الدين الفيديرالي الأميركي "بجعة ناصعة البياض"

120 في المئة نسبة الدين إلى الناتج المحلي والأميركيون على بعد عشر سنوات من الهاوية

Shutterstock
Shutterstock
نتائج الدين الفيدرالي الأميركي جلية في المستقبل

الدين الفيديرالي الأميركي "بجعة ناصعة البياض"

يرى نسيم طالب المحلل المعروف لأخطار "وول ستريت"، أن الدين الفيديرالي الأميركي بجعة ناصعة البياض بمعنى أنه "الأزمة الأكثر قابلية للتنبؤ" بعكس أزمة عام 2008 التي لم يتوقع أحد قبله حدوثها عندما وضع كتابه الشهير "البجعة السوداء" في نيسان/أبريل 2007. ويضيف طالب "ما دام الكونغرس يواصل رفع سقف الدين وإبرام الصفقات لأنه يخشى عواقب القيام بالأمر الصحيح فسنشهد في نهاية المطاف دوامة ديون هي فعليا دوامة موت. والمطلوب معجزة ما".

ينضم إلى طالب العديد من المراقبين الذين أعربوا عن مخاوفهم في شأن تنامي الدين الفيديرالي منهم وزير الخزانة السابق روبرت روبين الذي قال "إن اقتصادنا في وضع رهيب بسبب العجز الفيديرالي"، ونائب رئيس شركة "بلاك روك"، فيليب هيلدبراند" الذي لفت إلى "أن أي تخلف عن سداد الدين قد يعرض الدولار للخطر". أيضا، أشار الرئيس التنفيذي لبنك "جي. بي. مورغان" إلى الهاوية التي يواجهها الشعب الأميركي فقال "إنها على بعد نحو عشر سنوات".

كذلك حذر مايك ويلسون من "مورغان ستانلي" من أن البلاد في "منطقة الموت"، وهو مصطلح يستخدمه عادة متسلقو الجبال للإشارة إلى الارتفاعات التي لا يعود فيها الأوكسيجين المعبأ كافيا لفترة أطول لحياة الإنسان. وكانت وكالة التصنيف "فيتش" قد خفضت درجة تصنيف الولايات المتحدة إلى (ِAA+) بسبب ارتفاع كتلة الدين الفيديرالي.

مراجعة صندوق النقد الدولي

في المقابل، كان لافتا ما ورد في المراجعة التي أجراها صندوق النقد الدولي عام 2024 بموجب المادة الرابعة من نظامه للاقتصاد الأميركي، من أن الدين الفيديرالي يسير في تقديره على مسار مستدام. وهو ما ينسجم مع ملاحظة مكتب الموازنة في الكونغرس، من أن ارتفاع هذا الدين لن يخرج خلال السنوات العشر المقبلة عن نطاق السيطرة. ويعزو صندوق النقد تقديراته إلى قوة الأسواق المالية الأميركية واتساع نطاق مجموعة المستثمرين ودور الدولار في النظام الدولي وقدرة بنك الاحتياطي الفيديرالي على دعم أسواق سندات الخزانة وقوة المؤسسات الأميركية.

حدد الكونغرس سقف الدين الفيديرالي، أي الحد الأقصى لما يمكن الحكومة اقتراضه لدفع فواتيرها، بـ36,1 تريليون دولار، ما يعادل أكثر من 120 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي

في اتجاه مناقض، يخلص تحليل نموذج موازنة بن وارتون ( Penn Wharton Budget Model -PWBM) الذي نشرته لجنة الموازنة في مجلس النواب، إلى أن الولايات المتحدة تتجه نحو التخلف عن سداد الديون ما لم يتخذ الكونغرس إجراءات تصحيحية في غضون السنوات العشرين المقبلة. بعدها لن يكون في وسع أي قدر من الزيادات الضريبية أو خفض الإنفاق في المستقبل أن يجنب الحكومة التخلف عن سداد ديونها. ويعزو التحليل الأمر إلى تفاقم كل من العجز السنوي والدين العام التراكمي كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي.

فبحسب نموذج "PWBM" للسنة المالية 2023، بلغ العجز السنوي، أي الفجوة بين ما انفقته الإدارة الأميركية وما حصلت عليه من إيرادات خلال السنة المذكورة، نحو تريليوني دولار، بواقع 53,33 دولارا كل ثانية، و142 مليار دولار كل شهر. أما الدين العام التراكمي، فتجاوز 33,5 تريليون دولار، بواقع 462,878 دولارا للطفل و100,448 للفرد.

سقف الدين الفيديرالي 36,1 تريليون دولار

في الثاني من يناير/كانون الثاني 2025، حدد الكونغرس سقف الدين الفيديرالي، أي الحد الأقصى لما يمكن الحكومة اقتراضه لدفع فواتيرها، بـ36,1 تريليون دولار، ما يعادل أكثر من 120 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو من بين أعلى المعدلات في العالم بعد اليابان وإيطاليا. وكان مكتب الموازنة في الكونغرس قد توقع بلوغ النسبة المذكورة 116 في المئة في عام 2034 و139 في المئة في عام 2044 و166 في المئة في عام 2054.

.أ.ف.ب
لوحة وسط شارع عام تظهر حجم الديون للولايات المتحدة الأميركية، 30 ديسمبر واشنطن 2024

وتملك دول أجنبية 7,3 تريليونات دولار من الدين الفيديرالي، في مقدمها اليابان فالصين فالمملكة المتحدة، إضافة إلى دول أخرى تعتبر الدولار ملاذا آمنا، وبالتالي تسعى للاحتفاظ بالعملة أو السندات الأميركية في احتياطياتها.

أما الجزء الأكبر من الدين والبالغ 28,8 تريليون دولار، فيحتفظ به المستثمرون الأميركيون، سواء الأفراد أو صناديق التقاعد والضمان أو المؤسسات المالية، أو حتى الاحتياطي الفيديرالي. وتحظى السندات الحكومية بشعبية كبيرة لأنها توفر عوائد جذابة وتتمتع بمستوى عال من الأمان لأسباب عدة أهمها تحديد سقف الدين، فلا يمكن رفعه إلا من خلال تصويت الكونغرس الأميركي. والفشل في ذلك سيعني أن الدولة الأميركية لن تكون قادرة على جمع أموال إضافية في الأسواق لضمان عملها، مما سيستتبع بإجراء خفض في موازنات الصحة والضمان الاجتماعي والعدالة والدفاع والتعليم، وحرمان العديد من الأسر الأميركية من الدخل.

تركز خطة ترمب على خفض الإنفاق العام بعكس الديمقراطيين الذين يدعون عادة إلى فرض ضرائب أعلى على الأثرياء

جدير بالذكر أن حجم الدين الفيديرالي الذي غالبا ما يتم الاستشهاد به، يشمل نحو 7 تريليونات دولار "تدين بها الحكومة الفيديرالية لنفسها" من خلال صناديق الضمان والإعانات وغيرها. لذا، يركز الاقتصاديون على "الدين الذي يحمله الجمهور" لتقييم أثره على الاقتصاد والذي لا يجوز أن يتجاوز نسبة معينة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو الآن عند أعلى نسبة منذ الحرب العالمية الثانية.  

صحيح أن الدين الفيديرالي شكل القوة الدافعة وراء النمو الأميركي منذ عام 2007، حيث وصل معدل نمو نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي إلى 19,2 في المئة في الولايات المتحدة، مقارنة بنحو 7,6 في المئة فقط في منطقة اليورو، إلا أن هناك خطرا من أن يؤدي تضخمه إلى تقويض الزعامة العالمية للولايات المتحدة من خلال الاضطرار إلى خفض الإنفاق المالي على نشاطاتها العسكرية والديبلوماسية والإنسانية في العالم.    

أيضا، هناك خطر أن يصبح الدين الفيديرالي المتراكم عبئا على الاقتصاد، كأن ينخفض معدل نموه ما دون سعر الفائدة الحقيقي، أو أن يفقد المستثمرون عند نقطة معينة الثقة بالتوظيف في الدين الفيديرالي بسبب ارتفاع عبء الفائدة إلى حدود نصف العجز، وهو ما توقعت وكالة "موديز" حصوله في عام 2026، مما سيحد قدرة واشنطن على تصحيح مسارها المالي، ويصبح المستثمرون عندئذ غير راغبين في تمويل الدين الأميركي دون أسعار فائدة أعلى، ما من شأنه أن يؤدي إلى تكاليف اقتراض أكبر تستلزم خفض الإنفاق أو زيادات ضرائب مفاجئة ومؤلمة على النحو الذي اقترحته عام 2010 خطة سيمبسون - بولز (Simpson-Bowles) لوضع الدين على مسار تنازلي.

خطة ترمب لخفض الانفاق

تركز خطة ترمب على خفض الإنفاق العام بعكس الديمقراطيين الذين يدعون عادة إلى فرض ضرائب أعلى على الأثرياء. وفي هذا السياق، كان قراره إنشاء وزارة للكفاءة الحكومية (DOGE) عهد بقيادتها للملياردير الأميركي إيلون ماسك، الذي أقر علانية بأن بلاده متجهة نحو "الإفلاس"، مؤكدا أن "خفض النفقات الفيديرالية ليس خيارا بل ضرورة".

رويترز

توازيا، أصدر ترمب سلسلة أوامر تنفيذية رمت إلى تجميد تمويل العديد من برامج المساعدات الداخلية والخارجية وتسريح الآلاف من الموظفين الفيديراليين، بمن فيهم مفتشون عموميون وقضاة وعسكريون، كجزء من إعادة هيكلة واسعة لتقليص نطاق الحكومة، شملت إلغاء إدارات فيديرالية عدة. أيضا، كان هناك فتح لملفات مدفوعات ديون الخزانة الأميركية بحثا عن عمليات احتيال.

ترمب لن يتمكن من تأجيل يوم الحساب إلا لفترة وجيزة. ففي ظل عجز مالي شهري بمتوسط 150 مليار دولار عام 2024، لن يمر وقت طويل قبل أن يُختَرَق سقف الدين الحالي أو أن يعلن التخلف عن السداد

جوزيف ستيغليتز، اقتصادي أميركي حائز على جائزة نوبل للاقتصاد

التركيز على خفض النفقات أثار انتقادا واسعا لتأثيره سلبا على خدمات ونشاطات أساسية مرتبطة بالزراعة والبيئة والنقل والرعاية الصحية والضمان الاجتماعي وغيره، وعدم التفاته في المقابل بشكل كاف إلى تعزيز الإيرادات كرفع معدلات الضرائب على الشركات وعدم تمديد الخفوضات الضريبية التي سبق لترمب أن أقرها خلال ولايته الأولى عام 2017. والأمر الأخير من شأنه أن يضيف تريليونات الدولارات إلى الديون.

ترمب وماسك ينتهكان الخصوصية والأمن

وكانت هناك اتهامات عديدة لسياسات ترمب وماسك بأنها تنتهك الخصوصية والأمن بالوصول إلى السجلات الحكومية، على الاخص سجلات الرواتب والنفقات الحساسة.

.أ.ف.ب
الرئيس التنفيذي لشركة تسلا وسبيس اليون ماسك مع أبنه، بجانب الرئيس الأميركي دونالد ترمب في المكتب البيضاوي، واشنطن 11 فبراير 2025

ومن وجهة نظر الاقتصادي الأميركي جوزيف ستيغليتز، الحائز جائزة نوبل للاقتصاد، فإن "ترمب لن يتمكن من تأجيل يوم الحساب إلا لفترة وجيزة. ففي ظل عجز مالي شهري بمتوسط 150 مليار دولار عام 2024، لن يمر وقت طويل قبل أن يُختَرَق سقف الدين الحالي أو أن يعلن التخلف عن السداد".

رفع سقف الدين الفيديرالي 104 مرات منذ أول تحديد له عام 1939، ثلاث منها حصلت خلال رئاسة ترمب الأولى. وقد دعا ترمب إلى "التخلص من سقف الدين 'السخيف' أو تمديده إلى نهاية عهده عام 2029".

وأضاف لاحقا "أن لا أحد يعرف على وجه اليقين ما سيحدث إذا تم اختراقه يوما ما، كارثة أو أمر لا معنى له". وكان مجلس النواب تبنى في أواخر العام المنصرم مشروع قانون يقضي بتجنب شلل الحكومة الفيديرالية بتمويلها حتى منتصف مارس/آذار 2025.

ضمن العواقب الكارثية التي ستتأتى من التخلف عن السداد، تراجع سعر الدولار وارتفاع في أسعار الفائدة وتراجع في النمو، وستتدحرج الانتكاسات إلى مختلف الأسوا ق المالية الدولية، مع ارتفاعات قياسية في أسعار الذهب

والوصول إلى حد سقف الدين هو بمثابة بدء العد التنازلي قبل التخلف عن السداد، إذ لن تتمكن وزارة الخزانة بعده من بيع المزيد من السندات والأوراق المالية الأخرى لسداد الدين الناجم عن عجزها السابق، أو الحصول على النقد لسداد مصاريفها الأخرى.

التخلف عن السداد... ونظرية ترمب

في هذا الإطار، يذكر وليم سيلبر، أستاذ التمويل والاقتصاد في جامعة نيويورك، أن دونالد ترمب يتباهى بأنه لجأ مرات عدة، لمعالجة تراكم ديون أربع من شركاته والتخلف عن سدادها، إلى طلب إعادة التنظيم المنصوص عليه في الفصل الحادي عشر من قانون الإفلاس الأميركي. وعليه، هناك احتمال بأن يلجأ ترمب بهدف معالجة تنامي الدين الفيديرالي إلى التخلف عن سداد فائدته أو حتى أصله، تماما كما فعل مع مؤسساته، معتقدا أنه قادر بذلك على التفاوض على صفقة فضلى مع كبار دائني بلاده.

.أ.ف.ب
متظاهرون يحتجون على قرارات الرئيس الأميركي دونالد ترمب وإيلون ماسك تجميد بعض مخصصات قطاع التعليم، 19 فبراير 2025

لا شك أن التخلف عن سداد الديون من شأنه أن يدمر صورة الدين الأميركي باعتباره الاستثمار الأكثر أمانا في العالم المالي المعاصر. ولكن هذا لن يوقف ترمب الذي يقر في كتابه "فن الصفقات"، أن المكاسب تتطلب المخاطرة. فمن ضمن العواقب الكارثية التي ستتأتى من التخلف عن السداد، تراجع في سعر صرف الدولار وارتفاع في أسعار الفائدة وتراجع في النمو، وستتدحرج الانتكاسات إلى مختلف الأسواق المالية الدولية. لكن سيكون هناك ارتفاعات قياسية مقابلة في أسعار الذهب، وهذا ما بدأ فعلا في مرحلة سابقة مع ارتفاع التوقعات بفوز ترمب بالرئاسة، مما سيرفع قيمة الاحتياطي الذهبي الذي تحوزه الولايات المتحدة، وهو الأكبر في العالم، إلى أعلى المستويات، بحيث تضمر الخسائر المحققة وتتظهر إلى جانبها أجندة ومكاسب ترمب الحقيقية السياسية والاقتصادية لترتيب البيت مع تصدع النظام المالي العالمي.

الدرس الاقتصادي الرئيس

يقول الاقتصادي ديسموند لاخمن "إن الدرس الاقتصادي الرئيس الذي كان ينبغي لترمب أن يستخلصه من ولايته الأولى هو أن العجز التجاري لا تعالجه التعريفات الجمركية فقط بل إنفاق البلد نسبة إلى إنتاجه". أو على حد تعبير جون ماينارد كينز، يأتي العجز التجاري من الفجوة بين المدخرات والاستثمار. فإذا كان البلد يدخر أقل مما يستثمر، فسوف يعاني من عجز تجاري، بصرف النظر عن مدى ارتفاع جدار الرسوم الجمركية.

وترمب الآن على مشارف إخفاق جديد في ما خص العجز المالي الفيديرالي، لا يمكن معالجته فقط في تقييد وترشيد الانفاق العام كما يعمل عليه هو وماسك، بما فيه الانسحاب المحتمل من صندوق النقد والبنك الدوليين أو تقييد تمويل بلاده لهما بحسب العميدة نجير وودز في أوكسفورد، بل أيضا في زيادة الإيرادات الضريبية على الطبقة الميسورة لا خفض الضرائب عنها كما فعل عام 2017 وينوي الاستمرار على النهج نفسه.

font change