مع الدعوات الأميركية إلى تهجير الغزيين إلى دول الجوار، ومحاولة إلباس التطهير العرقي ثوبا أكثر إنسانية، يبدو أننا نشهد فصلا جديدا من فصول المأساة الفلسطينية، حيث تصاغ الجرائم في قوالب خطابية ناعمة، وكأن تهجير شعب من أرضه يمكن أن يكون حلا إنسانيا. لكن التاريخ يخبرنا أن هذا ليس جديدا، وأن النكبة لم تكن حدثا عابرا، بل عملية مستمرة، يعاد تدويرها بأسماء مختلفة، من النفي إلى التهجير، ومن الاحتلال إلى الحصار.
غير أن الأدب، بخلاف السياسة، لا يكتفي برصد الأحداث، بل يستشرف المستقبل، يعيد تشكيل الذاكرة، ويكشف لنا كيف يمكن hلواقع أن ينزلق إلى كابوس جديد. فكيف صوّر الأدب مصير هذه الأرض؟ وهل كان في بعض جوانبه نبوءة لما نعيشه اليوم؟
ذاكرة مكسورة بين النفي والمنفى
حين كتب غسان كنفاني "عائد إلى حيفا"، لم يكن يتخيل أن مشهد الفلسطيني الذي يعود ليجد وطنه قد محي، سيعاد تمثيله مرارا، وبقسوة أشد. الرواية، التي كُتبت عام 1969، لم تكن مجرد حكاية عن سعيد وزوجته صفية وهما يعودان إلى مدينتهما ليجدا أن ابنهما، الذي تركاه رضيعا أثناء النكبة، أصبح جنديا في جيش الاحتلال. بل كانت سردا مكثفا لفكرة الفقدان المزدوج: فقدان الأرض، وفقدان الانتماء. توقعت الرواية مصير الفلسطيني العائد ليجد أن الوطن لم يعد وطنا، وأن الهوية انشقت على نفسها، كأن المنفى لم يكن مجرد مكان جغرافي، بل حالة وجودية دائمة.
هذا التشظي الهوياتي هو ما سعى الروائي اللبناني إلياس خوري إلى تعميقه في "باب الشمس"، حيث تصبح الحكاية فعل مقاومة في حد ذاتها، لا بوصفها وسيلة للحفاظ على الذاكرة فقط، بل كحالة نضالية ضد الفناء. يونس، الفدائي العالق بين الجبال، يتنقل خلسة بين الحدود ليرى زوجته نهيلة، محاولا بناء زمن موازٍ وسط الخراب، لكنه لا يملك سوى الحكاية كجسر هش بين الماضي والحاضر. في هذا السياق، يبرز السؤال: هل تكفي الحكاية لتعويض الوطن المسلوب؟ أم أن الفلسطيني محكوم بأن يروي قصته مرارا، دون أن يصل إلى خاتمتها؟