بالعودة إلى ذاكرة "شارع الأعشى" تتجلى أمامنا حياة كاملة لأحد شعراء المعلقات وطبقة فحول الشعراء، هو الشاعر العربي ميمون بن قيس بن جندل الملقب بالأعشى والذي لم يبق منه اليوم غير ذاكرته المكانية، وشارعه بحي منفوحة، ومدرسة حملت اسمه، وسيرته الشعرية الخالدة الشاهدة على قيمة الذاكرة المكانية.
أما اليوم، وأمام مسلسل حمل اسم الشاعر والشارع معا، فإننا نتخلى عن الذاكرة التي عاشها الشاعر الأعشى منتقلين إلى ذاكرة الحي الشعبي والتحولات المجتمعية التي عاشها السعوديون في قلب الرياض في السبعينات والثمانينات، حيث كانت المدينة على أعتاب تغيرات معرفية وثقافية ودينية كبرى تناولتها رواية "غراميات شارع الأعشى" للروائية السعودية بدرية البشر والتي يعرض مسلسلها حاليا على شاشة "1-MBC" هذه الرواية التوثيقية المفعمة بالرومانسية، والقائمة على تتبع حياة ثلاث بطلات يبحثن عن حريتهن في مجتمع غلب عليه طابع التقليد، والانتقال إلى عصر جديد مليء بالتحديات والأحلام.
أخذنا المسلسل منذ شارته الإعلانية إلى حارة شعبية تقع على أعتاب شارع الأعشى في منطقة منفوحة، حيث تتقاطع مسارات ثلاث شخصيات رئيسة في رحلة مليئة بالتمرد على القيود والبحث عن الذات، لتتبلور بالتوازي مع أحداث الرواية قصة "شارع الأعشى" في قالب درامي يمزج بين الواقعية والمشاعر الإنسانية، والذاكرة المكانية.
تنطلق الأحداث من خلال شخصية عزيزة التي تتذبذب بين التقليد والتمرد عليه. هذه الفتاة المأسورة بأفلام الأبيض والأسود، والتي ترى قدوتها في الفنانة المصرية سعاد حسني. لتجد نفسها في مواجهة الحب وتستوعب مع تقادم الأحداث أنه ليس سهلا كما في الأفلام. ويحدث ذلك حين تصطدم مع الواقع بمفاجآت كثيرة تنمّي داخلها فكرة الهروب للتراجع فجأة عنه حينما تتقين بأن الهرب ليس الحل النهائي لمشاعرها.
أبرز المسلسل صراع الهويات والتحولات الثقافية بين الحياة التقليدية في القرى والواقع المدني المتغير وهو أحد المواضيع الرئيسة التي تناولتها الرواية الأصلية
أما وضحى فهي فتاة بدوية ترعرعت في بيئة بسيطة، وجدت بأن فرارها من الفقر إلى سوق الحريم بداية جديدة غيرت مجرى حياتها. ففي تلك السوق، نشأت وغدت تاجرة كبيرة مثبتة بذلك قدراتها في تحدي الواقع، وفرض نفسها في زمن طارد للمرأة، وبيئة معقدة مليئة بالمنافسة والصراعات.
فيما جاءت عطوة آخر بطلات الرواية التي تهرب من قريتها الصغيرة لتجد نفسها في الرياض المتحولة كليا والبعيدة كثيرا عن بيئتها لتتخذ قرارا بإعادة بناء هويتها في مدينة حديثة متشكلة، لتكتب قصة استقلالها وتمردها، متخلصة بذلك من قيود المجتمع التقليدي الذي تربّت فيه.
لم تقتصر رواية "غراميات شارع الأعشى" التوثيقية على قصة بطلاتها الثلاث، بل أظهرت التغيرات الكبيرة التي مرت بها السعودية في حقبة السبعينات وما تلاها حيث كانت تُبذر القصص العاطفية على أسطح المنازل إلى أن تُكتشف فتقتلع.
استطاعت أحداث المسلسل الأولية نقل المشاهد من الزمن إلى الآلة عبر استحضار حقبة دخول التلفزيون الملون إلى البيوت. تلك الحقبة التي شهدت تطورات وتغيرات جذرية تزامنت مع بداية فترة الشحن الديني المتطرف ضد تلك التحولات التي عاشتها الرياض كجزء من الحداثة.
من بين تلك التحولات ظهر الشاب سعد، الجار الذي يحاول أن يجد هويته في هذه البيئة المتحولة، ليختتم مصيره بشكل درامي بانضمامه إلى جماعة جهيمان التي قامت باحتلال المسجد الحرام عام 1979، ليصبح أحد ضحايا هذا التحول الديني الحاد.
أبرز المسلسل صراع الهويات والتحولات الثقافية بين الحياة التقليدية في القرى والواقع المدني المتغير وهو أحد المواضيع الرئيسة التي تناولتها الرواية الأصلية.. ذلك الصراع الذي ولدته الحداثة أظهر منذ الحلقات الأولى مدى ما واجهته الشخصيات من التحولات الداخلية سعيا منها للبحث عن نفسها، مما شكل فرصة حقيقية لجمهور أوسع للتفاعل مع الأحداث والشخصيات التي عاشت في تلك الحقبة الزمنية التي لا يمكن فصلها عن الذاكرة السعودية.
قد يلمس المشاهد الذي سبق له وأن قرأ النص الروائي أن المسلسل سدد بعض ثغراته، وقلّص بعض هفوات الراوي العليم بتسليطه الضوء على التوترات الدينية والاجتماعية
قد يلمس المشاهد الذي سبق له وأن قرأ النص الروائي أن المسلسل سدد بعض ثغراته، وقلّص بعض هفوات الراوي العليم بتسليطه الضوء على التوترات الدينية والاجتماعية والتحولات الاقتصادية التي اجتاحت الرياض وغيرها من المدن والمحافظات في تلك الحِقبة الزمنية عبر أسلوب الاسترجاع لقضايا الهوية، والحب، والمجتمع بطريقة درامية جذابة. ومع تصاعد الأحداث في الحلقات القادمة لا شك سيظهر أمام المتابع المزيد من التطورات التي برز فيها دور المخرج التركي أحمد كاتيكسيز وأداء نخبة الممثلين الذين قدموا صورة تاريخية مقاربة لذلك الزمن الأصيل بكل ما فيه.
يمكن القول إن الفنانة السعودية إلهام علي نجحت حتى الآن في تجسيدها لدور وضحى المليئة بالعواطف والصرامة والتحديات بل وأسرت المشاهدين بأدائها الفني كما تعدى الأمر إلى باقي الفنانين مثل خالد صقر، وريم الحبيب، وتركي اليوسف، وغيرهم، الذين أثبتوا قدراتهم على تجسيد شخصيات الرواية، ما أضاف قيمة كبيرة للعمل الفني الذي يعكس جوانب اجتماعية وذاتية بطريقة فنية وواقعية في آن واحد.
من خلال مشاهد الحلقات الأولى للمسلسل يكتشف المشاهد ذلك التماسك الدرامي الذي يؤكد ما بذلته الروائية بدرية البشر في نصّها إضافة إلى الجهود الكبيرة التي بذلها فريق السيناريست التركي عبر توظيف الجوانب الإبداعية في هذه الرواية التي قدمت "شارع الأعشى" كعمل درامي سعودي جذب المتابعين من خلال مادة فنية تحاكي الماضي بكل تفاصيله مؤكدا بذلك أن الذاكرة السعودية لا يستطيع كتابتها وتوثيقها بأدق تفاصيلها إلا السعوديون أنفسهم...