد حرب 2008، ودعمت حكاما انفصاليين سياسيا واقتصاديا.

وعلى عكس المخاوف، فإن بيلاروسيا ترحب بالتقارب الروسي الأميركي، وترى فيه فرصة لرفع العقوبات عنها من جهة، ومن جهة أخرى تمنح رئيسها ألكسندر لوكاشينكو من جديد مجالا للتخلص من تبعيته المطلقة لروسيا منذ انتخابات 2020، وما تلاها من عقوبات. 

وتسود مخاوف لدى الجارات السوفياتيات القديمات في البلطيق لاتفيا وأستونيا وليتوانيا، من أن بوتين قد يستغل وجود جاليات روسية وازنة للتدخل عسكريا فيها، وبالحجج التي استخدمها في شرق أوكرانيا.

أ.ف.ب
حطام بجوار دار الثقافة بعد الضربة الأخيرة في بلدة بيليتسكي، أوكرانيا في 24 فبراير 2025

إيران 

في 20 فبراير/شباط الماضي حذرت صحيفة "جمهوري إسلامي" الإيرانية المحافظة السلطات من أن موسكو قد تضحي بالمصالح الإيرانية مقابل تنازلات من واشنطن بشأن النزاع الأوكراني.

ورجحت الصحيفة أن أي اتفاق روسي أميركي قد يؤدي إلى حصول روسيا على مكاسب إقليمية في أوكرانيا مقابل منح    واشنطن المزيد من النفوذ لحماية مصالح إسرائيل في الشرق الأوسط.

وكتبت الصحيفة في افتتاحيتها تحت عنوان "نحن وصفقة موسكو وواشنطن الكبرى"، أن "إيران ستُجرّ إلى هذه المعادلة إلى جانب لبنان وسوريا والعراق وفلسطين... وروسيا ستغضّ الطرف عن أي إجراءات قد تتخذها الولايات المتحدة ضد إيران".  وحذرت صحيفة "جمهوري إسلامي" من أن موسكو قد تغدر بإيران مرة أخرى إذا ساعدت واشنطن روسيا على الخروج منتصرة في أوكرانيا، وحضت الصحيفة السلطات الإيرانية على توخي اليقظة ووضع استراتيجية للتخفيف من عواقب مثل هذه الصفقة.

وأعربت صحيفة "شرق" الإصلاحية اليومية عن قلق مماثل في مقال بعنوان "هل ستتم التضحية بطهران في صفقة بين ترمب وبوتين؟" وحضت الصحيفة السلطات الإيرانية على اتخاذ قرار سريع بشأن ما إذا كانت ستواصل المفاوضات المباشرة مع الولايات المتحدة حول برنامجها النووي.

font change