مسلسل "معاوية" والدولة المستحيلة

سيبقى موضوع الفتنة منفتحا على مزيد من النقاش بسبب راهنيته

مسلسل "معاوية" والدولة المستحيلة

لم يفاجئني تحريم الأزهر- على عموم المسلمين- مشاهدة مسلسل "معاوية"، رغم أن المفتي لا يعلم ما فيه ولا كيف سيروي القصة. وهذا يعني أننا أمام فتوى سياسية. ما زال البعض يعيش بذهنية التحريم التي شكا منها صادق جلال العظم ذات يوم، وكونها عدوة للتقدم الفكري. ما كان سيضر المشايخ شيء لو انتظروا حتى تنتهي الحلقة الأخيرة من المسلسل، ثم ينتقدوه بالكتابة والظهور في القنوات الإعلامية ويصححوا ما يعتبرونه خطأ.

لا بد أن نتذكر أن الأزهر منذ قديم الزمن يحتفظ بموقف المُنحاز إلى علي ضد معاوية، مع كونهما صحابيين جليلين. ولك أن تعجب أن مثقفَين كبيرَين من وزن طه حسين ومحمود العقاد قد تبنيا ذات الموقف، وإن كان طه حسين قد ارتفع بنفسه عن لغة السباب والتكفير اللذين وجدناهما في كتاب العقاد عن معاوية. إلا أن طه– كما العقاد– قد قيد نفسه بروايات الكوفيين التي هيمنت على المشهد عند السنة والشيعة معا بعد قيام دولة العباسيين وتدوين كتب الحديث، ورفع هؤلاء لشعار أنهم "آل البيت الحقيقيون". لا عيب في الانحياز إن شئت الانحياز، لكن يُنتظر من النُخب أن يكون انحيازها عن عقل لا عن عاطفة.

لا أحب المصطلحات الطائفية لكنها هنا ضرورية للفهم والتصور. قد يبدو الحديث في واقعة الفتنة وما جرى بين الصحابة في عصر الإسلام الأول من مضيعة الوقت في غير مصلحة، لكن ما دام أن هناك خلافا بين السنة والشيعة فسيبقى هذا الموضوع منفتحا على مزيد من النقاش بسبب راهنيته التي لا تنقطع إلا لتعود من جديد. خلاف لم ينته بعد منذ 1400 سنة. الشيعة يؤمنون بنظرية الحق الإلهي والثورة الأبدية حتى تحقق النظرية، والسنة انعقد إجماعهم المتأخر جدا، بعد قرنين أو ثلاثة من الحروب، على طاعة المتغلب كائنا من كان، حقنا للدماء.

لا جدوى من النقاش العقدي حول هذا الموضوع وتكفير الفرق الإسلامية لبعضها البعض، لأنه نقاش عقيم مضلل. فعندما نتجاوز القشرة الخارجية قد نرى أن الخلاف بين السنة والشيعة خلاف سياسي بالدرجة الأولى. هؤلاء لهم مرشحهم وأولئك لهم مرشحهم. ولم تتضح قسمات هذا الخلاف السياسي إلا بعد أن وقعت الحرب بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان. واقعة الجمل بين علي وعائشة لم تستمر بل حُسمت سريعا لصالح علي.

كان معاوية يعامل خصومه ومحبيه بالكرم، ووصل إغداقه إلى أن وهب لعبد الله بن الزبير مئات الألوف من الدراهم لكي لا يتحول إلى خصم. بينما كان علي يعيش حياة التقشف والزهد ولم يكن يغدق الأموال

عندما كنا شبابا صغارا في المرحلة المتوسطة، يوم كنا نقرأ عن الفتنة في كتب مثل "البداية والنهاية" لابن كثير، كنا نشعر بالحزن لنهاية دولة خليفة المسلمين علي، ونعجب من كيفية زوالها السريع وقصة مقتله، وأنه لم تقم لذريته دولة من بعده إلى يومنا هذا، إلا ستة أشهر للحسن بن علي. كما أننا كنا نحزن ونعجب من مقتل خليفة المسلمين الآخر عثمان بن عفان في المدينة، حين تُرك ذلك الشيخ الكبير ليلاقي مصيره الشنيع هو وزوجته دون أن يكون هناك جيش دولة يدافع عنه ويرد الثوار من حيث أتوا. واستمر الاستياء ونحن نقرأ في "نهج البلاغة" فنجد علي بن أبي طالب يشتكي من جيشه الذين لا يريدون النفير في الحر ولا في القر وأنهم لم يكونوا يطيعونه كما كان جيش الشام ملتفا حول معاوية في "طاعة شامية".
عندما نتجاوز العاطفة ونحاول أن نفهم ما جرى بمنهج السياسة الواقعية، فسنجد مفتاحا صغيرا في كتب السيرة يحل كل الإشكال. "كان بنو أمية أهل راية الحرب" وكان "لبني هاشم السدانة والسقاية". بنو أمية هم من كان يعلن عن حروب قريش ضد من حولهم من القبائل. بعبارة عصرية كانوا هم "النخبة السياسية". وقد كان معاوية تتويجا لجهود تلك النخبة لتحقق مجدها الأسري في السيادة على العرب. عندما ننظر في نشاط معاوية نجده ينطلق من هذه البذرة. كزعيم سياسي بارع عامل الناس بما يُعرف اليوم بشعرة معاوية، بمعنى أنه كان حريصا على أن لا يخسر أحدا إذا أمكن ذلك، بينما خسر علي كثيرين ممن كانوا معه وتحول جيشه إلى الاقتتال الداخلي مع من سموا بالخوارج.
كان معاوية يعامل خصومه ومحبيه بالكرم، ووصل إغداقه إلى أن وهب لعبد الله بن الزبير مئات الألوف من الدراهم لكي لا يتحول إلى خصم. بينما كان علي يعيش حياة التقشف والزهد ولم يكن يغدق الأموال، بل كان يميل إلى حسم الخلاف بالسيف.

 وظف معاوية دهاة العرب عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة بطريقة استباقية. أعطى للأول مصر بكبرها، وأعطى للثاني الكوفة. لهذه الدرجة كان يقدر الكفاءات ويحترمهم. في مقابل هذا وجدنا علي بن أبي طالب يعين في المناصب الحساسة الأصلح من ناحية دينية مثل أبي موسى الأشعري وهؤلاء لا معرفة لهم بعالم السياسة، بل انقلبوا عليه سريعا.
ومع عامة المسلمين كان معاوية يتعامل ابتداء بالكرم الذي لا حدود له، ولذا قال عقيل بن أبي طالب (أخو علي): "الصلاة خلف علي أقبل، والطعام على مائدة معاوية أطيب". وهكذا أقام الأخير دولة استمرت لما يقارب التسعين سنة، ثم انتقلت دولته بعد سنوات قليلة من سقوطها إلى الأندلس. هذه هي أسباب انتصار معاوية: شعرة معاوية، وتقدير الكفاءات، وأنه قد أسس لدولة دنيوية لا دينية، فالدولة الدينية مشروع مستحيل "بعبارة وائل حلاق"، عندما ينتهي عصر الثورة ويُقبل عصر الدولة والعلاقات الدولية والإدارة المدنية للموارد.

font change
مقالات ذات صلة