يمكن الحديث طويلا عن تدمير نظام "البعث" للمجتمع السوري وقضائه على النخب الثقافية والسياسية والاقتصادية. 62 عاما من حكم حزب شمولي دموي، تولى خلال 54 منها السلطة حافظ الأسد وابنه بشار اللذان جسدا كل مصائب الحكم العصبوي المتفلت من كل الضوابط والقوانين، و"توجت" بثورة وحرب استعرض فيها الأسد الابن كل فنون البطش والقمع واستدعاء التدخل الأجنبي، ما كانت لتمحى آثارها فور سقوط الطاغية.
على خلفية الدمار العميم في المجتمع وحالة التجريف التي افتعلها نظام الأسد، تبدو حالة الفقر الشديد في غنى عمن يشرح ظروفها وأسبابها والتركة التي خلفتها على عملية تسيير شؤون البلاد. بل إنه لا مفر من التساؤل عن أي قانون تسعى السلطة الحالية إلى تنفيذه عندما تطرح مشكلة "البؤر الخارجة على القانون". وهل القانون الذي كان سائدا أثناء عهد "البعث"، ما زال قابلا للتطبيق؟ ثم هل ما اعتاد عناصر أجهزة المخابرات السورية ومن انضوى تحت جناحهم، من ممارسات وجرائم يومية، يشكل ما يصح وصفه بالقانون بحكم الاستدامة والعادة؟
عودة النشاط الاقتصادي إلى حالة شبه بدائية من نقل المزروعات إلى الأسواق لعرضها وبيعها مع بعض المنتجات النسيجية والحرفية، في ظل سيادة النقد (الكاش) والغياب التام للنشاط المصرفي الذي يفترض أن يصب في إطار إعادة الحياة إلى دورة اقتصادية منتجة وحديثة، يترك الوضع في حالة أشبه باقتصادات القرون الوسطى. ويطغى حديث عن مساعدات وهبات ترتبط كلها بمنع الوصول إلى المجاعة من دون أن تستطيع المساهمة في البدء في عملية تراكمية تفسح المجال لاستئناف الإنتاج.
يضاف إلى ذلك أن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، المعنيين مباشرة بالعقوبات المفروضة على سوريا منذ 2011، لا تظهران اهتماما برفعها سريعا مع إدراكهما لكل التبعات التي قد تنجم عنها والتي بدأ بعضها يطل برأسه مثل تدهور الوضع الأمني، مثالا لا حصرا.
بديهي أن الخواء هذا لم يقف عند حدود مستوى المعيشة الباقي على انخفاضه. فتجويف المجتمع على أيدي "البعث" والأسد، والقضاء المنهجي على كل مظهر من مظاهر الوعي السياسي حتى لو انسجم مع سرديات الحزب الحاكم، ترك البلاد أسيرة فقر ثقافي أشبه بالتصحر الكامل. والشيء بالشيء يذكر، أنه لا يمكن فهم ظاهرة "الدراما السورية" وأثرها على السوريين، من دون وضعها في سياق التصحر الثقافي الشامل في "سوريا الأسد" وهو الذي صنعه النظام الآفل عن سابق تصور وتصميم. فظهرت "الدراما" كبديل عن كل نشاط ثقافي آخر.
التصحر ظهر جليا في "مؤتمر الحوار". في طريقة إعداده الأقرب إلى التحضير لورشة عمل من صنع منظمة غير حكومية. وفي أسلوب الدعوة إليه ومستوى المدعوين الذين كان من بينهم عدد من أبرز "شبيحة" بشار الأسد وكتبة التقارير لأجهزته المخابراتية ومن شاكلهم وشابههم.
آخر ما أعلن في هذا الباب هو تشكيل اللجنة المولجة وضع الإعلان الدستوري الذي يفترض أن يُعمل به في الفترة الانتقالية بعد إلغاء القانون المعتمد منذ 2012. كثر من السوريين احتجوا على أسماء أعضاء اللجنة الذين جاءوا من خلفيات أكاديمية شديدة التواضع (وقيل إن إحدى العضوات تحمل شهادات مزورة وأن لا صلة لها بالقوانين والدساتير).
التصحر ظهر جليا في "مؤتمر الحوار". في طريقة إعداده الأقرب إلى التحضير لورشة عمل من صنع منظمة غير حكومية. وفي أسلوب الدعوة إليه ومستوى المدعوين الذين كان من بينهم عدد من أبرز "شبيحة" الأسد وكتبة تقارير أجهزته المخابراتية
المآخذ هذه تصل إلى تحميل القيادة السورية مسؤولية المستوى الضحل الذي تقيم عنده عملية إعادة بناء مؤسسات الدولة، قبل الوصول إلى العقبات الهائلة التي تعترض طريق توحيد سوريا وإنشاء سلطة تتمتع بقدر كاف من الشرعية المستندة إلى قبول المجتمع وإلى "عقد اجتماعي" بين السوريين ودولتهم. فالبلاد ممزقة إلى ما يشبه الدويلات التي تتباين مواقف كل منها من السلطة المركزية، بين الإنكار التام لكل ما يمت الى هذه الاخيرة بصلة والاستعداد للحوار والانضواء في كنف المؤسسات التي لم تولد بعد. هذا في الوقت الذي يستمر فيه الضغط العسكري الإسرائيلي الذي يقضم المزيد من الأراضي السورية وسط لامبالاة دولية وموافقة أميركية.
الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، المعنيين مباشرة بالعقوبات المفروضة على سوريا منذ 2011، لا تظهر اهتماما برفعها سريعا مع إدراكها لكل التبعات التي قد تنجم عنها والتي بدأ بعضها يطل برأسه مثل تدهور الوضع الأمني
وقد يقول قائل إن السلطة الحالية إنما تعمل بالأدوات المتوفرة وأنها لا تستطيع الإتيان إلى جلسات الحوار واللجان التي تنشئها، على سبيل المثال، بمن لا يرغب في العمل مع الوزراء والمسؤولين الذين يتولون المهمات الأساسية اليوم.
لكن هذا القول على وجاهته، لا يجب أن يحجب الحقيقة الساطعة وهي أن حالة من الفقر، المادي والبشري والسياسي (ناهيك عن الفكري والثقافي) تسيطر على مفاصل حاسمة في عملية تشكيل سوريا، فيما الظروف تتطلب شيئا آخر.