يوم الجمعة الماضي، زار رئيس الحكومة اللبنانية نواف سلام، محافظتي النبطية والجنوب لتفقد أضرار الحرب والوقوف على حاجات الناس وهمومهم، في خطوة ذات أبعاد سياسية وعاطفية، أربكت القوة المهيمنة على المنطقة، وفاجأت الأصدقاء مثل الخصوم.
"حزب الله" الذي يتعامل مع الجنوب وأهله كأملاك خاصة، ويمنع حضور الدولة في الجنوب من دون إذن مسبق، بدا منزعجا من الزيارة، رغم أنه قبل يومين من الزيارة، كان قد منح الحكومة التي يرأسها سلام الثقة، ووافق على بيانها الوزاري.
لذلك، حرك الحزب جحافل "الأهالي" على الأرض، للتشويش على الزيارة، وفي الوقت نفسه، بدأ "أهالي" عالمه الافتراضي حملة نشر عبارة "نواف سلام صهيوني" بشكل موسع.
وعلى عادته، تبرأ "حزب الله" من تحرك "الأهالي" وأشاع مقربون منه أنه كان هناك عدم تنسيق بين المستوى السياسي والمستوى الشعبي، حول الاستجابة للزيارة.
لكن ادعاء غياب التنسيق لم يكن أكثر من خدعة إعلامية، علاوة على أنه أشار إلى نوع من الانفصام الذي يمارسه "حزب الله"، ليستمر في التلاعب بعقل جمهوره، وتطويقه عاطفيا لإلهائه عن التفكير بنكبته، فلا يعقل في غضون ساعات أن تمنح مسؤولا ثقتك في بيروت، ثم تحجبها عنه في الجنوب.
لكن من يعرف كيف يشتغل عقل "حزب الله"، يعرف أن هذا ليس جديدا عليه، ففي العلاقة مع حليفته حركة "أمل"، كان يقسم الأدوار على هذا الشكل أيضا، تطبيع سياسي محكم مع رئيسها نبيه بري، أما على الأرض فاستفزازت لا تتوقف لجمهورها. وهو توزيع أدوار مطلوب بشدة هذه الأيام، غايته شد العصب، وإحكام الإغلاق على الطائفة، لئلا يتسرب إليها شبهة مساءلة أو شكوى "من فعل بنا هذا؟".
في مقابل العراضات، كان هناك مواطنون كثر، يقفون بعيدا في أماكن لا تلتقطها الكاميرات، يتابعون الزيارة ويرحبون بقلوبهم بالضيف العزيز، من دون أن يتجرأوا على الاقتراب منه
على مستوى آخر، كان للزيارة بعدان مهمان: سياسي، لأنه لأول مرة ينقل مسؤول لبناني المواجهة مع "حزب الله" بهدوء، من مفهوم اللعبة السياسية إلى مستوى الممارسة العملية، وعاطفي لأن سلام كان مدركا أن منطلق زيارته من موقع المسؤولية، وأنها مقبولة من أهالي المنطقة من موقع الحاجة، رغم بعض الشوائب التي ظهرت.
وعليه، فإن الصورة الإعلامية التي تعممت عن اعتراض الزيارة، لا تعكس مزاج أهل المنطقة كلهم، والحقيقة أن الجنوبيين انقسموا حول الزيارة، مثلما كانوا منقسمين حول الحرب، فليسوا كلهم معارضين لها، كما ليسوا كلهم غير مرحبين بالضيف، والحقيقة الأخرى أن تحرك "الأهالي" ضد سلام لم يكن عفويا، لأن "الأهالي" عادة لا يتحركون بشكل عفوي.
ففي الخيام مثلا، حين سأله واحد من "الأهالي" هل تستطيع تحرير تلة الحمامص بالحوار؟ وفي النبطية حين أسمعه آخر خطابا استعلائيا عن الكرامة والشرف والتضحية، ظهر عليهما التلقين لا الارتجال، وكأن كل واحد منهما كان يؤدي دورا مسرحيا، فهما يعرفان ضمنا كما الجنوبيين كلهم، من رمى البلاد في هذا الجحيم، وأن التلة المحتلة كانت قبل "حرب الإسناد" محررة، وأن سلام لا يملك قرار الحرب والسلم، فالقرار في طهران وليس في بيروت، وأنه لم يكن طرفا في هذا الخراب، كما أنه ليس بمقدوره منع "الحزب" من مواصلة "المقاومة"، وأنه في هذا الوقت كان في لاهاي يحضر أوراق إدانة إسرائيل لأول مرة في تاريخها.
في مقابل العراضات، كان هناك مواطنون كثر؛ وأنا منهم، ممن يخافون من ردود فعل "الأهالي" وحماستهم الجارفة، يقفون بعيدا في أماكن لا تلتقطها الكاميرات، يتابعون الزيارة ويرحبون بقلوبهم بالضيف العزيز، من دون أن يتجرأوا على الاقتراب منه، لأنهم يدركون أن الاستقواء الذي مارسه عليهم "الأهالي" في زمن الانتصارات، سيكون مضاعفا في زمن الهزائم!
كما كان هناك مواطنون أسعدتهم رؤية سلام بينهم، رغم أنهم منكوبون حقا، وهم يعرفون أن الحكومة الجديدة، لا بل الدولة كلها بكل مساوئها، لا علاقة لها بما جرى، وأن النكبة هي إنجاز "الدولة المقاومة"، وأن إضفاء القداسة على نكبتهم لا يقلل من حجمها، ولولا خشيتهم من اليد المهيمنة التي تهش عليهم بعصا التعويضات، لحولوا الشوارع إلى مهرجان لاستقباله.
بعد عودته إلى بيروت، استمر سلام في تواصله العاطفي والوجداني مع أهل الجنوب، فكتب أن حجم الدمار الذي رآه بأم عينه أكبر بكثير مما قرأه في التقارير، وأنه لن ينسى الأبرياء الذين استشهدوا
في المحصلة، الجنوبيون في غالبيتهم شعروا أن زيارة سلام تملك طابع "الأبوة"، فقد خصهم بأول زيارة رسمية له، تمشى بينهم، وقف مستمعا، مستوعبا هواجسهم، متفهما كل ما يصدر عن أشخاص فقدوا كل شيء في لعبة أكبر منهم، ويتحملون أوضاعا كارثية ومأساوية ليس لها سابق في تاريخهم، حتى خطابات المزايدة التي سمعها من بعض المتحمسين، لم يقاطعها أو يعلق عليها، وربما شعر في المقابل، بامتنانهم للأمان العاطفي الذي بثه وهو يقف معهم فوق الخراب، للأمان المصيري، الذي تجسد بعودة الدولة إلى ديارهم، من دون المرور بأي نفق طائفي أو حزبي.
بعد عودته إلى بيروت، استمر سلام في تواصله العاطفي والوجداني مع أهل الجنوب، فكتب أن حجم الدمار الذي رآه بأم عينه أكبر بكثير مما قرأه في التقارير، وأنه لن ينسى الأبرياء الذين استشهدوا تاركين أيتاما وأرامل ومفجوعين، وتعهد بالإسراع في إعادة الإعمار وعودة المهجرين، مؤكدا ارتباطه الوجداني بالمنطقة، التي عاد إليها مقاوما كما جاءها أول مرة.