نازحو سوريا والسودان وغزة يستقبلون رمضان بالحنين والأمل

مصر تستقبل آلاف النازحين الذين باتوا جزءا من نسيج الشهر الفضيل

Ahmad Jomaa
Ahmad Jomaa

نازحو سوريا والسودان وغزة يستقبلون رمضان بالحنين والأمل

في رحلة الفرار من جحيم الحرب في حلب، بحثا عن مأوى يحميه هو وعائلته الصغيرة، مر صهيب الشامي بأهوال لا حصر لها، من مسارات وعرة يحتلها قطّاع الطرق واحتمالات القتل المحقق، والتواصل مع أُناس لا يعرفون سوى المال معادلا لحياة البشر، غير أن أكثر ما يعلق بذهنه إلى يومنا هذا هو أن تلك المعاناة بدأت في الأول من رمضان، يومها بكى بحرقة حين أيقن أنه لن يستقبل الشهر الكريم وطقوسه بأرض الشام، بل بقي رمضان آخر ذكرياته في وطنه الحبيب قبل الخروج منه مرغما.

تاريخ لا يُنسى

مع بداية الشهر الفضيل يعيش صهيب مشاعر متضاربة بين تفتت قلبه اشتياقا للعودة إلى سوريا، وإعجابه الشديد بأجواء رمضان في مصر. يقطن صاحب الأربعين ربيعا في حي الشيخ زايد الذي يبعد عن وسط القاهرة نحو 36 كيلومترا. يقول بلهجة حلبية لم يتنازل عنها: "لو كانت هناك منافسة لأفضل مكان في العالم يحيي رمضان فستكون الجائزة من نصيب مصر".

الشامي واحد من زهاء مليون ونصف المليون سوري يعيشون في مصر حسب المنظمة الدولية للهجرة، ووفق "المفوضية العليا لشؤون اللاجئين"، فإن عدد السوريين المسجلين بـ"المفوضية" في مصر "ارتفع بشكل كبير من 12800 في نهاية 2012 إلى أكثر من 153000 شخص نهاية 2023". وسجلت سوريا أكبر أزمة لجوء في العالم، حيث بلغ عدد اللاجئين والنازحين قسرا 13.8 مليون شخص داخل البلاد وخارجها في نهاية عام 2023، بسبب الحرب الأهلية التي عصفت بالبلاد طوال الـ 13 عاما الماضية.

الأحد، الخامس من يونيو/ حزيران 2016، تاريخ لا ينساه صهيب، بعينين يسكنهما الحنين يتذكر آخر أيامه في سوريا، بعد 12 ساعة تحت رحمة القصف وصل من حلب الى دمشق بأعجوبة، حجز غرفة بفندق صغير للمبيت انتظارا لطائرته المتجهة صوب السودان، ليلتها سمع النادل يقول لصديقه: "ينعاد عليكم كل سنة وانت سالم". فطن أن الرؤية ثبتت، ترك زوجته وابنتيه - ميرا وشام - طاف بأحجار الشام البديعة واتجه صوب المسجد الأموي، مر بقبر سيدنا يحيى ثم توضأ وصلى ركعتين، انهمرت دموعه وهو يتبتل "كنت أناجي ربنا وأقول حين يأتي رمضان يعود الناس إلى أوطانهم وأنا كتب عليّ ترك وطني" واختتم صلاته وهو يدعو الله أن يكتب له العودة ثانية.

لو كانت هناك منافسة لأفضل مكان في العالم يحيي رمضان فستكون الجائزة من نصيب مصر

صهيب الشامي

كسر صيام اليوم الأول في مطار دمشق ومنه إلى السودان، استقر ساعات في بورسودان تمهيدا لنقله عبر سيارة نصف نقل إلى أسوان جنوب مصر. كانت السيارة تعج بالبشر، احتضن زوجته وابنتيه، كانت السيارة تجري بسرعة 180 كيلومترا في الساعة خشية الرصد من الطائرات على الحدود بين مصر والسودان، وصل إلى أسوان وقد أصابه الإعياء من شدة العطش والتراب: "قلت إن من غرقوا في البحر أكرم لهم من هذا الهروب، على الأقل انتقلوا إلى جوار ربهم في لحظة، لكن نحن رأينا الموت مليون مرة ... والمرة الوحيدة التي لم أصم فيها في رمضان كانت في ذلك اليوم".

REUTERS/Amr Abdallah Dalsh
سكان عزبة حمادة في منطقة المطرية بالقاهرة يجتمعون للاحتفال بـإفطار جماعي خلال شهر رمضان

أم درمان فرع مصر

مع تصاعد الحرب والعنف على مستوى العالم، فضلا عن تزايد الكوارث الطبيعية، ارتفع عدد الأشخاص الذين فروا أو أجبروا على الفرار من بلادهم إلى أكثر من 120 مليون شخص حتى مايو/ أيار 2024، وفقا لتقرير صادر عن المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.

أمام منضدة تفوح منها روائح المنتجات السودانية العطرة، جلست الأستاذة خديجة الأمين تتابع بدهشة أجواء الاستعداد لشهر رمضان بشارع القدس المتكدس بالبشر داخل حي فيصل الشعبي. إن كنت غريبا فلن تميز إن كان الشارع واقعا بالجيزة أم بالخرطوم، وإن كنت من أهل المكان فستكون عليما بما يمزحون: "لا تقل فيصل ولكن قل أم درمان فرع جمهورية مصر العربية".

Ahmad Jomaa

في نهاية 2023 حضرت الأستاذة خديجة، فرارا من الموت والانتهاكات التي تواجهها النساء، 5 أيام عرفت فيها معنى الانهيار النفسي، ماتت ورُدَّت إليها الروح مرات ومرات قبل أن تصل بها الحافلة قريبا من ميدان العتبة وسط القاهرة - مركز تجمع السودانيين اليومي - في البداية ظنت أنها رحلة قصيرة قد تستغرق شهرا أو اثنين على الأكثر، لكن الأمل بالعودة لم يزرها سريعا، فالحرب لم تضع أوزارها بعد، لذا كان قرار مديرة المدرسة الابتدائية بأم درمان هو بيع المنتجات السودانية أمام العمارة التي تقطنها، رفقة عدد كبير من السودانيين اتخذوا من ذلك سبيلا يقيهم شر الحاجة.

أدت الحرب بين الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان و"قوات الدعم السريع" بقيادة محمد حمدان دقلو المعروف بـ"حميدتي"، منذ أبريل/ نيسان 2023، إلى مقتل عشرات الآلاف من السودانيين، ونزوح أكثر من 11 مليونا، منهم 3,1 ملايين لجأوا إلى خارج البلاد، وفق الأمم المتحدة.

Ahmed HASAN / AFP
الفنانون السودانيون مسعود فايز، ياسر تمتام، وأحمد عبد العزيز، يؤدون عرضا خلال فعالية ثقافية سودانية في القاهرة خلال شهر رمضان

وقالت كريستين بشاي، مسؤولة العلاقات الخارجية المساعدة في مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين في القاهرة، إن مصر تستضيف حاليا 546 ألفا و746 لاجئا سودانيا مسجلين رسميا لدى المفوضية، فضلا عن آخرين ينتظرون التسجيل.

وسط مشهد فولكلوري تُكون الحاجة خديجة ورفقاؤها قطعة للوحة فنية عن الشهر الكريم، شوادر تعلوها زينة رمضان، فوانيس ضخمة، أضواء تخطف العيون، وفي الخلفية صوت الأهازيج والأغاني الشهيرة. تقول الأستاذة خديجة إن رمضان في مصر مدهش، العام الماضي خبرته للمرة الأولى، تحكي كالأطفال عن انبهارها بالأجواء "هنا روح مختلفة... هنا حاجات حلوة جدا، الناس لا تنام، وكأن رمضان ضيف عزيز يستقبلونه بالترحاب الذي يليق به".

تستضيف مصر 546 ألفا و746 لاجئا سودانيا مسجلين رسميا لدى المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين

مع بداية الشهر الكريم تتشوق الأستاذة خديجة لمعايشته للمرة الثانية في مصر، لكنها تحب عقد المقارنات بين رمضان في أم درمان وفيصل. السحور في موطنها مع منتصف الليل، وفي مصر قبل الفجر بدقائق، الحر يجبر السودانيين على البقاء في منازلهم غالبية الوقت، والمصريون ينتشرون في الشوارع أثناء الليل وأطراف النهار. لا تزال تحتفظ بعاداتها الرمضانية في مصر، فترصد الأطباق الرئيسة على الإفطار، فالمائدة لا تخلو من الكبكبية والعصيدة والويكة بالتقلية أو الروب، فيما تنتظر انطلاق رمضان كي تشارك جيرانها المصريين الكرم بتبادل الطعام طيلة الشهر، "كل يوم الطبق داير بيننا.. هم يجلبون المحشي الحلو بتاع مصر، ونحن نرسل لهم حلويات، وفي يوم آخر نعمل لهم ويكة فيردون بالملوخية. ومع الأطباق نتبادل الرحمة والرأفة والتكاتف والقلوب الخيرة".

Ahmad Jomaa

نزوع إنساني

"الحنين الجارف إلى الوطن نزوع إنساني" يقول د. خالد عبد الفتاح، أستاذ مساعد علم الاجتماع بجامعة حلوان، مشيرا إلى أن "الجماعات المغتربة تواجه أحد احتمالين في وطنها المؤقت، الأول هو العزلة بسبب اللغة أو طبيعة المجتمع الوافدة إليه، أو الانخراط في المجتمع المستقبِل والشعور بالأمان، وهو ما يجده المغتربون في مصر بامتياز"، مشيرا إلى أن "أحد أسلحة تكيف كل المغتربين خلق وطن مواز متمثل في التمسك بعاداته وتقاليده في المأكل والملبس وحتى الهموم حتى لا ينسلخ عن وطنه الأصلي، خصوصا إن كان الخروج من الوطن اضطراريا".

Ahmed HASAN / AFP
لاجئ سوداني يحضر فعالية ثقافية سودانية في القاهرة خلال شهر رمضان

 ويعتبر أستاذ علم الاجتماع أن الوافدين إلى مصر لا يشعرون باغتراب كونهم لا يعاملون بطريقة انعزالية فلا يُفصلون عن أطياف الشعب ولا يعاملون كلاجئين ولا يسكنون المخيمات "كل وافد يشعر أنه جزء من نسيج المجتمع"، ويشير عبد الفتاح إلى أن القادمين إلى مصر - حتى على سبيل السياحة - يفضلون الزيارة في المناسبات مثل الأعياد وشهر رمضان، "المجتمع المصري لديه اعتزاز بهويته وبالاحتفاء بطقوسه وعاداته".

غزة والفرحة الناقصة

كلما ذُكرت كلمة غزة تحبس الدموع صوت جلال سكيك، فرغم خروجه من القطاع قبل 10 أشهر فإن طعم المرارة لا يزال ملازما له أينما حل. يستقبل الرجل الستيني شهر رمضان من حي عين شمس شرق القاهرة، بعد وصوله إليها في رحلة علاج، فيما يفكر كيف يستقبل ابناه الشهر الكريم في القطاع المدمر بعدما عاشوا معا رمضان الفائت تحت القصف والأهوال.

Ahmad Jomaa

أسفل لوحة مزينة بأحياء غزة وتتخللها قطع البطيخ، رمز المقاومة في فلسطين - حيث تُرفع أنصاف بطيخ أحمر في وجه القوات الإسرائيلية في إشارة الى اللون الأحمر والأسود والأبيض والأخضر، للعلم الفلسطيني - يجلس سكيك، يحاول التواصل مع ولديه اللذين عادا أدراجهما من رفح إلى تل الهوى - جنوب غرب غزة - حيث أنقاض بيتهم المحطم. قلما تلتقط الشبكة الإشارة، لكنه لا يمل من المحاولة، فيما يعيش أحوالا متقلبة طول الاتصال. في البداية يبتهج بسماع صوتيهما قبل أن تنقلب البهجة إلى غصة، "حفيدي ركان ما زال في عمر العامين ولا ينطق إلا كلام الحرب، طائرة، برج قذيفة، لا يوجد لعب".

وأفاد مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة أنه من بين 40 ألفا و717 جثة فلسطينية تم التعرف إليها حتى الآن في غزة، كان ثلثها، 13319، لأطفال. وأوضحت الأمم المتحدة أن 9 من كل 10 أشخاص في قطاع غزة نزحوا لمرة واحدة على الأقل منذ بدء الحرب مقدرة عددهم بنحو 1.9 مليون شخص، مضيفة أن 110 آلاف شخص غادروا غزة إلى مصر قبل إغلاق معبر رفح في مطلع مايو/أيار 2024.

Ahmad Jomaa

موائد الرحمن

كان الاستقرار الأول لعائلة صهيب بحي فيصل الشعبي في محافظة الجيزة. كان الحزن مسيطرا عليه بحكم الاغتراب والبعد عن أجواء رمضان بحلب، لكن بعد أيام فكر أن يحقق حلمه القديم برؤية موائد الرحمن التي رآها في مسلسله المصري المفضل "المال والبنون" -إنتاج 1992، طلب من حماه -الذي قدم قبله إلى مصر- أن يوجهه الى أكبر مائدة فتلقى الرجل الطلب بالضحك: "أفهمني أن الموائد في مصر هي منحة من المقتدرين لغير القادرين وأهل السبيل في رمضان"، فهم صهيب الأمر لكنه أصر على رؤية الموائد "شيء جميل يقوم به المصريون. تشعر هنا أن السماء تصوم مع الناس".

هنا روح مختلفة... هنا حاجات حلوة جدا، الناس لا تنام، وكأن رمضان ضيف عزيز يستقبلونه بالترحاب الذي يليق به

خديجة الأمين

كانت طقوس صهيب مع رمضان في حلب تبدأ مع ليلة النصف من شهر شعبان، يوزع رفقة أقرانه "المعروك" أو "البريوش" - معجنات سورية - على البسطاء في الميادين. يوقف أهل حلب صيام التطوع تشوقا لصيام رمضان. في النصف الثاني من شعبان تكتسي الأسواق بما لذ وطاب، أكثر ما كان يحرص على شرائه مذ كان صغيرا هو عشبة العرقسوس المزروعة بدير الزور وقمر الدين. لا يزال صهيب يتذكر كيف كان يستقبل شهر رمضان بالصعود أعلى منزله لرؤية هلال الشهر المبارك، يحفظ الديباجة التي تٌقال في التلفاز حينها "أعلن القاضي الشرعي الأول بدمشق عادل بندق أن شهر رمضان المبارك تمت رؤيته اليوم عند غروب آخر أيام شعبان وعلى المواطنين التماس هلال الشهر الكريم"، في عادة مشاركة السوريين فرحة قدوم رمضان لمن يتمكن من فعل ذلك أعلى منزله.

LOUAI BESHARA / AFP
عائلات العمال المشاركين في ترميم الجامع الأموي في حلب، يجتمعون الى مائدة إفطار جماعي نظمته الأمانة السورية للتنمية وجمعيات خيرية أخرى داخل المسجد

كان صهيب متيما بالصلاة في المساجد الأثرية بحلب، يتناوب عليها في صلاة التراويح، يحفظ أركان جامع السلطانية - أسسه الملك الظاهر غازي بن السلطان الناصر صلاح الدين في 613 هجرية - يسير في ساحته العريقة القريبة من قلعة حلب، ويلتقي أقرانه في الجامع الأموي الكبير بحلب - داخله ضريح منسوب إلى قبر النبي زكريا.

في بداية رمضان تكون العزومات على أشدها، كانت عائلة صهيب كغالبية عائلات حلب الكبيرة، في اليوم الأول، تستقبل الأم أولادها الذكور وتساعد زوجات الأبناء الحماة من الصباح الباكر، فيما يكون اليوم الثاني استقبالا للبنات وأزواجهن، ولا يزال صهيب محتفظا بعاداته في أول أيام رمضان بالإفطار الحلبي وكأهل حلب المشهور عنهم المثل الدارج "حلب أم المحاشي والكبب"؛ يعشق الكبة اللبنية، واليالنجي - ورق العنب محشوا بالبرغل ومطبوخا بزيت الزيتون مع الخضر. يبدأ إفطاره بالحلويات مثل المشبّك الحلبي والكنافة المغطاة بالفستق ثم يشرب العرقسوس، ولا يزال صهيب حريصا على تعويد أبنائه على الأكلات السورية رغم عشقه الأكل المصري.

Ahmad Jomaa

وطن في حقيبة

"الوطن محمول في حقيبة السفر"، تقولها د. نهلة إمام، أستاذ العادات والمعتقدات والمعارف الشعبية بأكاديمية الفنون المصرية، مشيرة إلى أن "العادات والتراث من سماتهما عدم الارتباط بالمكان، فهي تحمل وجدان أصحابها"، وتوضح إمام أن "كل جالية، وبخاصة في السنوات الأولى بالغربة، تميل إلى التجمع رفقة واحدة وتمارس طقوسها. التراث هو المادة اللاصقة للأوطان".

"ديناميكية التراث"، هو المصطلح الذي تحب إمام الإشارة إليه، باعتبار أن الطقوس تُحمل في القلب، وتبقى مرنة يشكلها المواطنون حتى لو صاروا في غربة عن بلادهم الأصلية.

لا يغيب عن خاطر الأستاذة خديجة مشهد الأسر السودانية وهي تحمل صواني الإفطار قبل آذان المغرب وتجلس أمام منازلها لتناول الإفطار بالشارع، "ما في عندنا زول عازب يفطر وحده... الصواني في الشارع تلم الجميع"، ففي الطرق السريعة يخرج السودانيون من قراهم سيرا حاملين الصواني أعلى الرؤوس وما أن يصلوا إلى الطريق حتى يفردوا عمامة الرأس ويشدوها كي يقطعوا الطريق لإفطار الصائمين، "الكرم عندنا إجباري... وهنا كمان نرى من المصريين كل جدعنة وود".

كل جالية، وبخاصة في السنوات الأولى بالغربة، تميل إلى التجمع رفقة واحدة وتمارس طقوسها فالتراث هو المادة اللاصقة للأوطان

نهلة إمام

تعرب مديرة المدرسة الابتدائية صاحبة ال 58 عاما عن امتنانها لأهل مصر، ودائما ما تقرن كلمة المصريين بـ"حبايبنا". ساعدها الجيران في أن تستكمل ابنتها دراستها الجامعية - تدرس علم النفس - ويطمئن صاحب المنزل الذي تقطنه عن ظروفها، ويبادلها الجيران الود، فيما تتذكر رفقاءها الذين ألقاهم الحظ في دروب أخرى مثل تشاد وكيف استوطنوا الغابات، بينما صارت هي بعد أقل من عامين من أهل المنطقة، "حين عرف المصريون أن عندنا أكلة اسمها الرجلة، زرعوها مخصوص لينا.. يكفي إننا نفترش الأرض وسط الشارع وعلى أبواب العمارات والجميع يعاملنا بابتسامة ما لها زي".

وذكر تقرير صادر عن مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أن "البيانات الأخيرة الصادرة عن الحكومة المصرية تشير إلى أن أكثر من 1,2 مليون سوداني سعوا للحصول على الحماية الدولية في مصر".

Omar AL-QATTAA / AFP
عمار لوزون، فلسطيني يبلغ من العمر 30 عاما، يستعرض زيناته الرمضانية على شكل هلال وفوانيس

ذكريات كرة القدم

أكثر ما يهون على سكيك في الغربة هو مشاهدة قناة النادي الأهلي المصري. يسترجع ذكرياته حين كان نجما لفريق النادي الأهلي بغزة في ثمانينات القرن الماضي، شهرته ملء السمع والبصر داخل القطاع، أفضل حارس مرمى هناك والحاصل على الدوري المجمع معهم في نهاية مشواره، وكلما تذكر الكرة قفز معها شهر رمضان، حيث الدورات الرمضانية التي كان يشرف على تنظيمها والاهتمام بشباب القطاع آنذاك.

بعد تعرض غزة للقصف في ديسمبر/ كانون الأول 2008 - عرفت باسم عملية "الرصاص المصبوب"، فكر سكيك في مداواة جراح المصابين النفسية وبخاصة الشباب منهم، فأسس أنشطة رياضية - داخل نادي الجزيرة - لذوي الإعاقة - بين الإعاقة الخلقية والناتجة من إصابات الحرب - في الألعاب كافة، وكان رمضان موسما رائعا لتبادل لحظات السعادة بين جمهور المتفرجين واللاعبين الذين وجدوا في النشاط الرياضي ضالتهم بفضل أفكار سكيك.

Ahmad Jomaa

في رمضان الماضي تجرع سكيك وأسرته مرارة العجز، في صالة بيت مهدم عاش سكيك و4 أسر دفعة واحدة، لا ينسى حين قُصف المنزل المقابل لهم قبل الإفطار بلحظات، يومها شعر باليأس، نظر إلى السماء وتمنى أن يجعل الله لغزة مخرجا، ومع كل ليلة تمر تتواتر أخبار الشهداء، ومعها يمسي البحث عن طعام أو شربة ماء محض رفاهية، أكثر ما كان يُبكي سكيك هم الأطفال، فلا هو يملك إيقاف الهلع ولا يستطيع إيجاد ما يسد به رمقهم، "لكن كان الكل يدا واحدة، كلنا نفطر معا في رفح، والكل يفيد بلقمة من هنا وطبخة لم تكتمل من هناك وقلوبنا راضية".

قال المفوض العام لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) فيليب لازاريني إن 1 من كل 4 أشخاص أصيبوا في حرب غزة الأخيرة يحتاجون إلى خدمات إعادة تأهيل بما فيها الرعاية بعد بتر الأطراف وإصابات الحبل الشوكي، وفق منظمة الصحة العالمية.

يستقبل جلال سكيك رمضان في القاهرة بقلب مفتوح، فرغم فراق الأحبة في غزة، يستلهم قوته بأمل لقائهم قريبا، راجيا إعادة تشييد منزله المهدم

رغم أن صهيبا قدم إلى مصر للمرة الأولى قبل قرابة 10 سنوات، لكنه معلق بها قبل ذلك بعقود، والفضل كله يرجع الى رمضان، فالمسلسلات المصرية معشوقته منذ الصغر، يحفظ مشاهد "ليالي الحلمية" نصا، ويعشق المسلسلات الدينية مثل "عمر بن عبد العزيز" و"القضاء في الإسلام"، يقول إن الباعة السوريين كانوا يلصقون صور أبطال المسلسلات المصرية على عبوات الحلوى كي يغروا الصغار باقتنائها من شدة ارتباط الشارع السوري بمصر.

Ahmad Jomaa

حيّ الحسين

لرمضان في قلب صهيب معزة كبيرة ففيه رُزق بمولودته الأولى ميرا في سوريا، وفي مصر أيضا حضر إلى الدنيا وليده أسامة. يعتبر صهيب أن رمضان في "أم الدنيا" له مذاق استثنائي، ولأنه مولع بالعمارة الإسلامية كانت أولى زياراته لحي الحسين العتيق، يقول إنه شعر وكأن المارة في رحلة حج من كثرة الزحام، ويعقب بأن هناك روحا ومذاقا عجيبين في رمضان، "يكفي أن السحور في القاهرة أشبه بالكرنفال، فالناس يأكلون في الطرق وكأنهم الى طاولة واحدة ممتدة".

وتوضح د. نهلة إمام، ممثلة مصر في اتفاقية التراث في "يونسكو" أن لمصر بصمة تراثية تلهم كل من يزورها وبخاصة في الاحتفالات، مرجعة ذلك إلى تاريخ البلد المتجذر وقدرته على دمج وتذويب الثقافات داخله: "لطالما كانت مصر محطة مهمة لاجتماع الثقافات، منذ بداية كونها ممرا لطريق الحج وخطوة للمضطهدين مثل الأرمن وحتى رحلة السيدة العذراء ذاتها". ولا تنسى إمام تأثر المصريين بالوافدين وهضم تفاصيلهم، "نرى في الشوارع مخابز سودانية بين شريك مصري وسوداني وحب المصريين للأطعمة السورية ودعم المواطنين لأشقائهم من غزة في احتياجاتهم كافة".

REUTERS/Mazin Alrasheed
نساء سودانيات من مطابخ مجتمعية يديرها متطوعون محليون يوزعن وجبات للأشخاص المتضررين من النزاع والجوع الشديد

يستقبل سكيك رمضان في القاهرة بقلب مفتوح، فرغم فراق الأحبة في غزة، يستلهم قوته بأمل لقائهم قريبا، راجيا إعادة تشييد منزله المهدم بتل الهوى رفقة الصحبة والأهل، ولا يزال صهيب يحلم بإصلاح الحال في سوريا وعودة الحياة الى سابق عهدها، غير أنه يعاهد نفسه إن كُتبت له العودة أن يزور مصر في رمضان فلها من السحر ما لا يضاهيه شيء.

ورغم أن الأستاذة خديجة لم تشعر بالغربة في مصر، لكنها تقابل كل زبائنها بطلب وحيد "ادعي نعود تاني لديارنا... اتوحشت أم درمان"، لا تعرف هل بقي بيتها ثابتا أم تعرض للقصف؟ تحن إلى حوائطه وأشجار الليمون والبرتقال التي تزين جنباته "والعصافير من يسقيها.. .ما عرفت حصلها إشنو".. وبالرغم من سعادتها باستقبال رمضان وسط جيرانها الجدد وعلمها بأن الأوضاع في السودان لم تستقر بعد، لكن الحنين ينهش فؤادها وكأن لسان حالها يردد أغنية المطرب السوداني الشهير مجذوب أُنسة: "عزيزٌ أنت يا وطني.. برغم قساوة المحن، برغم صعوبة المشوار، رغم ضراوة التيار، سنعمل نحن يا وطني.. ونعبر حاجز الزمنِ".

font change