"لا أرض أخرى" الفائز بالأوسكار... زمن الاحتلال "الجميل"

ألا تزال سرديته صالحة بعد حرب غزة؟

مشهد من الفيلم

"لا أرض أخرى" الفائز بالأوسكار... زمن الاحتلال "الجميل"

من نافل القول، إن أيّ عمل فني أو إعلامي يساعد في كشف ممارسات الاحتلال الإسرائيلي في حقّ الفلسطينيين، يستحقّ الاهتمام والإشادة، فكيف إذا وصل هذا العمل إلى واحدة من أكبر الفعاليات الفنية في العالم وتوّج بإحدى أكبر الجوائز السينمائية، ونقصد جائزة الأوسكار وحفله. لعلّ أي التباس قد ينشأ عن ذلك، بما في ذلك ما يتعلق بتكريم هوليوود لفيلم يحكي قصة فلسطينية مع الاحتلال الإسرائيلي، يتعلق غالبا بمتلقي هذا المشهد ومناقشيه، أكثر مما يتعلق بالفيلم وصناعه. إلا أن هذا التلقي لا يمكن المرور عليه مرور الكرام، لما يحمله من معان ودلالات ترتبط أساسا بالقضية الفلسطينية وبلعنة الاحتلال الإسرائيلي.

إشكالية الاستقبال

بداية، الاهتمام بفيلم "لا أرض أخرى" No Other Land يبدو غير مرتبط بحرب غزة، وإن كان نابعا منها أساسا، وهذه أولى المفارقات. فالفيلم ما كان ليحصل على هذا القدر من الأضواء لولا الاهتمام العالمي بهذه الحرب، ولولا الانخراط الأميركي المتعدد الأشكال والاتجاهات بها، وخير دليل على ذلك هو أن صنّاع الفيلم أنفسهم كانوا يعانون لنيل الحد الأدنى من الاهتمام بقضيتهم كما يبيّن الفيلم، بقضية هدم الاحتلال الإسرائيلي منازل السكان في قرى "مسافر يطا" في الضفة الغربية، من جهة أخرى لا يستطيع المرء مقاومة التوقف عند الصورة الغريبة التي لا بد أن كثيرا من المصفقين للفائزين بجائزة أوسكار أفضل فيلم وثائقي، شاهدوا الفيلم أم لم يشاهدوه، وجدوها جذابة، وهي صورة فنان فلسطيني وآخر إسرائيلي (الفيلم من إنجاز 2 من فلسطين و2 من إسرائيل، ومن إنتاج نروجي) يظهران على المسرح معا، بعد أن ناضلا لسنوات معا لعرض قضيتهما وإيصالها.

لا يستطيع المرء مقاومة التوقف عند الصورة الغريبة التي وجدها المصفقون للفائزين بجائزة أوسكار جذابة

لا مشكلة عند أحد في عالم هوليوود الليبيرالي في هجاء الاستيطان، ولا حتى في هجاء الاحتلال الإسرائيلي، فقط ضمن الحدود التي لا تصيب جوهر هذا الاحتلال. وعلى الرغم من أن وزير الثقافة الإسرائيلي شجب منح الفيلم الجائزة، انسجاما مع أجندة حكومته المتطرفة، إلا أنه قال في ما قاله إن "المسألة أعقد من ذلك"، وهذا بالضبط ما يمكن أن يقوله أيّ كان، المسألة "معقدة" وتعقيدها هذا يتيح التعاطف الإنساني المبدئي، دون الخوض في المسائل السياسية المرتبطة به. الفيلم نفسه يعرض هذا التعقيد: هناك سكان فلسطينيون يقيمون في تلك القرى أبا عن جد، والاحتلال يأتي ويدمر منازلهم ومرافقهم، بناء على أوامر صادرة من محكمة إسرائيلية تقضي بأن هذه الأبنية غير شرعية، بما أن ذلك المكان هو موقع قاعدة عسكرية إسرائيلية. نرى خلال الفيلم دوريات الجيش والشرطة تأتي وتذهب، تنجز مهمة تدمير المنازل والمرافق ثم تغادر. يشبه الأمر خلافا عقاريا قانونيا قد ينشأ بين أي طرفين في أي بلد، أو بين بلدين جارين، وبالتالي فإن كان هناك من ظلم فإنه ظلم القانون، وهذه أيضا مسألة "معقدة" لا يمنع الاعتراف بها، من الاعتراف في الوقت نفسه بمعاناة ضحايا تلك القوانين من الفلسطينيين.

ملصق فيلم "لا أرض أخرى"

بين الضفة وغزة

كنا رأينا ملامح مواقف كهذه من الإدارة الأميركية السابقة، كما من دول أوروبية عدة، وهي مواقف نراها قطعا لدى عدد صغير من النشطاء الإسرائيليين ومنظمات حقوق الإنسان، وذلك عندما يتعلق الأمر بالضفة الغربية تحديدا وباعتداءات المستوطنين التي يسهلها الاحتلال إن لم يكن يديرها. مع الإدارة الأميركية الجديدة لم تعد هذه الانتهكات محل شجب، بل إنها رفعت العقوبات الشكلية عن قادة مستوطنين متطرفين، في إشارة واضحة إلى أن ما جرى على غزة بات يجري على الضفة الغربية. لم يعد هناك مكان (غزة) يحتضن "الإرهابيين" وآخر يحتضن "المعتدلين"، بقدر ما هناك مشروع سياسي/ عقاري/ أيديولوجي يجب أن يتمّ بأي ثمن وأي طريقة، وإدارة دونالد ترمب، تبدو في سياق هذا المشروع، قائدة وليست مقودة من إسرائيل.

بالنسبة إلى السائح الناظر من بعيد إلى الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فالمسألة تظلّ مسألة إدارية إجرائية

هذا التمييز (السابق) كان في حقيقته تمييزا في معنى الاحتلال نفسه. فكل ما يجري في غزة من قبل إسرائيل هو، في وصفها ووصف حلفائها مواجهة للإرهاب ومحاولة للقضاء على بنيته التحتية ممثلة في "حماس" وليس احتلالا ولا "مقاومة" للاحتلال، أما في الضفة الغربية فيمكن الحديث بأريحية أكبر عن حقيقة وجود احتلال وحركة استيطان واسعة إلخ، أما جوهر المسألة، وهو أن الإسرائيليين أنفسهم، وقبل 7 أكتوبر/تشرين الأول، قضوا على أي أفق لقيام دولة فلسطينية انطلاقا من السلطة التي أسسوها مع الأميركيين، فهذا ليس محل نقاش حقيقي.

ما أبدته الأحداث هو أن المسألة كلها، بالنسبة إلى الولايات المتحدة وإسرائيل، إدارية روتينية إجرائية، لا سياسية. وهذا بالضبط ما يستنتجه المرء من "لا أرض أخرى"، دون أي تلميح هنا إلى أن لصناع العمل ولا سيما الناشط الفلسطيني باسل عدرة، دورا في ذلك. الفيلم يتضمن قسوة لا تحتمل بالنسبة إلى من يعرف تاريخ القضية ومن يرى في حرب إسرائيل على غزة والضفة الغربية حرب قضاء على مشروع الدولة الفلسطينية، أما بالنسبة إلى السائح الناظر من بعيد إلى الصراع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ومنهم في المناسبة الشريك الإسرائيلي في العمل يوفال أبراهام، فالمسألة تظل مسألة إدارية إجرائية. ظالمة صحيح، لكنها ليست مسألة سياسية أولا وأخيرا. نرى حركة كرّ وفرّ، أو لعبة قط وفأر بين جنود الاحتلال وبلدوزراته وبين المزارعين الفلسطينيين، بل نرى رغم الحزن والأسى، حالة من الاعتيادية التي تكاد تشبه خلافات حادة بين جيران، وليس بين محتلين وخاضعين للاحتلال.

مشهد من الفيلم

مفارقة لا تقاوَم

الناشط الصحافي الإسرائيلي هو صوت الاعتدال الإسرائيلي (والأميركي والأوروبي) إن جاز القول، فهو يتضامن مع الفلسطينيين، ينوجد معهم، يساعدهم في مواجهة الجنود، وفي بناء ما تهدم أحيانا، وهو مثلهم يتعرض لاضطهاد الجنود والمستوطنين له، لكنه كما يشير الفيلم نفسه يظل منتميا إلى حاملي بطاقة الهوية الصفراء، بالتضاد مع هوية الفلسطينيين الخضراء، ويمكنه التنقل بسلاسة بين الجانبين، وأن يناصر قضية أولئك السكان دون أن يواجه العواقب نفسها، على الأقل من حيث الدرجة والخطورة.

AFP
خلال حفل توزيع جوائز الأوسكار الـ97، بعد فوز فيلم "لا أرض أخرى" بجائزة أفضل فيلم وثائقي طويل

في خطاب استلام جائزة الأوسكار كان لا بد أن يشير يوفال إلى فظاعة 7 أكتوبر، والمساواة بينها وبين حرب الإبادة، ولكن بوصفه سائحا فأكثر ما يمكن قوله هو "كثر خيره" لما فعله ويفعله، إلا أن هذا لا يعني الإغفال عن أن كل النقاش، حول الفيلم، وحول الجائزة، لا يزال أبعد ما يكون عن جوهر المسألة، وهي وجود احتلال عسكري غير شرعي ولا أخلاقي وهناك قضم لحق شعب في الوجود وليس فقط لقطعة أرض هنا أو هناك، وليس خلافا قضائيا بين مؤسسة الجيش، وبين مجموعة سكان مدنيين.

فيلم ربما من المفارقة وصفه بأنه ينتمي إلى "الزمن الجميل" للاحتلال، عندما كانت المسألة في غالبيتها هدم منازل وبناء مستوطنات

في حقيقة الأمر، يصعب حقا مشاهدة الفيلم دون رؤية التباين الضخم بين ما نراه خلال المواجهات بين السكان والجنود والمستوطنين (لعبة الكرّ والفرّ) وما رأيناه ونراه في غزة وفي الضفة الغربية اليوم من أعمال قتل مفتوحة واعتقال وتعذيب، لم يعد ما نراه هذا يسمح للهامش السابق الذي كانت تبدو الأمور فيه "مستقرة" على حال معينة، بأن يبدو منطقيا. ما رأيناه في الفيلم المصور بين 2019 و2023، لم يعد يمكن أن نراه اليوم، بل إننا أحيانا نستغرب "لطف" جنود الاحتلال بأنهم لم يطلقوا النار خلال المواجهات مع السكان سوى على فلسطيني واحد (توفي لاحقا كما نعرف من الفيلم). فلا بد إذن أن يراودنا شعور بأن ما شهدته غزة من فظائع لا تطاق، هي نابعة بالفعل من قسوة أحداث 7 أكتوبر، التي "أجبرت" الإسرائيلي على هذه الدرجة من التوحش، وليس جزءا من مشروع سياسي أيديولوجي ديني متطرف وجد الفرصة المؤاتية لاستكمال أجندته التي كان يعمل عليها بدأب منذ عقود. كل ما في الأمر هو تسريع المسألة، وحسمها، أكثر مما هي رد فعل بجريمة كبرى على جريمة كبرى، وهو ما نرى كثرا راغبين في تكريسه.

مشهد من الفيلم

أجل، فيلم "لا أرض أخرى" مهم، وضروري، لكنه متأخر. إنه فيلم ينتمي إلى مرحلة ما قبل حرب غزة، ثم امتدادها إلى الضفة الغربية، فيلم ربما من المفارقة وصفه بأنه ينتمي إلى "الزمن الجميل" للاحتلال، عندما كانت المسألة في غالبيتها هدم منازل وبناء مستوطنات واعتقالات وحواجز على الطرقات ومداخل المدن والبلدات (وإن كانت نظرة أعمق إلى العقود الماضية تنفي ذلك طبعا). أما اليوم، فلعل "لا أرض أخرى" يخدم من خلال الضوء الذي سلط عليه، للانتقال إلى سردية أشمل وأوسع وأعمق حول عمق جريمة الاحتلال الإسرائيلي، وحول حقيقة أن مجازر غزة ما كانت لتقع لولا هذه الجريمة الأولى الأصلية. فالمسالة، وكانت ولا تزال، غير معقدة على الإطلاق، بل إن بساطتها الفادحة هي ما يؤلم حقا، وهي وجود احتلال، ووجود شعب يرفض الاحتلال، وكل ما عدا ذلك هو من باب السياحة الثقافية الإنسانوية لا أكثر ولا أقل.

font change