أطفال البيت الأبيض

الظاهر أن المسؤولين الاميركيين لا ينأون عن كل ما يمكن أن يخدم مصالحهم

أطفال البيت الأبيض

ما أصبحنا نشاهده خلال الندوات الصحافية التي تعقد في البيت الأبيض، تجاوز كل أشكال التوظيف التي كان السياسيون يوظفون بها أفراد أسرهم، وما زالوا. لم يكن رئيس الدولة فيما مضى يظهر لمواطنيه إلا منفردا أو صحبة أعضاء من حاشيته كنائبه أو ولي عهده. شيئا فشيئا أصبح الرؤساء يظهرون برفقة "السيدة الأولى".

لا أذكر أن الجنرال ديغول أو حتى من جاءوا بعده مباشرة كانوا في حاجة إلى هذا السند العائلي. من سيدشن هذه "الموضة" في فرنسا كان ربما هو الرئيس جاك شيراك الذي كان أول رئيس فرنسي ظهر مع السيدة بيرناديت على ما أذكر. وفيما بعد ستظهر وحدها، ومن غير حاجة إلى رئيس الإليزيه في مناسبات رسمية متعددة، أو على شاشة التلفزيون. لكن الرئيس الذي سيوظف الأسرة أداة انتخابية هو جيسكار ديستانغ الذي ظهر في صورة حملته الانتخابية رفقة زوجته وابنته. كانت تلك أول مرة تظهر فيها الأسرة بكاملها رفقة رئيس فرنسي يخوض حملته الانتخابية.

من حين لآخر كان ماسك يعتذر ضاحكا، إلى أن انتهي بوضع طفله فوق المكتب الأسطوري للرئيس، ذلك المكتب الذي كان هدية من الملكة فيكتوريا سنة 1880

كان الرئيس جيسكار على وعي تام بفعل الرموز والعلامات، وأثرها الاجتماعي والسياسي، وكان مهتما بالتحليلات السميولوجية، والمعروف أنه كان قد دعا رولان بارت إلى مشاركته مأدبة غذاء في قصر الإليزيه. كان يعلم أنه إن ظهر محاطا بأسرته في صورة حملته الانتخابية، فذلك دليل نجاحه وتجذره الاجتماعي، بل ربما دعم لمصداقيته وجانبه "الإنساني"، فهو "رب" أسرة ناجح، وأهل لأن يكون رئيسا موفقا.  
فيما بعد سنألف أسر الرؤساء وسنعرف أسماء أبنائهم، الظاهرين و"المخفيين"، كما سنتابع تطورات علاقاتهم الأسرية، وحكاياتهم الغرامية، بل و"خياناتهم" الزوجية و"زلات" بعض أبنائهم، وسيغدو كل ذلك جزءا من الصحيفة التي نتابع فيها "أخبار البلد"، بل سينتهي بنا الأمر إلى أن تختلط علينا الأمور فلا ندري من صاحب القرار هل هو الرئيس أم سيدته الأولى؟
رغم كل ذلك، فإننا لم نشهد قط في القارة العجوز أطفالا يوظفون بهذه الأشكال من التوظيف التي أخذنا نلحظها في القارة "الجديدة"، وخصوصا في عهد رئيسها الحالي. صحيح أن بعض رؤساء الولايات المتحدة كانوا يظهرون صحبة أطفالهم، بل إن الرئيس كنيدي كان قد ظهر رفقة طفل داخل مكتبه في البيت الأبيض، لكن الظاهرة لم تصبح لافتة للنظر إلا في عهد الرئيس الحالي.
لعل المشهد الذي كان أكثر إثارة للانتباه، هو ما تم خلال الندوة الصحافية التي عقدها إيلون ماسك مؤخرا بصفته رئيس "لجنة الفعالية الحكومية" (DOGE). وقف ماسك رافعا ابنه فوق كتفيه ليعلن أمام الصحافيين في مشهد سيريالي: "لدينا خسارة ألفي مليار دولار، وإذا لم نفعل شيئا، فإن البلد سيكون مهددا بالإفلاس. لذلك فإن الإصلاحات التي سنقدم عليها ستترتب عنها نتائج في منتهى الأهمية بالنسبة إلى الموظفين الأميركيين". المفارقة أن هذه اللهجة المحذرة كانت مصاحبة بدعابات الطفل لأذني والده وهو محمول فوق كتفيه. من حين لآخر كان ماسك يعتذر ضاحكا، إلى أن انتهي بوضع طفله فوق المكتب الأسطوري للرئيس، ذلك المكتب الذي كان هدية من الملكة فيكتوريا سنة 1880.

المزج بين جدية الموقف و"خطورته" وبين لعب الأطفال، لا يخفف من هول الخبر فحسب، بل يبين أن قادة البيت الأبيض لا تخيفهم توقعات، ولا تثني عزائمهم أهوال

في هذا المناخ المثقل بالدلالات التاريخية، وهذا المكتب الذي خرجت منه قرارات خطيرة، ذهبت ضحيتها دول، وانهارت حضارات، وفي هذه اللحظات التي لا تخلو من خطورة، والتي يفصح فيها موظف البيت الأبيض عما عرفه البلد من خسارة، وما يتهدده من إفلاس، يتم "توظيف" طفل، ينزع عن الموقف كل هالته، ويشتت انتباه الحاضرين، ويمكن الأب من أن يبدو مستهترا بخطورة ما يمكن أن يقع، كأنما الأمر بالنسبة إليه- وهو الناجح في ميدان المال والأعمال- لن يكون إلا في المتناول، مهما كانت خطورته. هذا المزج بين جدية الموقف و"خطورته" وبين لعب الأطفال، لا يخفف من هول الخبر فحسب، بل يبين أن قادة البيت الأبيض لا تخيفهم توقعات، ولا تثني عزائمهم أهوال، وأنهم لا يفتأون يقدمون على أكثر "الصفقات" خطورة. أليسوا أساسا أصحاب مقاولات كبرى تشكل "المخاطرات" غذاءها اليومي؟
يتساءل المحلل: كيف ستصل الرسالة إلى أولئك الصحافيين الذين لم يكن في وسعهم أن يغضوا الطرف عن الطفل المحمول في الوقت ذاته الذي يتابعون فيه تصريحات الوالد مع ما تبين عنه من جد و"خطورة"؟ 
ما ينبغي أن نؤكد عليه أن هذه لم تكن مجرد "حادثة"، وإنما هي سنة دأب عليها ترمب وحاشيته. فلم تكن تلك هي اللقطة الوحيدة التي ظهر فيها قادة البيت الأبيض داخل "روض للأطفال"، فمنذ بداية الحملة الانتخابية ونحن نشاهد أحفاد ترمب وأبناء نائبه جي دي فانس وكذا أبناء إيلون ماسك. والغريب أن ذلك كان دوما مغلفا بلغة جدية وبتهديدات وتصريحات تعد بأنها ستغير العالم بأكمله، وستقلب الدنيا رأسا على عقب.
يمنعنا هذا التواتر للظاهرة، وهذا الإلحاح على المزج بين الجد والهزل، من أن "نبرئ" نوايا القادة الأميركيين. فالظاهر أنهم لا ينأون عن كل ما يمكن أن يخدم مصالحهم الاقتصادية والسياسية، حتى وإن اقتضى ذلك "توظيف" فلذات الأكباد، وتوريطهم في وضع غير مريح ولا ملائم.

font change