الأجندات السياسية وإعمار غزة... من يتحكم في المشهد؟

تعقيدات الواقع السياسي والجيوسياسي

أ.ف.ب
أ.ف.ب
إفطار جماعي في رفح الفلسطينية وسط الدمار

الأجندات السياسية وإعمار غزة... من يتحكم في المشهد؟

لطالما ارتبطت جهود إعادة الإعمار، في الحروب السابقة على غزة، بحلول مؤقتة بدلا من تحقيق تنمية مستدامة. وبعد أكثر من 16 شهرا من حرب إبادة شنتها إسرائيل ردا على هجمات "حماس" في 7 أكتوبر/تشرين الأول، باتت أبسط الاحتياجات والتطلعات الأساسية لسكان القطاع مرهونة برؤية القوى الإقليمية والدولية للوضع السياسي والجيوسياسي في غزة بعد توقف الحرب.

وقد برزت عدة مقترحات لمستقبل غزة بعد الحرب، من بينها خطة مصرية، واتفاق نادر بين "فتح" و"حماس"، بالإضافة إلى رؤية خيالية طرحها الرئيس الأميركي دونالد ترمب لتحويل القطاع إلى "ريفييرا" جديدة في الشرق الأوسط. كما ظهرت خطة إسرائيلية يُرجَّح أنها تهدف إلى عرقلة الجهود العربية المشتركة في مواجهة اقتراح ترمب غير الواقعي.

تزداد تعقيدات إعادة إعمار غزة بعد الحرب، ليس فقط بسبب الدمار الهائل الذي لحق بها، ولكن أيضا نتيجة استمرار الحصار والاحتلال الإسرائيلي. فلا يقتصر الاحتلال على الوجود العسكري فحسب، بل يمتد إلى السيطرة على الحدود، والمجال الجوي، والموارد الأساسية.

ومنذ فرض الحصار الإسرائيلي عام 2007، تخضع غزة لقيود صارمة على تدفق البضائع، بما في ذلك مواد البناء والإمدادات الطبية والغذاء، وهي عناصر أساسية لإعادة بناء البنية التحتية الضرورية للحياة اليومية. كل ذلك يأتي في ظل وضع مأساوي يزداد سوءا مع استمرار الصراع.

تعكس الحروب السابقة على غزة نمطا دوريا من الدمار وإعادة الإعمار، حيث يخلف كل صراع موجات جديدة من المعاناة الإنسانية والدمار الشامل للبنية التحتية. ومع كل حرب، لا تقتصر تعقيدات إعادة الإعمار على الأضرار الناجمة عن القصف الإسرائيلي فحسب، بل تمتد أيضا إلى تعقيدات الواقع السياسي وإمكانية تراجع اهتمام المانحين الدوليين.

ورغم التعهدات الأولية بتقديم مساعدات لإعادة الإعمار في أعقاب الحروب السابقة، فإن الاستجابة شهدت تراجعا ملحوظا فور انتهاء القتال. وأظهرت التجربة أن المبالغ التي تم الوفاء بها لم تكن سوى جزء ضئيل من الالتزامات التي تم التعهد بها خلال المباحثات التي أعقبت تلك الحروب بين "حماس" وإسرائيل.

يعكس هذا التراجع الحاد في تمويل مشاريع إعادة إعمار غزة ضعف ثقة المانحين الدوليين وترددهم في تقديم الدعم، إذ يخشى كثيرون أن تتعرض استثماراتهم للدمار مجددا في أي حرب مستقبلية. وإلى جانب هذه المخاوف، تلعب الاعتبارات السياسية دورا رئيسا، حيث يتزايد التوافق العربي على ضرورة أن لا تتولى "حماس" إدارة القطاع بعد الحرب.

تزداد تعقيدات إعادة إعمار غزة بعد الحرب، ليس فقط بسبب الدمار الهائل الذي لحق بها، ولكن أيضا نتيجة استمرار الحصار والاحتلال الإسرائيلي

المناطق الآمنة

تحظى الخطة المصرية، التي كشفت عنها وسائل إعلام رسمية في مصر، باهتمام واسع في العالم العربي، حيث تُطرح باعتبارها استراتيجية رئيسة للمضي قدما في إدارة غزة بعد الحرب. وتركّز الخطة على إنشاء إدارة فلسطينية لا تتبع لـ"حماس" أو السلطة الفلسطينية، تتولى إدارة القطاع والإشراف على جهود إعادة الإعمار.

كما تدعو القاهرة إلى تشكيل قوة شرطة فلسطينية تتألف أساسا من أفراد أمن سابقين في السلطة الفلسطينية ممن ظلوا في غزة بعد سيطرة "حماس" على القطاع عام 2007، على أن يتم دعمهم بعناصر مدربة من قبل مصر والغرب، لضمان الاستقرار الأمني وإعادة بناء المؤسسات المدنية.

بحسب التقارير، تقوم الخطة المصرية على عملية إعادة إعمار تمتد لثلاث مراحل على مدى خمس سنوات، دون تهجير الفلسطينيين من غزة. وتشمل الخطة إنشاء ثلاث "مناطق آمنة" داخل القطاع، تُخصص لاستيعاب السكان خلال فترة "التعافي المبكر" التي تمتد لستة أشهر، حيث سيتم تجهيزها بمنازل متنقلة وملاجئ، مع ضمان تدفق المساعدات الإنسانية إليها.

أ.ف.ب
فلسطيني يرفع العلم فوق أنقاض غزة

كما تنص الخطة على مشاركة أكثر من 20 شركة مصرية ودولية في إزالة الأنقاض وإعادة بناء البنية التحتية للقطاع، وهو ما سيسهم في إنعاش الاقتصاد المصري، رغم أن هذه النقطة تبقى موضوعا منفصلا.

لكن هل تنفيذ هذه الخطة بهذه السهولة؟ على العكس، فبينما قد يبدو إنشاء "المناطق الآمنة" حلا يوفر مأوى مؤقتا وأمانا للمدنيين النازحين جراء الصراع، فإن تطبيقها يواجه الكثير من العقبات والتداعيات المهمة.

إذ ستعتمد حماية هذه المناطق بشكل أساسي على تعاون إسرائيل، التي تحظى بدعم من الرئيس الأميركي دونالد ترمب، إلى جانب موقف حركة "حماس"، التي لا تزال فاعلة عسكريا وسياسيا. 

ووفقا لمسودة حصلت عليها "رويترز"، لا تعالج خطة القاهرة قضايا حاسمة مثل من سيدفع فاتورة إعادة إعمار غزة كما لم تحدد أي تفاصيل دقيقة حول كيفية حكم القطاع، ولا كيف سيتم إبعاد "حماس".      

بينما قد يبدو إنشاء "المناطق الآمنة" حلا يوفر مأوى مؤقتا وأمانا للمدنيين النازحين جراء الصراع، فإن تطبيقها يواجه الكثير من العقبات والتداعيات المهمة

"ريفييرا الشرق الأوسط"

تُعد الخطة المصرية أيضا ردا مباشرا على طرح الرئيس الأميركي دونالد ترمب، الذي يدعو إلى السيطرة على غزة وتحويلها إلى وجهة سياحية بعد تهجير سكانها، وهو ما يُعتبر شكلا من أشكال التطهير العرقي. فالسكان الذين يرون غزة موطنهم يرتبطون بها تاريخيا وثقافيا بشكل عميق، وقلعهم من أرضهم سيؤدي إلى صدمة هائلة واضطرابات اجتماعية، فضلا عن إشعال دوامة جديدة من العنف، ما يجعل هذا الطرح بمثابة عقاب جماعي نفسي للفلسطينيين.

وقد رفضت كل من مصر والأردن بالفعل مقترح ترمب الهادف إلى تهجير الفلسطينيين من القطاع، نظرا لما يحمله من مخاطر على الاستقرار الإقليمي. فخطة ترمب تتناقض مع التوازنات السياسية والاجتماعية الراسخة في المنطقة، ومن المرجح أن تؤدي إلى اضطرابات واسعة، ليس فقط داخل غزة وإسرائيل، بل في الشرق الأوسط بأكمله في حال تنفيذها.

هل ستتمكن "فتح" و"حماس" من تجاوز سنوات من عدم الثقة والتنافس الأيديولوجي؟

اتفاق بين "فتح" و"حماس"؟

شهدت محادثات برعاية القاهرة، في ديسمبر/كانون الأول الماضي، إعلانا نادرا بين حركتي "فتح" و"حماس"، حيث اتفق الطرفان على تشكيل لجنة لإدارة قطاع غزة بعد انتهاء الحرب. ومن المفترض أن يتم ذلك بالتنسيق مع الحكومة الفلسطينية، على أن يصدر الرئيس محمود عباس "مرسوما رئاسيا" لتعيين هذه اللجنة بعد موافقته على مسودة الاتفاق. وستتألف اللجنة من عشرة إلى خمسة عشر عضوا من "الشخصيات الوطنية التي تتمتع بالكفاءة والنزاهة والخبرة والشفافية".

لكن هذا الاتفاق يبدو أقرب إلى تصريحات دبلوماسية ومجاملات سياسية منه إلى خطة قابلة للتنفيذ. فمنذ سيطرة "حماس" على غزة عام 2007، ظل المشهد الفلسطيني منقسما بين الحركتين، حيث تدير "فتح" ما تبقى من الضفة الغربية المحتلة، بينما تسيطر "حماس" على ما تبقى من غزة بعد إعادة احتلال إسرائيل لها. وقد أسهم هذا الانقسام المستمر في غياب استراتيجية سياسية موحدة وضعف إدارة الأراضي الفلسطينية، ما يجعل تنفيذ هذا الاتفاق مرهونا بإرادة سياسية غير مؤكدة حتى الآن.

ومع ذلك، فإن ازدياد الضغوط الدولية والحاجة إلى تشكيل جبهة فلسطينية موحدة قد يدفع الطرفين إلى المصالحة. كما أن الضرورة الملحّة لإعادة الإعمار بعد الحرب وتوفير المساعدات الإنسانية قد تفرض عليهما التعاون. فمن الناحية السياسية، قد يدرك الطرفان أن التمسك بالخلافات القديمة لم يعد خيارا واقعيا في ظل التحديات الراهنة.

لكن يبقى التساؤل مطروحا: هل ستتمكن "فتح" و"حماس" من تجاوز سنوات من عدم الثقة والتنافس الأيديولوجي لتحقيق وحدة حقيقية ومستدامة؟

لكن إسرائيل لديها خطة أخرى…

رغم تعدد الخطط المطروحة لمستقبل غزة، يبدو أن لإسرائيل أجندة خفية تحمل رسالة سياسية واضحة: لا يمكن تحقيق أي شيء في القطاع دون موافقتها.

وبحسب تقرير نشرته صحيفة "الغارديان"، قدّم الجيش الإسرائيلي للأمم المتحدة والمنظمات الإغاثية خطة لإدارة غزة بعد الحرب تحت "رقابة مشددة". وتشير التقارير إلى أن هذه الخطة لا تتضمن انسحاب القوات الإسرائيلية من القطاع.

نقلت الصحيفة عن مصادر في منظمات الإغاثة أن ممثلين عن الجيش الإسرائيلي سيشرفون على توزيع المساعدات عبر "مراكز لوجستية مُحكمة الإدارة"، لضمان وصولها إلى جهات محددة داخل غزة. ومن المتوقع أن تُوسع هذه "المراكز الإنسانية" تدريجيا، مع احتمال تأمينها عبر شركات أمنية خاصة تعمل في المناطق الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية الكاملة.

وبموجب هذا الإطار المخطط له، ستضطر جميع المنظمات غير الحكومية الراغبة في العمل داخل غزة إلى التسجيل لدى إسرائيل، على أن يخضع موظفوها لعملية تدقيق وموافقة إسرائيلية.

يُظهر هذا التشابك بين المساعدات والأجندات السياسية تعقيد مشهد إعادة الإعمار؛ إذ يظل الاحتلال والعنف عاملين حاسمين في رسم ملامح المرحلة المقبلة. والأمر المؤكد أنه دون مقاربة شاملة توازن بين المخاوف الأمنية الإسرائيلية والضرورات الإنسانية، ستظل آفاق إعادة الإعمار في غزة قاتمة، مما يكرّس حلقة الصراع والمعاناة المستمرة.

font change