مرصد الأفلام... جولة على أحدث عروض السينما العربية والعالمية

مرصد الأفلام... جولة على أحدث عروض السينما العربية والعالمية

نتعرف من خلال هذه الزاوية إلى أحدث إنتاجات السينما العربية والعالمية، ونسعى إلى أن تكون هذه الزاوية التي تطل شهريا، دليلا يجمع بين العرض والنقد لجديد الشاشة الكبيرة، على أن تتناول الأفلام الجماهيرية والفنية، من الأنواع كافة، بالإضافة إلى إعادة تقديم فيلم من ذاكرة السينما الكلاسيكية.

السنيور (عقدة الخواجة)

تأليف: أيمن خوجة، العنود المساعد، بدر العساف

إخراج: أيمن خوجة

بلد الإنتاج: السعودية

في مدينة جدة، يعاني المهندس المجتهد سالم (يؤدي دوره ياسر السقاف)، من انحياز إدارة شركته إلى قرارات المدير الأجنبي كارلوس، على حساب الموظفين الآخرين. ينتهز كارلوس هذه الثقة العمياء الممنوحة له، ومبررها الوحيد تقريبا أنه "خواجة"، كي يهين مرؤوسيه، ويتمتع بإذلالهم، ويتمادى، فيتسبب في طرد سالم تماما من العمل. يبدو سالم واعيا بعقدة الخواجة، ويشعر في لحظات أنه مطارد من كل أجنبي يلمحه (الأجانب يطلعوا لي في كل مكان). ليس هذا فحسب، بل يرزح سالم تحت عبء مقارنات والده له مع الأبناء الآخرين الذين حققوا من وجهة نظر الأب مكاسب مادية لم يحققها سالم. علاوة على مصروفات مدرسة ابنته ومسؤولياته الأسرية التي لا تدع له مجالا للتمتع بعطالته. وينتهي به الحال متقمصا شخصية أحد الخبراء الأجانب، مصطنعا عبر المكياج والشعر المستعار، "بيرسونا" أو قناعا جديدا، يحقق به ما يريد على صعيد العمل، ويمارس من خلاله صلاحيات لم تكن تُمنح له في حال صدقه.

فيلم ذكي، يقدم صناعه نقدا اجتماعيا بخفة ظل، ويخلقون العديد من المواقف التي تبقي المشاهدة ممتعة

ينتمي فيلم "السنيور"، إلى نوع الكوميديا السوداء. وهو فيلم ذكي، يقدم صنّاعه نقدا اجتماعيا بخفة ظل، ويخلقون العديد من المواقف التي تبقي المشاهدة ممتعة، من جانب، وكاشفة من جانب آخر عن معاناة الموظفين مع المديرين المتسلطين. يذكّر "السنيور"، إلى حد ما برحلة البطل في فيلم علي الكلثمي "مندوب الليل"، هنا أيضا أشخاص على شفا الفقر، مستعدون لخوض أي مغامرة ولو كانت خطرة، لحماية أحبائهم، وإخفاء الحقيقة ربما المؤلمة عن المهانة الباطنية التي يشعرون بها. إلا أن "السنيور" يمر على هذه الأفكار بخفة أشد، مركزا أكثر على الأسئلة المتعلقة بالضمير، وأخلاقية فكرة الانتحال أو "الكذب" حتى لو كانت لأغراض نبيلة. ثم يجسد ظهور المدير المصري عماد (بيومي فؤاد)، الخفيف الظل لكن أيضا الحذق، موقفا آخر من هذه الأسئلة الأخلاقية. فهو يفهم هذا الميل الإداري إلى المبالغة في الوثوق في الأجانب، ويحتال بدوره، لكن لتحقيق ما يريد على مستوى العمل نفسه، وليس للمصالح الشخصية.

قد يكون هذا الموقف الأخير محل نقاش، وعلى أي حال، يحرضنا الفيلم على التفكير في معضلات العمل، لا فقط في ما يتعلق بتوظيف الأجانب، لكن كذلك معاملة الموظفين. إضافة إلى ضغوط التوقعات الاجتماعية، لا سيما من أفراد العائلة، وتأثيرها على سلوك أشد الأشخاص أمانة، إن جاز التعبير.

عنوان الفيلم: Samia

سيناريو: ياسمين سمدرلي ونسرين سمدرلي، عن رواية جوزبه كاتوتسيلا (لا تقولي إنك خائفة) إخراج: ياسمين سمدرلي وديكا مُحمد

بلد الإنتاج: مشترك بين ألمانيا وبلجيكا وإيطاليا

الفيلم المُقتبس عن الرواية الشهيرة المُقتبسة بدورها عن قصة حقيقية، يروي حياة بطلة الركض الصومالية سامية (تؤدي دورها إلهام محمد عثمان) والتي تنتهي حياتها بصورة مأساوية قرب سواحل إيطاليا. يؤسس الفيلم عالمه في بيت سامية المتواضع وسط العاصمة مقديشو. ويبدأ بسرد سريع ومُقبض للأحداث السياسية الأهم التي حددت الوضع السياسي في الصومال، بداية من الاستقلال ثم الانقلاب العسكري، إلى وصول الجماعات المسلحة الأصولية التي تحاول الاستيلاء على السلطة من جهة، وإشاعة الإرهاب في عيشة الشعب الصومال، لا سيما بالطبع النساء.

في هذا السياق المُحدد تولد سامية، التي ترث على ما يبدو نبل والدها يوسف (فتاح غيدي) وشجاعته وربما حتى أحلامه. تنساب الحكاية عبر ثلاثة أزمنة، زمن طفولة سامية، حيث اكتشفت للمرة الأولى حُبها للركض، وتعهد ابن عمتها علي (إلمي رشيد) تدريبها في محاولة لتعويض تفوقها عليه. والزمن الثاني هو زمن وصولها كشابة للمشاركة في الأولمبياد باسم وطنها الصومال. ثم الزمن الثالث، الذي يبدأ من سعيها للهرب عبر صحراء ليبيا إلى سواحل إيطاليا، كي تشارك مجددا في المسابقة الدولية، إلا أن ميلشيا مسلحة توقف الحافلة التي تحمل المهاجرين، ومن بينهم سامية، فينهبونهم ويسومونهم العذاب.

فيلم يذكر بالأوضاع المزرية للمهاجرين، ويطالب بصوت خافت، بسياسات أكثر إنسانية

ينتهي كل زمن من الأزمنة بانكسار، بحادث مأسوي يعيد تشكيل مصير سامية، التي عانت قبل كل شيء من بؤس الحياة في مقديشو، ونظرة أصولية مزدرية للنساء، ترغب في عقابها وإذلالها وتحطيم أحلامها. في إحدى المواجهات مع أعضاء العصابة المسلحة، يطلب منها والدها ألا تقول أبدا إنها خائفة، كي لا يشتم الأعداء خوفها، وينالوا أكثر منها. من يعرفون الرواية، يتوقعون في طبيعة الحال أن مشاهدة الفيلم تجربة أليمة، ومع ذلك يجتهد صنّاع الفيلم في صناعة لحظات من الحماسة والسعادة التي تبلغها سامية وهي تركض، في جميع مراحل حياتها. في هذه المشاهد أيضا تكتسب حركة الكاميرا حيوية ونشوة، وحتى نوعا من البراءة في مواجهة العالم القاسي الذي ظلت سامية وأسرتها مجبرين على العيش فيه. فيلم يذكّر بالأوضاع المزرية للمهاجرين، ويطالب بصوت خافت، بسياسات أكثر إنسانية.    

The calendar killer

تأليف: سبستيان فيتزك وسوزان شنايدر

إخراج: أدولفو ج. كولمرير

بلد الإنتاج: ألمانيا

من إنتاج منصة برايم Prime، يأتي هذا الفيلم المنتمي إلى نوع الإثارة والجريمة، والمأخوذ عن عمل أدبي، يغيِّر أقنعته باستمرار، ومزاجاته كذلك، حتى يكاد يصعب الإمساك بشخصيته الحقيقية، سوى في اللحظات الأخيرة. لدينا أولا الوهم بأن قصته ستدور حول شخص متطوع هو جولز (زامبين تامبيرا) يحاول عبر الهاتف إنقاذ سيدة ضائعة وأقرب إلى الانتحار هي كلارا (لويز هير). إنها تهرب من تهديدات قاتل متسلسل في برلين، لا تستطيع الشرطة الوصول إليه، وينشر الفزع على طول المدينة، وهو يخيرها بين أن يخطف روحها، أو أن يخطف روح زوجها.

ما الحدود المسموح بها لتدخلنا في حياة الآخرين، ولو كان الهدف، إنقاذ الحياة؟

هذه الطبقة الظاهرية تجعلنا نظن أن الفيلم، ربما يقدم حبكة متوقعة سلفا، أو أنه حتى ينتمي إلى أفلام الجريمة التجارية، إن جاز التعبير. بعد قليل ننتقل إلى عوالم أكثر ظلامية، تتناول مباشرة قضية مؤسفة تحضر بكثافة في مجتماعتنا الحديثة: العنف المنزلي ضد النساء، والتلاعب النرجسي بالزوجات من أزواج ينتمون إلى شرائح اجتماعية جيدة التعليم والثقافة. إنهم من يظهرون أمامنا كرواد ناجحين، أمثلة يقتدى بها لشباب ثري ومتحقق بينما يمارسون أبشع أنواع السادية على النساء في الغرف المغلقة.

هؤلاء ليسوا حالات فردية. يأخذنا الفيلم إلى أماكن مخصصة لممارسة هذه الأعمال المنحرفة، ليعرفنا أكثر على ما يمكن المال والسلطة أن يبيحاه لأصحابهما من الرجال. في الأثناء يغير الفيلم قناعه مرات عدة، ويكشف لنا أكثر عن ماضي جولز، زوجته التي قضت منتحرة بسبب معاناتها مع الاكتئاب، وشعوره بالذنب الذي يدفعه إلى التوحد مع كلارا ومحاولة إنقاذها المزدوجة، مرة من زوجها السادي، ومرة ثانية من ذلك القاتل المتسلسل المجهول الهوية. على أي حال، مشاهَدة هذا الفيلم ليست تجربة سهلة، بل مثيرة للقلق باستمرار، وهو كفيلم جريمة مراوغ ويحتال قبل كل شيء على المتفرجين، لإيصال رسالته. يثير الفيلم سؤالا حساسا: ما الحدود المسموح بها لتدخلنا في حياة الآخرين، ولو كان الهدف، إنقاذ الحياة؟ وفي الحالة المخصوصة للنساء المعنفات، اللواتي يتراجعن عن شهاداتهن ضد الرجال أمام الشرطة، هل يحق لنا التصرف بالنيابة عنهن؟

عنوان الفيلم: Monsieur Aznafour

سيناريو وإخراج: ميدي إدير وجران كور مالاد

بلد الإنتاج: فرنسا

عن حياة المغني ومؤلف الأغنيات الأرميني الفرنسي شارل أزنافور، يقدم هذا الفيلم صورة، يحاول ما أمكن، أن تكون موضوعية. بمعنى أنه لا يقع في فخ أسطرة الشخصية، بل يركز على الشعور بالنقص الدفين الذي ظل يدفع أزنافور إلى طلب المزيد من النجاح، وعدم الاكتفاء بالوصول إلى أي قمة، وعن تأثير هذا التكريس الفني، على حياته الأسرية، وعلاقته بأولاده وزوجاته. يحسب هذا لفيلم، ينتمي أولا وأخيرا، إلى نوع أفلام السيرة الذاتية، ويبدو الهدف الرئيس منه، تكريم مطرب عالمي، صار رمزا من رموز الثقافة الفرنسية "على الرغم من أنه ابن مهاجر"، كما رثاه الإعلام الفرنكوفوني يوم رحل عنا عام 2018.

يثير "السيد أزنافور" أسئلة عدة تتعلق بأفلام السيرة الذاتية. مثلا ما الهدف، الأهم من التكريم، من صناعة هذا النوع من الأفلام عموما؟ وما الذي يمكن أن ننتظره، أكثر من التطلع لمعرفة جوانب متعددة عن قصة صعود النجم أو النجمة؟ في وسع أفلام التلفزيون والبرامج مثلا أن تلعب هذا الدور التكريمي والتعريفي، في عصرنا الحالي. من جانب آخر، نرى هنا في المكياج أداة أساسية لتحقيق فيلم يعرض إلى جانب شارل أزنافور (يؤدي دوره طاهر رحيم)، نجوما وشخصيات أخرى شهيرة، وأهمها على الإطلاق إيديث بياف (أدتها بجدارة ماري جولي بوب).

والمحصلة عجز المكياج رغم براعته، عن إخفاء هذا الجانب المفبرك، من الفيلم، وبالمثل لم يتخلص ممثل بارع كطاهر رحيم من تقليد إيماءات وحركات ولغة جسد شارل أزنافور، وقد اشتغل عليها الأخير عامدا، صانعا منها قسما لا بأس من صورته الذهنية كنجم، يتحدى المعايير التقليدية لوسامة الذكور في الغناء العالمي. لم يكن طاهر رحيم على راحته، مع الاعتراف بكل الجهد المبذول للوصول إلى العمق الروحي للشخصية. على أي حال، تمكن السيناريو نفسه، وهو يكتظ بالأحداث، من حياة أزنافور، ويكثف مراحلها الأهم، بما يتلاءم مع زمن فيلمي لا يتجاوز الساعتين. تمكن من مسّ عمق الشخصية في عدة لحظات، أهمها على الإطلاق حين قدم أغنيته الأشهر La bohème فجاءت تتويجا لمشوار صعب، من التعلم الذاتي، والثبات أمام الانتقادات وبعضها كان عنيفا وعنصريا، كما جاء في الفيلم.

يذكرنا "السيد أزنافور" أن في وسع أفلام السيرة أن تكون جذابة وحكاءة فقط، من دون أن تكون بالضرورة عظيمة أو مجددة

ربما يكون أبرز ما في الفيلم علاقته المركبة بمطربة فرنسا الكبيرة إيديث بياف، وهي التي أدارت إلى حد كبير حياته الفنية، وفي الآن نفسه سعت إلى إبعاده عن الغناء. من المثير للاهتمام، أن الممثلة التي أدت دور بياف، لم تتمسك بتقليدها حركيا، كما فعل طاهر رحيم، إنما كأنها ترجمت روح الشخصية. يميل الفيلم في ربعه الأخير إلى الكآبة، بما يتماشى مع الفراغ الذي كانت عليه حياة الرجل، خارج أوقات الغناء والصعود على المسرح والنجومية. هنا أيضا يمكننا أن نتذكر بعضا من تقنية تنفيذ مشاهد الغناء، بين الحلم والحقيقة، مستلهمة خصوصا من الفيلم السيري أيضا La Môme للمخرج أوليفيه دان، عن حياة إيديث بياف نفسها.

يذكرنا "السيد أزنافور" أن في وسع أفلام السيرة - ما دام الناس يحبون مشاهدتها - أن تكون جذابة وحكاءة فقط، من دون أن تكون بالضرورة عظيمة أو مجددة.

Julie Keeps Quiet

سيناريو: ليوناردو فان ديجل وروث بيكارت

إخراج: ليوناردو فان ديجل

بلد الإنتاج: بلجيكا والسويد

يركز الفيلم على عنصرين، الأول: الفتيات اللواتي يمارسن رياضة التنس، ويتعرضن لنوع من التحرش الجنسي على يد مدربهم، مما يدفع إحداهن إلى الانتحار، وتثير وفاتها المفاجئة الشك في سلوك المدرب إزاء اللاعبات. الثاني: هو الأسلوب السينمائي الذي يحكي به صانع هذا الفيلم حكايته. يركز "جولي تصمت" على الآثار المباشرة للعنف الجنسي – ونحن لن نعرف تفاصيله أبدا - على أداء جولي (تيسا فان دين) الدراسي وعلى وحدتها والكآبة التي تطفح على وجهها، على حداثة سنها، بعد عزل مدربها جيرمي (لوران كارون)، وإعلان بدء التحقيق حول ملابسات انتحار آلين.

يتبع الفيلم بطلته جولي، وهي في المدرسة، وهي في التمرين مع المدرب الجديد، وهي في غرفتها، هناك حيث يبقى جيرمي على تواصل معها عبر الهاتف، ولا يكف عن رسم مسار الأيام لها. من خلال هذه المحادثات بينهما، نعرف عن تلاعب جيرمي، وعن تزييفه الكثير من الحقائق المتعلقة بالفتاة المنتحرة آلين، ويبلغ جيرمي حد تشكيك جولي في جميع من حولها، بمن في ذلك والدها. مع ذلك، لا تُرينا الصورة جيرمي هذا بوضوح، فإما هو جالس في الظلام، وإما نسمع صوته فقط. ما نراه واضحا في المقابل، هو انطفاء جولي، ولحظاتها القليلة التي تقضيها مع نفسها، تداعب كلبها، وهذا الفقدان للذات يتوافق مع حالة الاستلاب التي تعيشها ابنة السادسة عشرة، جراء هذه العلاقة النرجسية، التي تدفعها إلى الظل والصمت، والشعور بالذنب كذلك.

كلما تقدم الفيلم من لحظة انكسار صمت جولي، استعادت المراهِقة حيويتها وابتسامتها وبدت أقرب إلى سنها

ينضح الصمت من كل شيء في هذا الفيلم، الحوارات القليلة التي لا تقول شيئا في الواقع، صداقات جولي التي تبين سطحية وتعكس انعدام ثقتها في الكل، الألوان الفيلمية التي تميل إلى الذبول، واللقطات الطويلة التي تستعرض لعب جولي التنس، المكان الوحيد الذي تكتسب فيه ديناميكيتها، وتتكلم فيه على طريقتها. كلما تقدم الفيلم من لحظة انكسار صمت جولي، وهي اللحظة التي نتمناها كمشاهدين، استعادت المراهِقة حيويتها، وابتسامتها، وبدت أقرب إلى سنها، وكلما تعافت كذلك. فيلم مهم، وتجربة ثرية بصريا وفكريا.

 من ذاكرة السينما

لمناسبة اختيار مهرجان كان السينمائي الممثلة الفرنسية جولييت بينوش، لترؤس لجنة التحكيم في دورته السابعة والثمانين المقبلة. نتذكر دورها في هذا الفيلم من إنتاج 2013.

Camille Claudel 1915

سيناريو وإخراج: برونو ديمون (مأخوذ عن رسائل كامي كلوديل وشقيقها بول كلوديل)

بلد الإنتاج: فرنسا

عن النحاتة الفرنسية الشهيرة كامي كلوديل التي تؤدي دورها هنا بأقصى جمال ممكن النجمة جولييت بينوش. يكاد الفيلم ينهض كليا على تقمص بينوش روح كلوديل، التي كانت ذات يوم فنانة مقدرة في باريس، قبل أن ينقلب عليها الزمن، فيتخلى عنها شريكها الفني والعاطفي أوغست رودان، وتهجرها عائلتها، لتُترك وحيدة تعاني من حالة من البارانويا، ويُقال إنها تطورا لاحقا إلى فصام. يركز الفيلم على المرحلة الأخيرة في حياة كلوديل، أي منذ أودعها شقيقها الكاتب بول كلوديل، مصحا عقليا في مدينة بعيدة عن باريس.

فيلم مقبض ومذهل يعتمد على اللقطات الطويلة والمونولوغات الشعرية التي لا يصغي إليها تقريبا أحد سوانا

يصنع المخرج برونو ديمون فيلمه الذي لا يُنسى، بأسلوب سينمائي خاص وحساس، يتطابق معماره الحقيقي (صُوِّر الفيلم في مكان يحاكي المصحات المعزولة من هذا النوع آنذاك) مع معماره المجازي، إذ نعايش مع كامي الشعور بالعزلة والاختناق، في مكان شاسع ممتلئ بالناس، لا تجد فيه، مع ذلك، أحدا تتبادل معه حديثا عاقلا. زميلات كامي وجاراتها في هذا المصح، وكانت تضطر إلى قطع نوبة بكاء حادة، كي تأخذ بيد إحداهن لتعينها على فعل بسيط كالمشي، هن من المريضات الحقيقيات، لا الممثلات. مما يضيف إلى الشعور بالأسى الذي يخلفه الفيلم في الروح.

لا أحد يعرف إن كان أوغست رودان تسبب فعلا في تحطيم عمل كامي كلوديل، بعد انقطاعهما، غيرة من موهبتها، أو إن كانت الصدمة هي التي ولدت في ذهن كامي، كل ذلك الخوف غير المبرر. لكن الأكيد أن إيداعها بهذه الطريقة في مصح ديني تقوم على الخدمة فيه راهبات صامتات وجاهلات بالحياة الخارجية، وفي زمن لم يكن الطب النفسي ناضجا بما يكفي ليعالج حالات الفصام ولا حتى ليعاملها بالحد الأدنى من الإنسانية، يُعد ظلما ما بعده ظلم، وهو ما يعبر عنه هذا الفيلم الذي لا يعنيه ماضي كامي المشرق، ولا لحظاتها الفنية والغرامية الاستثنائية. إنما فقط زمن الانكسار لامرأة وفنانة حُرمت من الحياة، لكن الأسوأ من ممارسة فنها الأثير، النحت، بسبب غضب عائلتها منها، وربما حتى جنون شقيقها ذاك كلوديل، الذي يقول إنه عثر على الرب وهو يقرأ أشعار رامبو. بينما رامبو نفسه، كان أبعد ما يكون عن الإيمان.

فيلم مقبض ومذهل يعتمد على اللقطات الطويلة والمونولوغات الشعرية التي لا يصغي إليها تقريبا أحد سوانا، يجعله أداء جولييت بينوش جذابا إلى أقصى حد.

font change