معركة الهيمنة التكنولوجية... هل تنجح الصين في مواجهة التحدي الأميركي؟

AFP
AFP
الرئيس الأميركي دونالد ترمب

معركة الهيمنة التكنولوجية... هل تنجح الصين في مواجهة التحدي الأميركي؟

في الجانب الغربي من ساحة تيان ان مين بالعاصمة الصينية بكين، تقع "قاعة الشعب الكبرى" التي تُعد أحد أهم المعالم السياسية في الصين. تُعتبر تلك القاعة التي تم تشييدها عام 1959، مقر انعقاد الاجتماعات الكبرى للحكومة الصينية، بما في ذلك المؤتمر الوطني لنواب الشعب الصيني والجلسات المهمة للحزب الشيوعي الصيني.

تتميز القاعة بتصميم معماري ضخم وفخم، وتضم قاعة رئيسة تتسع لآلاف الأشخاص، إلى جانب قاعات أصغر وغرف استقبال رسمية تستخدم لاستضافة الأحداث الديبلوماسية والاجتماعات السياسية الرفيعة المستوى، مما يجعلها رمزا للسلطة السياسية في الصين.

في تلك القاعة؛ استضاف الرئيس الصيني شي جين بينغ قادة قطاع التكنولوجيا في الصين في اجتماع نادر جمع فيه نخبة من رجال الأعمال الذين يقودون كبرى الشركات، وخاصة في قطاع التكنولوجيا.

شهدت القاعة ذاتها لقاء مماثلا عام 2018 خلال تصاعد الحرب التجارية مع واشنطن أبان ولاية الرئيس الأميركي دونالد ترمب الأولى. ويأتي هذا الاجتماع في وقت تواجه فيه الصين تحديات اقتصادية متزايدة، وسط تباطؤ النمو والقيود الأميركية المفروضة على قطاعها التكنولوجي، مما يسلط الضوء على أهمية دعم الابتكار المحلي وتعزيز الثقة في الشركات الخاصة لدفع عجلة الاقتصاد.

ففي الصين؛ لا تزال الصادرات القوية عاملا رئيسا في دعم الاقتصاد، لكنها أصبحت مهددة بفعل السياسات التجارية للرئيس الأميركي، الذي فرض تعريفات جمركية تصل إلى 10% على جميع السلع الصينية و25% على الصلب والألمنيوم.

يهدف هذا الاجتماع إلى إعادة بناء العلاقات بين الحكومة الصينية والقطاع الخاص بعد سنوات من التوتر، وهو تقارب يبدو حتميا في ظل رغبة بكين في تعزيز قدراتها التكنولوجية، خاصة في مواجهة العقوبات والإجراءات المتزايدة من واشنطن التي تهدف إلى إبطاء التقدم التكنولوجي الصيني.

رويترز
شاشة عملاقة تعرض لقطات إخبارية للرئيس الصيني شي جين بينغ وهو يصافح مؤسس "علي بابا"، جاك ما، خلال ندوة حول الشركات الخاصة، في مجمع تسوق في بكين.

شهد الاجتماع حضور أسماء بارزة مثل جاك ما، مؤسس شركة "علي بابا"، وليانغ وينفينغ"، مؤسس شركة "ديب سيك"، التي حققت أخيرا شهرة واسعة بعد تطويرها نموذج الذكاء الاصطناعي المتقدم بتكلفة أقل، مقارنة بالمنافسين.

ما لفت الانتباه هو حضور جاك ما، مؤسس "علي بابا"، وظهوره مجددا في الأضواء بعد توتر علاقته مع الرئيس الصيني منذ عام 2020

يأتي الاجتماع بعد أيام قليلة من قمة باريس، التي عقدت في الفترة من 6 إلى 11 فبراير/شباط، وناقشت سياسات الذكاء الاصطناعي، في حضور ممثلين عن الحكومات وكبار قادة شركات التكنولوجيا، وركزت على سبل تطوير أبحاث الذكاء الاصطناعي، إضافة إلى مسألة تنظيم هذا المجال أو اتباع النهج الأميركي القائم على إلغاء التشريعات والاعتماد فقط على الابتكار والتطوير.

لا شك أن الرئيس الصيني يسعى جاهدا لتعزيز الشراكة مع القطاع الخاص لمواكبة التطورات التكنولوجية في الولايات المتحدة، لا سيما في ظل المشاريع الأميركية الكبرى مثل "ستارغيت" الذي يهدف إلى إنشاء مراكز بيانات ضخمة، مما يعكس جهود بكين في توسيع بنيتها التحتية الرقمية وتعزيز ريادتها في المجال التكنولوجي.

اجتماع صيني مهم

في ذلك الاجتماع؛ ألقى رن تشنغ فاي، مؤسس "هواوي"، كلمة ركز فيها على جهود الاكتفاء الذاتي في التكنولوجيا، فيما تحدث وانغ تشوانفو، رئيس "بي واي دي" عن توسع الشركة في سوق السيارات الكهربائية عالميا. كما شارك في النقاش ليو يونغهاو، رئيس مجموعة "نيو هوب" التي تعد رائدة في قطاع التكنولوجيا الزراعية، بالإضافة إلى يو رينرونغ، رئيس شركة "شنغهاي ويل" لأشباه الموصلات الذي يمثل قطاع أشباه الموصلات، ولي جون، الرئيس التنفيذي لـ"شاومي" التي تسعى لمنافسة "تسلا" في سوق السيارات الكهربائية.

ولم يقتصر الحضور على العمالقة التقليديين، بل برز أيضا مؤسسو الشركات الناشئة مثل وانغ شينغشينغ، مؤسس "يوني تري روبوتيكس" المتخصصة في الروبوتات، وبوني ما، الرئيس التنفيذي لـ"تينسنت" واخرين، في إشارة واضحة إلى أهمية القطاع الخاص في مستقبل الاقتصاد الصيني. ونقلت "رويترز" عن مصادر شبة رسمية بأن القطاع الخاص في الصين، الذي ينافس الشركات المملوكة للدولة، يساهم بأكثر من نصف الإيرادات الضريبية، وأكثر من 60% من الناتج الاقتصادي، و70% من الابتكار التكنولوجي، ولذلك التحدث معهم امر حيوي بالنسبة الى الحكومة الصينية التي تريد ان تتقدم بوتيرة أسرع من الولايات المتحدة.

GettyImages
أحد الزوار يصافح يد روبوت خلال معرض بكين الدولي السادس والعشرين للتكنولوجيا الفائقة

ما لفت الانتباه هو حضور "جاك ما" مؤسس "علي بابا"، وظهوره مجددا في الأضواء بعد توتر علاقته مع الرئيس الصيني منذ عام 2020، وذلك عقب خطابه الشهير الذي قارن فيه البنوك المملوكة للحكومة الصينية بمحلات الرهن، وألقى باللوم على الحكومة الصينية في تقييد الابتكار من خلال فرض تشريعات وقوانين صارمة وقال وقتذاك إن المستقبل يعتمد على الابتكار وليس على القوانين والتنظيمات، وقد كان هذا الخطاب بمثابة صدمة للحكومة الصينية، التي سعت إلى إبعاده عن الأضواء في محاولة لمنعه من الإدلاء بمثل هذه التصريحات المثيرة للجدال في أوساط قطاع الأعمال الصيني.

ادعى ترمب أن الرسوم الجمركية التي فرضها، ساهمت في إثراء الولايات المتحدة، مشيرا إلى أن البلاد تجني "مليارات الدولارات" من "الرسوم الجمركية المفروضة على الصين".

ومع ذلك، فإن دعوة جاك ما الى حضور هذا الاجتماع مع الرئيس الصيني، تحمل العديد من الرسائل، أبرزها أن بكين تستعين بكل إمكاناتها وشركاتها لتعزيز موقفها في المنافسة التكنولوجية ضد الولايات المتحدة، وأيضا في مواجهة الحرب التجارية التي أطلقها دونالد ترمب ضد الصين عبر فرض قيود جمركية تهدف الي فرض عقبات جديدة امام النمو الصيني الاقتصادي والتكنولوجي المتسارعين.

تعريفات ترمب الجمركية

فرضت إدارة الرئيس الأميركي السابق سلسلة من الرسوم الجمركية ضمن استراتيجيته الاقتصادية "أميركا أولا" بهدف تقليل العجز التجاري عبر التحول من اتفاقيات التجارة الحرة إلى صفقات ثنائية.

بدأت هذه الإجراءات في 2018 بفرض رسوم على واردات الألواح الضوئية الجهدية والغسالات، تلتها رسوم على الصلب والألمنيوم وشملت تلك الإجراءات الصين، وكندا، والمكسيك.

وقد أدت هذه السياسة إلى حرب تجارية مع الصين، حيث تبادلت الدولتان فرض رسوم جمركية بمليارات الدولارات، مما أثر على الشركات والمزارعين الأميركيين. كما ردت دول أخرى، مثل كندا والهند، بإجراءات انتقامية. لمواجهة تأثير الحرب التجارية، خصصت إدارة ترمب 12 مليار دولار لدعم المزارعين الأميركيين المتضررين.

رغم نجاح المفاوضات مع كندا والمكسيك في مايو/أيار 2019 ورفع الرسوم على منتجاتهما، استمر ترمب في استخدام الرسوم الجمركية كأداة ضغط، حتى أنه هدد بفرض رسوم على المكسيك للحد من الهجرة غير الشرعية.

في نوفمبر/تشرين الثاني 2018، ادعى ترمب أن الرسوم الجمركية التي فرضها، ساهمت في إثراء الولايات المتحدة، مشيرا إلى أن البلاد تجني "مليارات الدولارات" من "الرسوم الجمركية المفروضة على الصين".

GettyImages
جي دي فانس، نائب الرئيس الأميركي، يتحدث في قمة عمل الذكاء الاصطناعي في باريس، فرنسا

وأكد أن الشركات التي لا ترغب في دفع هذه الرسوم، في إمكانها نقل مقراتها إلى الولايات المتحدة، مضيفا: "وإلا، فسنواصل تعزيز اقتصادنا إلى مستويات غير مسبوقة!" غير أن خبراء الاقتصاد ومحققي الحقائق يعتبرون هذه الادعاءات غير صحيحة، إذ ذكرت وكالة "أسوشيتدبرس" أن هناك شبه إجماع بين الاقتصاديين على خطأ الرئيس، موضحة أن الرسوم الجمركية تُعد ضرائب على الواردات، مما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار، وتراجع حجم التجارة بين الدول، وبالتالي الإضرار بالنمو الاقتصادي بشكل عام.

يختلف أسلوب الرئيس الأميركي في فرض التعريفات الجمركية خلال ولايته الثانية بشكل كبير عن استراتيجيته السابقة. فبدلا من النهج التدريجي الذي اعتمده سابقا، يتبنى هذه المرة مقاربة أكثر سرعة واتساعا، تشمل فرض الرسوم على مجموعة أوسع من السلع الاستهلاكية واستخدام التعريفات كوسيلة ضغط في ملفات أخرى.

دخلت التعريفات الجمركية الأميركية حيز التنفيذ بنسبة 25% على البضائع من كندا والمكسيك، أكبر شريكين تجاريين للولايات المتحدة، والرسوم الجمركية بنسبة 20% على الصين، مما يضاعف الضريبة التي فُرضت على الصين الشهر الماضي.

هذه المرة، يعتمد ترمب على قانون صدر عام 1977 يتيح له إعلان حالة الطوارئ واتخاذ قرارات فورية، وهو ما لم يلجأ إليه خلال ولايته الأولى بين 2017 و2020. حينها، بدأ محادثات تجارية مع الصين ووقع أوامر تنفيذية في شأن التعريفات الجمركية في أوائل 2017، لكنه لم يفرض رسوما رئيسة حتى يناير/كانون الثاني 2018، عندما استهدف الألواح الشمسية والغسالات، وتبع ذلك تعريفات على الصلب والألمنيوم في مارس/آذار من العام نفسه.

أما في ولايته الثانية، فقد بادر الى فرض رسوم جديدة على الصين فورا، مع وعد بإجراء محادثات لاحقا هذا الأسبوع. ويعلق مارك بوش، المستشار السابق للحكومة الأميركية في قضايا التجارة، قائلا: "لم يكن أحد يتوقع أن يبدأ بفرض تعريفات شاملة منذ اليوم الأول"، مشيرا إلى أن هذه الخطوة ستؤثر بشكل مباشر على المستهلكين الأميركيين.

على عكس عام 2018، تبدو الدول المتضررة أكثر تحضيرا للرد على أي تعريفات أميركية جديدة، إذ أعلنت الصين بالفعل حزمة من الإجراءات الانتقامية، بينما أكدت كندا والمكسيك استعدادهما لفرض تعريفات انتقائية تستهدف الولايات الأميركية الجمهورية للضغط سياسيا على ترمب. كما تدرس المكسيك استراتيجيا "الانتقام الدوّار"، التي تعتمد على تغيير المنتجات الأميركية الخاضعة للرسوم بشكل دوري، مما يضيف حالة من عدم اليقين للشركات الأميركية.

وفي الأسبوع الأول من مارس/آذار دخلت التعريفات الجمركية الأميركية حيز التنفيذ بنسبة 25% على البضائع من كندا والمكسيك، أكبر شريكين تجاريين للولايات المتحدة، والرسوم الجمركية بنسبة 20% على الصين، مما يضاعف الضريبة التي فُرضت على الصين الشهر الماضي.

يسعى شي جين بينغ إلى التصدي للتعريفات الجمركية التي فرضها ترمب، والتي سرعت توجه الشركات بعيدا عن الصين، وهي تعريفات استمر العمل في جزء كبير منها خلال إدارة بايدن. وقد دفع ذلك شركات كبرى مثل "آبل"، و"إتش بي"، و"ديل"، إلى نقل مراكز تصنيعها إلى دول أخرى في جنوب شرق آسيا، مثل كمبوديا وفيتنام. وقد استفادت فيتنام بشكل خاص من هذه التوجهات، حيث تلقت استثمارات بلغت 290 مليار دولار منذ عام 2016، وفقا لمجلة "فورتشن".

يدرك شي جين بينغ أن لدى بكين مقومات قوية تمكنها من تجاوز هذه التحديات ومواصلة تقدمها العلمي والتكنولوجي، وهو العامل الأساس في تنافسها مع واشنطن.

كما فرضت إدارة بايدن قيودا إضافية على سلاسل الإمداد المرتبطة بالصين، وذلك ضمن قانون خفض التضخم، الذي يهدف جزئيا إلى تعزيز التصنيع المحلي، مما جعل الصين أقل جاذبية كمصدر لمكونات صناعات الطاقة النظيفة والسيارات. ووفقا لمكتب الإحصاء الأميركي، فقد تراجعت حصة الصين من إجمالي الواردات الأميركية بشكل حاد في السنوات الأخيرة، فبعد أن بلغت ذروتها عند 21.6% من إجمالي الواردات الأميركية في عام 2017، انخفضت هذه النسبة إلى 13.5% في نوفمبر/تشرين الثاني 2024.

 مشروع "ستارغيت"

يأتي الاجتماع في توقيت بالغ الأهمية، خاصة في أعقاب إعلان دونالد ترمب مشروعه الضخم "ستارغيت"، الذي يهدف إلى تعزيز تفوق الولايات المتحدة في مجال الذكاء الاصطناعي. ويشمل المشروع استثمارات تقدر بنحو 500 مليار دولار على مدى السنوات الأربع المقبلة، بهدف بناء بنية تحتية متقدمة تمكن الشركات الأميركية من توسيع الفجوة التكنولوجية بينها وبين الصين.

ورغم أن هذا التطور يشكل دفعة قوية للولايات المتحدة، إلا أنه تزامن مع تقدم صيني ملحوظ، وإن كان أقل ضخامة من حيث حجم الاستثمار. فقد كشفت الشركة الصينية الناشئة "ديب سيك" عن نموذجها المتطور "آر-1" للاستدلال العميق، الذي يتميز بتكلفة منخفضة مقارنة بالمنافسين، وقدرته على التفوق على بعض النماذج الأميركية في مهام عدة. كما أعلنت الشركة إعادة إتاحة الوصول إلى واجهة برمجة تطبيقاتها الأساسية، بعد تعليق استمر نحو ثلاثة أسابيع، وذلك عقب تقييد مؤقت فرضته بسبب الطلب الكبير على خدماتها، الذي تجاوز إمكاناتها التشغيلية.

وجاء هذا القرار في اليوم الذي كشفت فيه شركة "علي بابا" عن نموذجها الجديد "كيو دابليو كيو-ماكس" وتعهدتها باستثمار 53 مليار دولار خلال السنوات الثلاث المقبلة لتعزيز بنيتها التحتية في مجال الحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي، في خطوة استراتيجية ضخمة لشركة التجارة الإلكترونية العملاقة.

كما أعلنت قبل أسابيع خططا لجعل "كيو دابليو كيو-ماكس" مفتوح المصدر. من جهة أخرى، أعلنت شركة "بايت دانس"، المالكة لتطبيق "تيك توك"، أنها تختبر نموذجا متقدما للاستدلال العميق مع مجموعة محدودة من المستخدمين، مما يضيف منافسا محتملا آخر لـ"ديب سيك".

GettyImages
رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يصلان إلى جلسة عامة في قمة عمل الذكاء الاصطناعي في القصر الكبير في باريس

في المقابل، يدرك شي جين بينغ أن لدى بكين مقومات قوية تمكنها من تجاوز هذه التحديات ومواصلة تقدمها العلمي والتكنولوجي، وهو العامل الأساس في تنافسها مع واشنطن. ويأتي هذا الاجتماع كخطوة لجمع هذه العناصر ضمن استراتيجيا موحدة تهدف إلى دمج الموارد والتقنيات تحت مظلة واحدة: ضمان التفوق التكنولوجي للصين، الذي أصبح ضرورة حتمية في ظل احتدام المنافسة بين القوى الكبرى.

انعقاد القمة جاء في توقيت بالغ الأهمية، إذ يشهد العالم سباقا محموما بين الولايات المتحدة والصين على الهيمنة في مجال الذكاء الاصطناعي.

وتتمتع الصين بإمكانات كبيرة لمجاراة التطور الأميركي، إذ تخرّج جامعاتها سنويا نحو 3.57 مليون طالب في تخصصات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات مقارنة بنحو 820 ألف طالب فقط في الولايات المتحدة، مما يشير إلى احتمال نشوء فجوة مستقبلية لصالح بكين.

وإدراكا لأهمية البنية التحتية الرقمية، أطلقت الصين مبادرة "المراكز الخضراء للبيانات"، التي سرعت الموافقات على إنشاء 15 مركز بيانات عملاقا في منغوليا الداخلية وقانسو، مستفيدة من الطاقة الريحية والفحم المدعوم من الدولة. في المقابل، تواجه الولايات المتحدة تحديات أكبر في هذا المجال، بسبب تعقيد قوانين الطاقة التي تعيق إنشاء مراكز بيانات ضخمة تلبي الطلب المتزايد لشركات الذكاء الاصطناعي الأميركية.

قمة باريس للذكاء الصناعي

عقدت قمة باريس للذكاء الاصطناعي في  فبراير/شباط الماضي، بمشاركة ممثلين عن الحكومات وكبار قادة شركات التكنولوجيا العالمية؛ ناقشت الحكومات خلاله الاتجاهات الجديدة في مجال الذكاء الاصطناعي، وكيفية تنظيمه لمواكبة التطورات السريعة في هذا المجال. ركزت القمة على محورين رئيسين، أولهما تنظيم الذكاء الاصطناعي حيث تناولت المناقشات ما إذا كان ينبغي تبني إطار تنظيمي صارم، كما تدعو إليه بعض الدول الأوروبية، أو الاعتماد على نهج السوق الحرة، الذي تتبناه الولايات المتحدة، ويركز على الابتكار دون قيود تنظيمية كبيرة.

أما المحور الثاني فهو التعاون الدولي في تطوير الذكاء الاصطناعي حيث بحثت القمة سبل تعزيز الشراكات بين الدول والشركات الكبرى في هذا المجال، خاصة مع تصاعد التنافس بين واشنطن وبكين.

لم يكن حضور الصين في القمة بزخم الولايات المتحدة وأوروبا، حيث لم تشارك بكين بوفد حكومي رفيع المستوى، إلا أن الشركات الصينية الكبرى مثل "علي بابا"، "هواوي"، و"بايت دانس"، كانت ممثلة في القمة. وقد ركزت بكين على الدفاع عن نهجها المستقل في تطوير الذكاء الاصطناعي، مؤكدة عدم التدخل الغربي في سياساتها التكنولوجية.

انعقاد القمة جاء في توقيت بالغ الأهمية، إذ يشهد العالم سباقا محموما بين الولايات المتحدة والصين على الهيمنة في مجال الذكاء الاصطناعي. تحاول واشنطن بناء تحالف يضم دولا تتبنى القيم الغربية والديمقراطية لضمان التفوق في هذا المجال قبل أن تتمكن الصين من اللحاق بها. فالمعادلة واضحة: من يصل إلى هذا التقدم أولا سيكون هو من يضع قواعد اللعبة، بينما يضطر الآخرون إلى الامتثال لها.

بينما تستثمر واشنطن في مشاريع ضخمة مثل "ستارغيت" لضمان سيطرتها التكنولوجية، تواصل بكين استراتيجيتها الخاصة عبر دعم شركاتها المحلية، وتوسيع بنيتها التحتية الرقمية، وإعادة بناء علاقاتها مع القطاع الخاص

أثارت تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون اهتماما واسعا، إذ أشار إلى أن دول الاتحاد الأوروبي ستعيد النظر في تشريعاتها الرقمية لتسريع الابتكار وجذب الاستثمارات. وفي السياق ذاته، أكدت هَنّا فيرككونن، المسؤولة الرقمية في الاتحاد الأوروبي، أن التكتل الأوروبي يعمل على تبسيط القوانين الرقمية بما يجعلها أكثر دعما للأعمال. هذه التصريحات تعكس تحولا تدريجيا في السياسات الأوروبية نحو نهج أكثر مرونة في تنظيم قطاع الذكاء الاصطناعي، سعيا للحاق بركب المنافسة العالمية في هذا المجال الحاسم.

شهدت القمة أيضا خلافا بارزا حول إعلان مشترك في شأن تطوير ذكاء اصطناعي شامل ومستدام، حيث رفضت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة توقيعه، رغم انضمام 60 دولة أخرى، من بينها فرنسا، الصين، الهند، اليابان، أوستراليا، وكندا. الموقف الأميركي لم يكن مفاجئا، إذ انتقد نائب الرئيس جي دي فانس في خطابه خلال القمة هذه النوعية من الاتفاقيات، معتبرا أنها قد تعرقل الجهود الأميركية للهيمنة على المجال، مشددا على أن واشنطن لن تقبل بأي قيود قد تبطئ تقدمها التكنولوجي.

يتضح أن المنافسة التكنولوجية بين الولايات المتحدة والصين دخلت مرحلة غير مسبوقة، حيث تسعى كلتا الدولتين لتعزيز تفوقهما في مجالات الذكاء الاصطناعي، الحوسبة السحابية، وأشباه الموصلات. وبينما تستثمر واشنطن في مشاريع ضخمة مثل "ستارغيت" لضمان سيطرتها التكنولوجية، تواصل بكين استراتيجيتها الخاصة عبر دعم شركاتها المحلية، وتوسيع بنيتها التحتية الرقمية، وإعادة بناء علاقاتها مع القطاع الخاص. في ظل هذه المعطيات، يبدو أن السنوات المقبلة ستشهد تصعيدا متزايدا في الحرب التكنولوجية بين البلدين، مما سيؤثر بشكل مباشر على مستقبل الاقتصاد العالمي والتطور التكنولوجي.

font change