كيف يقود ترمب والصين أسواق الذهب الى مستويات تاريخية؟

بين الحروب العسكرية والتجارية ومحدودية انتاج المناجم... الأونصة تمضي في رحلة الثلاثة آلاف دولار

Shutterstock
Shutterstock
احتدام المنافسة الاقتصادية بين الصين والولايات المتحدة مع ارتفاع أسعار الذهب عالميًا

كيف يقود ترمب والصين أسواق الذهب الى مستويات تاريخية؟

تشهد أسواق الذهب موجة صعود قياسية مدفوعة بتوترات جيوسياسية متزايدة، أبرزها السياسات الاقتصادية الصارمة للرئيس الأميركي دونالد ترمب واحتدام الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين. في ظل هذه الأوضاع، تتجه المصارف المركزية وصناديق الاستثمار العالمية إلى تعزيز احتياطياتها من الذهب كملاذ آمن من التقلبات الاقتصادية والعقوبات التجارية. ومع ارتفاع الطلب وتراجع قدرة المناجم على تلبية الاحتياجات المتزايدة، تتوقع المصارف العالمية وصول أسعار الذهب إلى مستويات تاريخية تتجاوز 3,200 دولار للأونصة. فهل يصبح الذهب الأداة المثلى للتحوط ضد انهيارات الأسواق، أم أن هذا الصعود مجرد فقاعة تنتهي قريبا؟

دفعت هذه التطورات الأسواق العالمية والمحلية والأفراد نحو تغيير جذري في سياسات الأصول والمعادن النفيسة، مما عزز جاذبية الذهب بوصفه ملاذا آمنا، وكذلك الفضة، وخصوصا بعد التلويح بتهديدات مختلفة والهجمات المتكررة على النظام التجاري العالمي. وكانت الصين من بين الدول التي سارعت باكرا إلى زيادة احتياطياتها من الذهب، إلى جانب دول مجموعة "بريكس"، التي سعت إلى تكوين احتياطيات ذهبية لتعزيز حضورها في هذا التكتل الاقتصادي المهم، كما انضمت إليها مصارف مركزية أخرى، حيث كانت بولندا وهنغاريا والهند من المشترين الرئيسيين للذهب.

الصين تسمح لشركات التأمين بالاستثمار في الذهب

يبدي خبراء ومحللون تفاؤلا كبيرا في شأن أسعار الذهب والفضة. ويُعَد السماح لشركات التأمين الصينية بالاستثمار في الذهب تحولا تاريخيا في السياسة المالية للبلاد، إذ اعتادت بكين فرض قيود صارمة على استثمارات صناديق التأمين، مانعة إياها من الاستثمار في الأصول التي لا توفر عائدا نقديا ثابتا.

أ.ف.ب.
عاملة في متجر مجوهرات، في مقاطعة شنشي شمال الصين، 30 مارس 2008

لكن مع تزايد التقلبات الاقتصادية والتحديات التي تواجه الأسواق المالية، أصبح الذهب الخيار الأكثر أمانا وجاذبية لهذه المؤسسات الاستثمارية الضخمة. وكانت الصين لجأت إلى الاستثمار في الذهب بدلا من السندات الأميركية، للتحوط من تداعيات الحرب التجارية مع الولايات المتحدة. وتُقدَّر استثمارات الصين في سندات الخزانة الأميركية بأكثر من ثلاثة تريليونات دولار، إلا أنها بدأت في تقليص هذه الاستثمارات، إذ باعت جزءا منها مع انتهاء مواعيد الاستحقاق، واستبدلت الذهب بها لتجنب العودة إلى الاستثمار في السندات الأميركية.

مشتريات المصارف المركزية، ومحدودية الكميات المستخرجة من المناجم، تؤدي إلى ارتفاع تدريجي في الأسعار

لم يعد استخدام الذهب كملاذ آمن مقتصرا على الأفراد فقط، بل تلجأ إليه المصارف المركزية حول العالم للحفاظ على احتياطيات النقد الأجنبي. تسعى الدول التي تستثمر في الذهب والمعادن النفيسة إلى حماية اقتصاداتها من أخطار التضخم وضبط العديد من البنود المالية، مثل عجز الموازنات. وكانت مصر من بين الدول التي زادت احتياطياتها من الذهب بأكثر من 44 طنا للتحوط من تذبذب أسعار الصرف واستقرار الدولار.

الطلب المتزايد من البنوك المركزية الى الأفراد

كما تؤدي محدودية الكميات المستخرجة من المناجم، إلى ارتفاع تدريجي في الأسعار. وعندما تصل احتياطيات الذهب إلى مستويات فائضة لدى بعض الدول، قد تبدأ ببيعه، مما يؤدي إلى انخفاض الأسعار، كما حدث عام 1997 عندما باع المصرف المركزي السويسري كميات كبيرة من احتياطيات الذهب، مما أدى إلى انخفاض سعر غرام الذهب في مصر آنذاك من 52 إلى 26 جنيها/15-6 دولارات بأسعار ذلك الزمن.

أ.ف.ب.
عمال يستخرجون الذهب من منجم في جنوب غريلاند، 12 فبراير2025

لكن الوضع في مصر يختلف تماما، إذ أن الذهب الذي تنتجه شركة "سنتامين" في مصر كان تابعا لشركة بريطانية، قبل أن تتحول ملكيته إلى شركة كندية مدرجة في بورصة نيويورك. ويُشار إلى أن الذهب المستخرج من مصر يُصَك ويُدمَغ في الخارج، مما يزيد تكلفته. أما التجار فيسعون إلى إبقاء أسعار الذهب من ضمن حدود معينة لضمان تحقيق أرباح رأسمالية، وبالتالي لا تعكس أسعار الذهب في مصر بالضرورة الأسعار العالمية، إذ تتأثر بعوامل محلية، مثل المواسم، وقرارات المصرف المركزي في شأن أسعار الفائدة، ومعدلات التضخم، وانخفاض قيمة العملة، فضلا عن التوجه نحو الاستثمار في بدائل أخرى.

يؤكد الخبير المصرفي محمد عبد العال في حديث مع "المجلة" أن المصارف المركزية توسعت أخيرا في شراء الذهب "لتحويل جزء متزايد من احتياطياتها النقدية بالدولار إلى الذهب، ولا سيما في الصين، التي استمرت في شراء الذهب لمدة 18 شهرا متواصلة قبل أن تتوقف لمدة ستة أشهر اعتبارا من منتصف عام 2024، ثم عاودت الشراء مجددا". وقال: "على الرغم من حجم مشترياتها، لا يمثل احتياطي الذهب لدى الصين سوى خمسة في المئة من احتياطياتها النقدية، مما يعني أن لديها مجالا لتعزيز أرصدتها من الذهب"

بلغت مشتريات المصارف المركزية من الذهب خلال العامين المنصرمين 1,055 طن عام 2023، و1,045 طنا عام 2024، ومن المتوقع أن تتجاوز 1,000 طن عام 2025

تقرير مجلس الذهب العالمي

ويشير تقرير مجلس الذهب العالمي إلى أن مشتريات المصارف المركزية من الذهب خلال العامين الماضيين بلغت 1,055 طن عام 2023، و1,045 طنا عام 2024، ومن المتوقع أن تتجاوز 1,000 طن عام 2025، باعتبار الذهب أحد الأصول الرئيسة للتحوط ضد تقلبات الأصول الأخرى في الأجلين المتوسط والبعيد. ويُعَد الذهب سلعة غير مستهلكة، يحتفظ بقيمته لدى حائزيه، ويوفر حماية ضد التوترات الجيوسياسية والتضخم وانخفاض قيمة العملات الوطنية.

ومن الأسباب الرئيسة التي تؤدي إلى زيادة الطلب على الذهب، انخفاض الإنتاج السنوي، إذ يبلغ إجمالي المخزون العالمي من الذهب أكثر من 230,000 طن، بينما لا يتجاوز متوسط الإنتاج السنوي 3,000 طن. ولم يحقق إنتاج الذهب نموا ملحوظا إلا بنسبة واحد في المئة فقط عام 2022، وفق أرقام مجلس الذهب العالمي. مع ذلك، فإن المخزون متوفر، لكن الأهمية تكمن في وتيرة الاكتناز والاحتفاظ بالمعدن النفيس.

أ.ف.ب.
سبيكتا ذهب تبلغ قيمتهما أكثر من مليوني دولار، تم عرضهما في المعرض الدولي للذهب والمجوهرات في الكويت، 11 ديسيمبر 2024

أما عن مستقبل الذهب، فتشير التوقعات إلى استمرار ارتفاع أسعاره في الأجلين المتوسط والبعيد، ومع استمرار شراء المصارف المركزية للذهب، سينخفض حجم المعروض، مما يعزز ارتفاع الأسعار، إلى جانب استمرار حالة عدم اليقين الاقتصادي والسياسي. وقد سجل الذهب أرقاما تاريخية، مقتربا من 3.000 دولار للأونصة، بارتفاع قياسي مقارنة بأي من الأصول الأخرى، إذ ارتفع بنسبة ثمانية في المئة منذ مطلع يناير/كانون الثاني حتى الآن، مقارنة بالأسهم الأميركية التي ارتفعت بنسبة 2.8 في المئة خلال الفترة نفسها. وتعود هذه الارتفاعات إلى عوامل مرتبطة بالأخطار الجيوسياسية، سواء القديمة أو الجديدة، وخصوصا منذ تولي ترمب الرئاسة مجددا.

سياسات ترمب تثير قلقا عالميا، ولا سيما في منطقة الشرق الأوسط، وخصوصا بالنسبة الى غزة، التي تنعكس آثارها على مصر، إلى جانب فرضه لتعريفات جمركية جديدة، كلها عوامل تدفع أسعار الذهب إلى الارتفاع. و

استمرار ارتفاع الذهب يعود إلى سبب أساسي واضح، وهو شراء المصارف المركزية، بغرض زيادة الاحتياطيات غير النقدية، حيث يُدفَع الدولار في مقابل الذهب، وهو أحد أشكال التخلي عن الدولار

طاهر المرسي، خبيرومحلل اقتصادي

 وفي الوقت ذاته، يساهم انخفاض أسعار الفائدة على الدولار الأميركي في تعزيز جاذبية الذهب. فعندما تنخفض أسعار الفائدة، تقل تكلفة تمويل الذهب، مما يزيد الطلب عليه، ويدفع أسعاره إلى مزيد من الارتفاع.

أحد أشكال التخلي عن الدولار

اعتبر خبير المال طاهر المرسي أن استمرار ارتفاع أسعار الذهب بهذا الشكل "يعود إلى سبب أساس واضح، وهو شراء المصارف المركزية، إذ يتم شراء الذهب بغرض زيادة الاحتياطيات غير النقدية، حيث يُدفَع الدولار في مقابل الذهب، وهو أحد أشكال التخلي عن الدولار في ما يُعرف بإزالة الدولرة (De-Dollarization)، وتقود هذه العملية مجموعة من الدول التي ترفض استمرار الهيمنة المالية والنقدية الأميركية، حيث يُستخدَم الدولار كعملة تسعير دولية والعملة المهيمنة على التجارة العالمية، مما يمنح الولايات المتحدة مزايا اقتصادية تفوق حجمها الاقتصادي الحقيقي".

رويترز
الرئيس الأميركي دونالد ترمب في اجتماع ثنائي مع الرئيس الصيني شي جينغ بينغ، خلال قمة مجموعة العشرين في أوساكا في اليابان، 29 يوليو 2019

وأشار المرسي، في حديث إلى "المجلة"، إلى أن جذور المشكلة تعود إلى اتفاقية جامايكا المبرمة في سبعينات القرن الماضي، والتي لم تُقِرّ في شكل نهائي اعتبار الدولار عملة العالم، "بل جرى الاتفاق على اعتباره حلا مؤقتا لمشكلة عدم قدرة أميركا على السداد بالذهب وفق اتفاقية بريتون وودز". ومع ذلك، ومع تراكم الدولارات في خزائن الدول المختلفة، أضاف، "اضطرت هذه الدول إلى القبول بالأمر الواقع حتى لا تنهار أنظمتها النقدية المثقلة باحتياطيات ضخمة من الدولار غير القابل لاستبدال الذهب به، بعد إعلان الولايات المتحدة عدم قدرتها على تلبية الطلب على تحويل الدولار إلى ذهب.

الحرب التجارية تتحول الى تهديد للأمن والسلم

ورأى المرسي أن هذا الاتجاه مرشح للاستمرار لفترة ليست بالقصيرة، نظرا إلى ضبابية المشهد الأميركي، حتى في حال تراجع حدة الحرب في أوكرانيا أو غيرها من بؤر النزاع، "فالحرب التجارية غالبا ما يكون أثرها أقوى وأشد من الحروب العسكرية". وأكد أن هذه الحرب لن تنتهي "إلا بتسوية واتفاقات بين الأطراف الدولية المتنازعة، أو – في أسوأ السيناريوهات – بالانزلاق إلى حرب عالمية جديدة إذا أصر كل طرف على تحقيق انتصار كامل، مما قد يدفع الحرب التجارية إلى تهديد الأمن والسلم الدوليين، ويعيد إلى الأذهان سيناريو الحرب العالمية الثانية كوسيلة لحسم النزاعات الاقتصادية والجيوسياسية".

وخلص المرسي: "في ظل هذه الأوضاع الشائكة والحرب التجارية الطاحنة، والإجراءات الحمائية الأعنف منذ الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، لا يمكن أسعار الذهب أن تنخفض". وفي هذا السياق، رفع مصرف "يو بي إس" توقعاته لذروة أسعار الذهب خلال العام الحالي، متوقعا أن يصل المعدن الأصفر إلى أكثر من 3,200 دولار للأونصة قبل أن يستقر عند مستويات مرتفعة في السنوات المقبلة. ويُذكَر أن المصرف كان قد حدد في توقعاته السابقة ذروة سعر الأونصة عند 3,000 دولار.

font change