أسئلة اليوم التالي تؤرق أكراد تركيا بعد نداء أوجلان

العملية شديدة التأثر بتحولات المشهد الإقليمي

أ ف ب
أ ف ب
أكراد سوريون يلوحون بأعلام تحمل صور مؤسس حزب "العمال الكردستاني" عبد الله أوجلان، أثناء تجمعهم في مدينة القامشلي ذات الغالبية الكردية في شمال شرق سوريا للاستماع إلى رسالة من الزعيم المسجون في 27 فبراير 2025

أسئلة اليوم التالي تؤرق أكراد تركيا بعد نداء أوجلان

بعد واحد وأربعين عاما من الكفاح المسلح، وجه زعيم ومؤسس"حزب العمال الكردستاني" عبدالله أوجلان نداء تاريخيا إلى مقاتلي الحزب، مطالبا إياهم بإلقاء السلاح وحل تنظيمهم العسكري والسياسي، مُقدما في بيان مُقتضب قرأه قياديون من "حزب الشعوب الديمقراطية"، وهو الحزب التركي الداعم لحقوق الأكراد نيابة عنه، جملة من الأسباب والحجج التي دفعته لطلب ذلك، متوقعا أن يكون ذلك لصالح تركيا والأكراد فيها، وللعودة إلى ما أسماها "روح الأخوة التركية الكردية" من جديد.

النداء الذي من المتوقع أن يفتح صفحة جديدة من "حكاية ومسيرة الصراع الكردي مع الدولة التركية" من أجل نيل الحقوق القومية، كان قد بدأ عبر مبادرة استثنائية توجه بها زعيم "حزب الحركة القومية التركية" (المتطرفة) دولت بهجلي، والذي يُعتبر ممثلا لـ"الدولة العميقة" في تركيا ضمن المشهد السياسي في البلاد، توجه بها إلى كتلة "حزب الشعوب الديمقراطية" في البرلمان التركي، مطالبا أوجلان عبرهم بتوجيه نداء إلى تنظيمه العسكري، بغية إنهاء الصراع المسلح، ومنح البرلمان التركي، فرصة تاريخية لمعالجة كل قضايا البلاد.

قلق الدولة العميقة

توجهت "المجلة" بالسؤال إلى عضو البرلمان والكاتب التركي البارز جنكيز تشاندار، مستفسرة منه عن الأسباب التي دفعت بهجلي إلى تقديم مبادرته السياسية؟ ومدى إمكانية تحقق السلام السياسي في تركيا بعد نداء أوجلان؟

مقاتلو "العمال الكردستاني" ليسوا عبارة عن مقاتلين محترفين بأجور مالية، بل مجموعة من المقاتلين المتمركزين حول عقيدة سياسية وأيديولوجية، لا يُمكن إقناعهم بالتخلي عن الكفاح المسلح، فقط لأن نداء ما صدر لهم بذلك

ضو البرلمان والكاتب التركي جنكيز تشاندار

تشاندار الذي كان قبل ثُلث قرن مستشارا للرئيس التركي الأسبق تورغوت أوزال، وشاهدا على أولى مبادرات "حل المسألة الكردية" التي أطلقها الرئيس أوزال في أوائل التسعينات من القرن المنصرم- وثمة شُبهات كثيرة بأنها كانت سببا في إنهاء حياته من قِبل مركز القوة في الدولة التركية- يشرح الظرف الحالي قائلا: "ثمة قدرة استشعارية هائلة لدى النواة السياسية الصلبة في الدولة، وهي راقبت المشهد الإقليمي بتمعن وقلق شديد طوال العام الماضي، ووجدت كيف أن محورا إقليميا كاملا تهاوى فجأة، وصارت تنظيماته المسلحة ودوله تتساقط بالتتالي، وكيف أن إسرائيل، ومعها الكثير من القوى والدول الحليفة، قادرة فعليا على اقتلاع وإعادة تشكيل منظومة الدول، وحتى مجالات السيادة في هذه المنطقة، وبذلك ليس هناك مانع لأن يكون الأكراد وقضيتهم جزءا من تفكير صُناع القرار في هذه الدول، وتاليا وضع تركيا في المنطقة الأكثر حرجا وأذية لها، وفي المستقبل القريب".

ويتزامن ذلك، بحسب تشاندار، مع شعور مستجد لدى تركيا بتفكك دول الطوق حولها، سوريا والعراق، وربما إيران في المستقبل، هذه الدول التي كانت تاريخيا مركزية للغاية، ومستجيبة تماما للاستراتيجية التركية في ضبط المسألة الكردية و(حزب العمال الكردستاني)، لم تعد قادرة على فعل ذلك راهنا".

ويضيف: "استباقا لذلك، يفكر أصحاب القرار السيادي في تركيا بإمكانية تحقيق التفاف ما، عبر جذب الأكراد وإغلاق ملفهم تماما، بالتعاطي الإيجابي مع بعض مطالبهم، التي يُمكن قبولها من المجتمع والمخيلة الجمعية التركية، القومية للغاية بعمومها، تجنبا لأي خسائر جيوسياسية مستقبلية".

رويترز
عبد الله أوجلان، زعيم حزب "العمال الكردستاني" المسجون، يظهر مع سياسيين ومشرعين من حزب "المساواة والديمقراطية الشعبية" المؤيد للأكراد ، في سجن جزيرة إمرالي، في بحر مرمرة، بتركيا، 27 فبراير 2025

لا يميل المستشار والكاتب السياسي التركي جنكيز تشاندار إلى التفاؤل بإمكانية تحقيق تحول سياسي نوعي في المستقبل القريب، معللا الأمر بـنوعية العلاقة السلبية والقاسية، بين الدولة والمجتمع التركيين و"حزب العمال الكردستاني". يفضل تشاندار عوضا عن ذلك "مراقبة عملية مزاحمة مستدامة، قد تطول لسنوات، إلى أن يتمكن الطرفان من التوصل إلى قرارات وحلول مرضية لهما". لكنه مع ذلك يبدي ثقته في قدرة الدولة العميقة في تركيا وممثليها السياسيين والأمنيين والعسكريين على فرض حلول واضحة على الحكومة والبرلمان، والأحزاب السياسية التركية، فيما لو رغبت هذه النواة في ذلك، وهو ما يظهر بشكل إيجابي حتى الآن.

أسئلة كردية محيرة

سياسيا، لا يشكل نداء أوجلان نهاية حتمية وواضحة للكفاح الكردي المسلح على أرض الواقع. فتحقيق ذلك يحتاج إلى مناخات موضوعية، لا تعابير عن "حُسن النوايا" أو "تحليل سياسي منطقي"، كما جاء في نداء أوجلان. ففي تعليقه الأول على نداء أوجلان، قال القيادي العسكري البارز في "حزب العمال الكردستاني" مراد قره يلان: "تعداد مقاتلي العمال الكردستاني يزيد على عشرات الآلاف من المقاتلين، من الذين بذلوا كل حياتهم في سبيل تحقيق غاية سياسية بذاتها، وهُم ليسوا عبارة عن مقاتلين محترفين بأجور مالية، بل مجموعة من المقاتلين المتمركزين حول عقيدة سياسية وأيديولوجية، لا يُمكن إقناعهم بالتخلي عن الكفاح المسلح، فقط لأن نداء ما صدر لهم بذلك، بل يحتاجون إلى عملية إقناع طويلة الأمد، يتأكدون خلالها من أفضلية ونجاعة ترك السلاح لصالح قضيتهم"، ويثبت هذا التعليق الصعوبات التي قد تواجه هذه العملية في مسارها الطويل.

منذ تأسيسه عام 1978، شكل "حزب العمال الكردستاني" المنصة والتنظيم السياسي الأكثر تعبيرا عن الكُرد في تركيا

أوجلان نفسه قبل عدة أسابيع، كان قد أخبر زواره بأنه يعاني من صعوبة واضحة في إقناع جناح واحد من أصل أربعة أجنحة، ضمن "العمال الكردستاني" بتوجهه السياسي الجديد، قاصدا المقاتلين المنتشرين في السلاسل الجبلية بين تركيا والعراق. فأوجلان كان واضحا في تأكيد نفوذه على تنظيمات الحزب في الداخل التركي، ودول الجوار والقارة الأوروبية، لكنه كان حذرا في التكفل بإقناع مقاتلي الحزب بسهولة.

لا يبدو الأمر بعيدا عن المنطق، فالمقاتلون الذين صرفوا جل أعمارهم في أقسى ظروف العيش في سلاسل الجبال الوعرة بين تركيا والعراق، ودفعوا أثمانا لا تُقدر من حياتهم وحياة زملائهم في هذا الصراع العسكري، لا يُمكن لهم أن يقبلوا بمخارج سياسية، لا تمنحهم الاعتبار والمكانة الرمزية، التي يعتبرون أنفسهم جديرين بها. فالعقل السياسي الباطني للمقاتلين الأكراد يقول إن الأمر لو كان توافقا وصُلحا سياسيا، فإنه ثمة مجموعة من الالتزامات، التي على الدولة التركية الالتزام بها، مثلما فعل "العمال الكردستاني" وأجرى مراجعة سياسية وأيديولوجية واضحة لنفسه عبر هذا البيان، وهو ما لم تفعله الدولة التركية. أما لو كان الأمر غلبة سياسية، فإن مقاتلي "الكردستاني" لم ينهزموا على أرض الواقع، وتاليا لا يُمكن لوضع السلاح وحل الحزب أن يكون أولى الخطوات.

أ ف ب
رد فعل أنصار حزب "العمال الكردستاني" بعد أن دعا زعيمه عبد الله أوجلان (75 عاما) إلى نزع سلاحه وحل نفسه في ديار بكر، جنوب شرق تركيا، في 27 فبراير 2025

أمر شبيه بذلك يطغى على الأفكار والمشاعر العامة، التي تسود الفضاء المجتمعي والثقافي الكردي في تركيا. فصفحات التواصل الاجتماعي الكردية في تركيا زاخرة بأسئلة من نوع "لكن ماذا ستفعل الدولة للكُرد في اليوم التالي؟"، و"ما مصير عشرات آلاف المقاتلين الأكراد بعد أن يضعوا السلاح؟"، و"ما الذي سيحصل عليه الكرد في الدستور الجديد؟".

كل تلك الأسئلة ترى القواعد الاجتماعية الكردية ضرورة في الإجابة عليها، وبوضوح وشفافية، من قِبل القائمين على هذا المشروع السياسي، وهُم لم يعثروا على إجابة واضحة على أي منها طوال الشهور الماضية. فمجموع ما حصل هو عبارة عن مجموعة من اللقاءات السرية، بين مجموعة من قادة "حزب الشعوب الديمقراطية" وأوجلان والقادة السياسيين في تركيا، دون أي توضيح شفاف لما تم الاتفاق عليه.

فمنذ تأسيسه عام 1978، شكل "حزب العمال الكردستاني" المنصة والتنظيم السياسي الأكثر تعبيرا عن الكُرد في تركيا، فقد بقي طوال هذه السنوات التيار الأكثر شعبية ورمزية ونفوذا ضمن مختلف الأوساط الكُردية، والجسم التنظيمي الذي عبر دوما عن قضيتهم وتطلعاتهم المستقبلية. إذ لم تنجح جميع محاولات الدولة والقوى السياسية التركية في إحداث حاجز وعزل بينه وبين المجتمع الكردي. لأجل ذلك، فإن تحولا سياسيا مثل هذا، لا يُمكن له أن يحدث دون اطلاع وقبول المجتمع الكردي بمضامينه، ولا تبدو حتى رمزية ومكانة أوجلان ذاته قادرة على تحقيق ذلك دون تلك المقبولية من المجتمع الكردي.

لمستقبل المواجهة الإسرائيلية-الإيرانية بُعد أساسي في ذلك. لأن الإطاحة بالنظام الإيراني، أو العكس، ليست مجرد تفصيل سياسي في المنطقة

مثل باقي القضايا السياسية المستدامة، يبدو الملف الكردي في تركيا راهنا، متأثرا تماما بالمشهد الإقليمي، المحيط بتركيا تحديدا. هذا المشهد الذي منه انبلجت العملية السياسية الجديدة بين "العمال الكردستاني" والدولة التركية، سيضيف تأثيرات واضحة على مسار هذه العملية، وذلك على ثلاثة مستويات.

فمستقبل المواجهة الإسرائيلية-الإيرانية بُعد أساسي في ذلك. لأن الإطاحة بالنظام الإيراني، أو العكس، ليست مجرد تفصيل سياسي في المنطقة، بل تحول جوهري في أصل عالم السياسة في منطقة الشرق الأوسط. يضاف لذلك طبيعة ما سيحصل عليه الكُرد في إيران (نحو 8 ملايين نسمة) من حقوق ومكانة سياسية، خلال المرحلة التي ستلي هذه المواجهة.

المسألة الأخرى تتعلق بنوعية النظام السياسي الذي ستستقر عليه سوريا في الأفق المنظور. فهل ستتمكن النخبة الحاكمة راهنا من تثبيت أركان حُكمها، والسيطرة على البلاد أمنيا وسياسيا، مع إنكار ورفض تام للشراكة مع القوى الكردية، وبخاصة "قوات سوريا الديمقراطية" المقربة من "حزب العمال الكردستاني"، أم لا؟ وحسب ذلك ستتأثر هذه العملية السياسية في تركيا، ولو نسبيا، بسبب التداخل السياسي الكبير بين سوريا وتركيا، على الأقل في المرحلة الراهنة.

أخيرا، ماذا ستكون استراتيجية الرئيس الأميركي دونالد ترمب تجاه منطقة الشرق الأوسط، بعد بدئه بإغلاق ملف أوكرانيا؟ تحديدا من حيث مدى توكيله لتركيا بالكثير من القضايا الإقليمية، وبخاصة في سوريا والعمق الآسيوي. فالحذر الأولي من المشهد الإقليمي والدولي، والذي دفع تركيا لفتح هذا الباب أمام أوجلان في هذه العملية، يُمكن أن يتحول إلى العكس تماما، فيما لو أصبحت استراتيجية الإدارة الأميركية الجديدة أكثر وضوحا.

font change