اتفاق في مهب الريح... معادن أوكرانيا مقابل ضمانات بالحماية الأميركية

أوكرانيا لديها زهاء سبعة في المئة من الإنتاج العالمي من التيتانيوم

رويترز
رويترز
اللقاء الذي جمع بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في البيت الأبيض في واشنطن، الولايات المتحدة، 28 فبراير 2025

اتفاق في مهب الريح... معادن أوكرانيا مقابل ضمانات بالحماية الأميركية

لا تسعى إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب الجمهورية إلى إنهاء الحرب بين موسكو وأوكرانيا رغبة في السلام أو في إنقاذ كييف من شراسة الدب الروسي، بل طمعا في الاستيلاء على الثروة المعدنية الثمينة المدفونة في الأراضي الأوكرانية.

ولم يكن الصدام غير المسبوق الذي وقع بين ترمب ونائبه جي دي فانس من جهة، والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي من جهة أخرى في البيت الأبيض سوى نتيجة للضغوط التي تعرض لها الأخير من أجل التوقيع على اتفاق تسليم ما يقرب من نصف ثروات بلاده المعدنية لواشنطن دون الحصول على ضمانات الحماية الأمنية التي طلبها لإقرار اتفاق سلام مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

فترمب يعلم مدى أهمية أوكرانيا كمخزون استراتيجي لعدد من أثمن المعادن الضرورية لصمود الولايات المتحدة في السباق التكنولوجي والاقتصادي مع الصين خاصة، وباقي العالم عامة. كما يعلم أن طي أوكرانيا تحت جناح بلاده سيعزز التفوق الأمني والاستراتيجي لأميركا وأوروبا على السواء بما تمتلكه كييف من موارد وخامات هائلة وصناعات دفاعية متطورة. ولا يبدو الصدام الذي حدث على الهواء مباشرة بين الرئيسين سوى حلقة في مسلسل الضغوط الهائلة التي تمارسها واشنطن على زيلينسكي من أجل الحصول على هذه الثروات ودرء محاولة دخوله في جدال مع واشنطن حول صحة ما يدعيه ترمب من أن بلاده قدمت لكييف مساعدات عسكرية تقدر بنحو 350 مليار دولار، وهو ما نفاه الرئيس الأوكراني.

ووفقا لمكتب الشؤون السياسية والعسكرية بوزارة الخارجية الأميركية، بلغ مجموع ما قدمته واشنطن لأوكرانيا منذ غزو روسيا لشبه جزيرة القرم الأوكرانية عام 2014 وحتى يناير/كانون الثاني من عام 2025 نحو 163 مليار دولار. هذا بالإضافة إلى 20 مليار دولار قدمتها الولايات المتحدة لأوكرانيا من عائد الأصول الروسية المجمدة لديها ضمن حزمة بـ50 مليار دولار قدمها حلف "الناتو" من عائد هذه الأصول لدى الاتحاد الأوروبي.

وحسب ما تسرب من مسودة اتفاق المعادن بين واشنطن وكييف، سيتعين إنشاء صندوق استثماري لإعادة الإعمار تشارك حكومتا الولايات المتحدة وأوكرانيا في إدارته.

احتياطيات أوكرانيا من الليثيوم والتيتانيوم هي الأكبر في أوروبا. ولديها أيضا مخزونات ضخمة من الكوبالت والنيكل الضرورية لصناعة البطاريات فائقة الأداء والمعدات الفضائية والعسكرية

رئيس الوزراء الأوكراني دينيس شميهال صرح مؤخرا بأن كييف ستحول نصف العائدات من مشاريع الموارد الطبيعية المملوكة للدولة في المستقبل إلى الصندوق، مع إعادة استثمار الأموال في تطوير هذه المشاريع.

وأكد الوزير الأوكراني أن الصفقة ستستبعد "الودائع والمرافق والتراخيص والعوائد الحالية المرتبطة بالموارد الطبيعية في بلاده"، مشيرا إلى أن الحديث يدور فقط عن التراخيص ومشاريع الإنماء والبنية التحتية المستقبلية.

ولا يقتصر مشروع الاتفاق على المعادن والعناصر النادرة فحسب. بل يمتد أيضا إلى الموارد الطبيعية الأخرى بأوكرانيا، بما في ذلك النفط والغاز، فضلا عن أي بنية تحتية مرتبطة بهذه القطاعات، مثل الموانئ أو محطات الغاز الطبيعي المسال.

وذكر ترمب أن الغاية من الاتفاق هي استعادة الأموال التي قدمتها واشنطن لأوكرانيا إبان إدارة جو بايدن. لكن ما لم يذكره هو مواصلة مسلسل الانتقام من كل ما ومن أهانه على مدى السنوات الأربع الماضية ومن بينهم زيلينسكي الذي رفض تسليمه مستندات يعتقد أنها تدين بايدن ونجله هانتر فيما يتعلق بصفقات ومعاملات وصفها ترمب خلال حملته الانتخابية بالمشبوهة. واتهم نائبه جي دي فانس زيلينسكي أيضا بالمشاركة في دعاية مضادة للحزب الجمهوري في بنسلفانيا.

Shutterstock
الآت تقوم باستخراج فحم في منجم في أوكرانيا

كما أن التوصل إلى سلام بين روسيا وأوكرانيا سيضمن عدم استيلاء موسكو أو بكين على المعادن الاستراتيجية التي يصبو إليها كلاهما.

فقد أصبح الحصول على هذه المعادن في الصميم من السباق، إذا لم يكن الصراع، التكنولوجي بين روسيا والصين من جانب والولايات المتحدة من جانب آخر. فما تمتلكه أوكرانيا من احتياطيات هائلة من هذه المعادن النادرة والثمينة مع تقنيات التنقية والتكرير هي أصول عالية القيمة للتكنولوجيا الحديثة وأنظمة الدفاع والفضاء المتطورة والطاقة المتجددة والتصنيع. وقد أكد السيناتور ليندسي غراهام عقب زيارته لأوكرانيا أن هذه البلاد ترقد على ما يقرب من 12 تريليون دولار من المعادن النادرة والثمينة وأنها يمكن أن تكون أغنى بلد في أوروبا.

ومن شأن تعزيز سيطرة أوكرانيا على هذه الثروات والتوصل إلى اتفاق مشترك بينها وبين واشنطن لاستغلال هذه الموارد أن يحد من الاعتماد على سلاسل التوريد التي تتحكم فيها الصين. فاحتياطيات أوكرانيا من الليثيوم والتيتانيوم هي الأكبر في أوروبا. ولديها أيضا مخزونات ضخمة من الكوبالت والنيكل الضرورية لصناعة البطاريات فائقة الأداء والمعدات الفضائية والعسكرية. وتتمركز عناصر الغرافيت النادرة في المناطق الوسطى والشرقية من البلاد ولا زال الكثير منها تحت أيدي الأوكرانيين إلا أن استمرار الصراع يعرضها لخطر الضياع مثلما ضاع ما يقرب من 20 في المئة من أراضي أوكرانيا بما فيها من ثروات ومدن استراتيجية في الشرق والجنوب الشرقي. وإلى جانب أوكرانيا، تحكم الصين السيطرة على موارد الغرافيت التي فرضت حظرا على تصديرها إلى الولايات المتحدة. وتستحوذ الصين على تصنيع نحو 90 في المئة من معادن التربة النادرة وتعد أكبر منتج للغرافيت والتيتانيوم وأكبر مصنع لليثيوم.

يرى الخبراء أن أوكرانيا يمكنها، بفضل العلاقات الطويلة مع وزارات الدفاع الأميركية والأوروبية، تطويع صناعاتها العسكرية بحيث تتطابق وأنظمة الدفاع لدى حلف شمال الأطلسي

وتعتبر أوكرانيا خامس أكبر منتج لمعدن الغاليوم النادر والذي يعد عنصرا أساسيا في إنتاج أشباه الموصلات، فضلا عن أنها من أكبر منتجي غاز النيون الذي فرضت بكين أيضا حظرا على تصديره لواشنطن. وكانت أوكرانيا تمد الولايات المتحدة بنحو 90 في المئة من احتياجاتها من هذا الغاز الضروري لإنتاج الشرائح الإلكترونية قبل أن يؤدي الغزو الروسي إلى إغلاق مصانعه في أوكرانيا.

وإذا تم التوصل إلى سلام بين موسكو وكييف، وإلى اتفاق مشترك بين الأخيرة وواشنطن على إدارة هذه الموارد، فستحافظ أوكرانيا على استقلالها وسيادتها وستعزز الولايات المتحدة مصالحها الاستراتيجية وتفوقها النوعي بالإضافة إلى تمتين تحالفها مع أوكرانيا التي تتمتع بتاريخ طويل في التصنيع الدفاعي المتطور منذ أن كانت أحد الكواكب السيارة في فلك الاتحاد السوفياتي. وقد تطورت الصناعات الدفاعية لدى أوكرانيا باضطراد خاصة أثناء الحرب مع روسيا، لاسيما صناعة المسيرات التي شهدت تقدما سريعا ومذهلا لديها.

هذا بالإضافة إلى تقدمها في تصنيع أنظمة الاستطلاع والهجوم حتى تفوقت على نظيراتها الغربية. وصرح رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة السابق مارك ميللي بأن التقدم الذي حققته أوكرانيا في صناعة المسيرات يمثل أكبر تغيير يسجله التاريخ في طبيعة الحرب.

ويرى الخبراء أن أوكرانيا يمكنها، بفضل العلاقات الطويلة مع وزارات الدفاع الأميركية والأوروبية، تطويع صناعاتها العسكرية بحيث تتطابق وأنظمة الدفاع لدى حلف شمال الأطلسي، ومن ثم دمج إنتاجها من الأسلحة والذخائر ضمن سلاسل التوريد الدفاعي للحلف وفتح الباب أمام عمليات إنتاج مشتركة مع مصانع السلاح الأميركية لتلبية احتياجات دول الحلف بتكلفة أقل، وتخفيف العبء المالي على الولايات المتحدة.

وتتحدث الصفقة عن تقاسم عائدات الإنتاج المستقبلي من هذه المعادن، وليس عن العقود والإنتاج القائم بالفعل. وقد أشارت وزارة البيئة والموارد الطبيعية الأوكرانية في عرض حديث إلى أن أوكرانيا لديها زهاء سبعة في المئة من الإنتاج العالمي من التيتانيوم، وثلاثة في المئة من احتياطيات العالم من الليثيوم فضلا عن مخزونات من المعادن النادرة مثل التانتلوم والنيوبيوم والبرييليوم.

التقديرات الحالية لثروات أوكرانيا تعتمد على مسوح تمت إبان العهد السوفياتي أي منذ نحو 60 عاما ولم يجر تحديث بياناتها وخرائطها بعد

وقد أشار مستشار الأمن القومي مايك والتز مؤخرا إلى أن أحد مصاهر الألومنيوم التي تم تدميرها يمكن- إذا أعيد تشغيله بكامل طاقته- أن يعادل إنتاجه إجمالي ما تستورده الولايات المتحدة من هذا المعدن على مدى عام كامل.

وليست معادن أوكرانيا النادرة مطمعا للولايات المتحدة وحدها، بل إنها أيضا محط اهتمام دول الاتحاد الأوروبي التي وقعت مع كييف مذكرة تفاهم عام 2021 حول التعاون المستقبلي للاستثمار في التعدين. وكانت إدارة بايدن قد أعدت مذكرة مشابهة العام الماضي قالت إنها ستشجع الشركات الأميركية على الاستثمار في قطاع التعدين في أوكرانيا مقابل حوافز اقتصادية لكييف.

ووفقا لحكومة كييف، فإن لدى أوكرانيا مخزونات من 22 معدنا مصنفة من قبل الولايات المتحدة ضمن 50 عنصرا معدنيا مهماً للغاية.

.أ.ف.ب
المعادن الأوكرانية في صلب المفاوضات بين روسيا وأوكرانيا والولايات المتحدة لإنهاء الحرب، 7 فبراير 2025

وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد صرح بأن موسكو مستعدة للعمل مع الشركات الأميركية لاستخراج المعادن النادرة في الأراضي الروسية وفي المناطق الأوكرانية التي تحتلها.

ومع كل هذه الضجة الحالية حول صفقة المعادن الأوكرانية مقابل ضمانات بالحماية الأمنية الأميركية غير المضمونة حتى الآن، لن يبدأ مشروع الصفقة- حال شرع في تطبيقه بعيد إبرام اتفاق سلام بين المتحاربين- في الإثمار قبل سنوات عديدة إذ من المعروف عالميا أن المنجم الواحد يستغرق نحو 18 عاما لكي يبدأ في الإنتاج، كما تتراوح تكلفته ما بين 500 مليون إلى مليار دولار حتى يكتمل بناؤه مع محطة الفصل والتنقية الملحقة به.

كما أن التقديرات الحالية لثروات أوكرانيا تعتمد على مسوح تمت إبان العهد السوفياتي أي منذ نحو 60 عاما ولم يجر تحديث بياناتها وخرائطها بعد، فضلا عن تدمير جانب كبير من البنية التحتية الأوكرانية وعدم ضمان مشاركة القطاع الخاص الأميركي في هذه الاستثمارات الضخمة، بينما تستطيع روسيا والصين حشد شركاتها المملوكة للدولة للاستثمار في استخراج معادن أوكرانيا الثمينة.   

font change