تاريخ الدساتير منذ الإمبراطورية الرومانية إلى العصر الحديث

"القانون الأساسي" الألماني نموذجا ملهما

تاريخ الدساتير منذ الإمبراطورية الرومانية إلى العصر الحديث

برلين: تتكون كلمة دستور بالمعنى الغربي للكلمة، من اجتماع العنصرين اللاتينيين "مع" و"التأسيس"، مما يعني حرفيا "التأسيس معا"، وهذا يحيل إلى ضرورة وأهمية أن تتشارك المجموعة البشرية التي يعيش بعضها مع بعض على بقعة جغرافية في وضع نواظم حياتها وطرق إدارتها. وفي تعريف الدولة، فإن الدستور هو مجموعة من القواعد القانونية التي تنظم مؤسسات الدولة، وينطبق على جميع مواطني تلك الدولة أو رعاياها.

اتفاقيات التأسيس

يتم إضفاء الطابع الرسمي على الدستور المكتوب في نص واحد أو مجموعة من القوانين الدستورية، وهذا يمثل الغالبية العظمى من الدساتير الحديثة. لكن هناك شكلا آخر للدستور هو الدستور العرفي، أي مجموعة القواعد المتعلقة بتنظيم السلطة التي لا توجد في شكل مكتوب. تسمى هذه القواعد "اتفاقيات التأسيس"، وغالبا ما يكون الدستور الشفوي أقل خضوعا لتقلبات السياسة.

اختفى الشكل العرفي تدريجيا في الوقت نفسه الذي اختفى فيه النظام الملكي المطلق. في الواقع، يتوافق القرنان الثامن عشر والتاسع عشر مع فترات التجديد السياسي، وبالتالي التجديد الدستوري. في الوقت الحالي، بقيت المملكة المتحدة وفية للدستور العرفي، حيث تعود القواعد الأولى لدستورها إلى العصور الوسطى منذ نصوص "ماغنا كارتا" في عام 1215، التي بموجبها تخلى الملك عن سلطات معينة لصالح البارونات والبلديات وأعلن نفسه ملزما بالقانون. دول أخرى في العالم، بما في ذلك بعض الدول الإسلامية، لديها أيضا هذا النموذج من الدساتير.

الدستور هو الفعل السياسي والقانون الأساس الذي يوحد ويحكم بطريقة منظمة وهرمية جميع العلاقات بين الحكام والمحكومين داخل الدولة

يختلف النطاق القانوني لدستور الدولة اعتمادا على النظام المعمول به، وبشكل عام له قيمة أعلى من القانون. إنما في المجمل فإن الدستور هو الفعل السياسي والقانون الأساس الذي يوحد ويحكم بطريقة منظمة وهرمية جميع العلاقات بين الحكام والمحكومين داخل الدولة، كوحدة سياسية للفضاء الجغرافي والإنساني. في النظام الديمقراطي، يحمي حقوق وحريات المواطنين من إساءة الاستخدام المحتملة من قبل من هم في السلطة (التنفيذية والتشريعية والقضائية)، فالدستور إذن هو القانون الأساس الذي يضفي الشرعية على جميع المعايير الأدنى. ولقد جاء في المادة 16 من إعلان حقوق الإنسان والمواطن لعام 1789 الذي صدر في أعقاب الثورة الفرنسية التي رفعت شعار الحرية والعدالة والإخاء: "أي مجتمع لا يتم فيه ضمان الحقوق وتحديد الفصل بين السلطات ليس له دستور".

LEON NEAL/AFP
صورة تفصيلية لنسخة أصلية من وثيقة الـ"ماغنا كارتا" من كاتدرائية سالزبوري

أقدم الدساتير

لم يكن لدى روما القديمة دستور بالمعنى الحديث، بل كانت لديها مجموعة من المؤسسات والمبادئ المتطورة باستمرار والتي تُنقل شفهيا لتشكل ما أطلق عليه "عادات الأجداد". تطورت المؤسسات الرومانية باستمرار على مر السنين، وفي نهاية القرن الثالث، حدث آخر تغيير رئيس في بداية الإمبراطورية الرومانية المتأخرة. ويعدّ الخبراء والدارسون أشكال الحكومة التي استخدمها الرومان مصدر إلهام عندما كُتبت الدساتير الأولى في العصر الحديث.

يجمع الباحثون على أن جمهورية سيرينيسيما في سان مارينو واحدة من أقدم الجمهوريات في العالم، وعلى أي حال الأقدم لناحية استمراريتها منذ إنشائها، ودستورها الذي يعود تاريخه إلى عام 1600، هو أقدم دستور مكتوب لا يزال ساري المفعول حتى اليوم.

أما أقدم دستور شفهي فأنتجته مملكة مالي، التي يعود تاريخها إلى القرن الثالث عشر: ميثاق ماندن، بحسب مقالة منشورة في موقع "بوتيمبو" الفرنسي، وهو غير معروف لمعظم الناس، وقد سمي على اسم المنطقة الواقعة في الحوض العلوي لنهر النيجر، بين غينيا الحالية ومالي. تقول الدراسة إن هذا الميثاق، وهو أحد أقدم الدساتير في العالم، صدر في عام 1236، على الرغم من أنه في شكل شفوي فحسب، فقد انتقل طوال قرون على يد الـ"مالينكي" Malinké، وهم مجموعة من الصيادين، وبواسطة الـ"غريوتس" Griots، رواة القصص في غرب أفريقيا، ودون فيها مجموع حريات الأفراد التي لا تنتهك لأول مرة في تاريخ البشرية.

لم يكن لدى روما القديمة دستور بل كانت لديها مجموعة من المؤسسات والمبادئ المتطورة باستمرار والتي تُنقل شفهيا لتشكل ما أطلق عليه "عادات الأجداد"

في ستينات القرن العشرين، وضع المؤرخ المالي يوسف تاتا سيسي هذا الدستور على الورق، وفي عام 2009، أدرجته منظمة "يونسكو" في التراث الثقافي غير المادي للبشرية. لا تزال كلمات الميثاق والطقوس المرتبطة بها تنتقل شفهيا، من الأب إلى الابن، وبطريقة مقننة داخل عشيرة مالينكي. ولضمان عدم ضياع هذا التقليد، تنظم احتفالات تذكارية سنوية حولها في رعاية السلطات المحلية والوطنية في مالي.

القانون الأساس في ألمانيا

في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 1949، تأسست جمهورية ألمانيا الديمقراطية في الجزء الشرقي من ألمانيا. بعد 40 عاما، في عام 1989، سقط جدار برلين. وفي 3 أكتوبر/تشرين الأول 1990، انضمت جمهورية ألمانيا الديمقراطية إلى جمهورية ألمانيا الاتحادية. ومنذ ذلك الحين، أصبح القانون الأساس، الذي كان يهدف في الأصل إلى أن يكون حلا انتقاليا، دستورا لألمانيا الموحدة.  فكيف وضع القانون الأساسي، ووفق أي نيّات لدى الشعب الألماني الخارج للتو من حرب دمرت ألمانيا ورسمت خريطتها من جديد؟

Shutterstock
برج غوايتا، الأول من الأبراج الثلاثة لسان مارينو، يقع على قمة جبل تيتانو تحت ضوء شروق الشمس، في جمهورية سان مارينو

في 1 سبتمبر/ أيلول 1948، اجتمع 61 سياسيا وأربع سياسيات في بون لمناقشة قانون أساسي. يطلق عليهم اليوم "آباء وأمهات القانون الأساسي". في الواقع كانوا عانوا جميعا من الحرب العالمية الثانية والنظام الاشتراكي القومي، وكان من المهم للجميع ألا يعود مثل هذا النظام الظالم إلى السلطة مرة أخرى في ألمانيا. ينبغي ألا يكون الناس معرّضين للإذلال أو الاضطهاد أو القتل ظلما على يد الدولة، من هذا المنطلق كتب المجلس البرلماني في بداية القانون الأساسي الجديد: كرامة الإنسان مصونة.

بعد تمرير القانون الأساسي في 8 مايو/ أيار 1949 بـ 53 صوتا مؤيدا و12 صوتا معارضا، وافق عليه الحلفاء الغربيون ثم برلمانات الولايات، وفي 23 مايو 1949، صدر القانون الأساسي رسميا، ووقع عليه في بون. ثم تأسست جمهورية ألمانيا الاتحادية في حينه.

في تلك الفترة، تم صوغ دستور أيضا في منطقة الاحتلال السوفياتي، الذي كان من المقرر أن ينطبق على ألمانيا بأكملها. ومع ذلك، لم يؤدّ هذا إلى إنشاء ألمانيا حرة وديمقراطية، بل إلى زيادة مجال النفوذ السوفياتي، وتبين أن دستور ألمانيا بأكملها مستحيل خلال الحرب الباردة. بعد أن تأسست دولة ألمانيا الشرقية في 7 أكتوبر/تشرين الأول 1947، دامت لمدة أربعين عاما تقريبا، لكن بعد سقوط الجدار وإعادة الوحدة الألمانية في العام 1990، أصبح القانون الأساسي، الذي كان يهدف في الأصل إلى أن يكون حلا انتقاليا، دستورا لألمانيا الموحدة.

لم يجرَ استفتاء على القانون الأساسي في عام 1949، إذ كان من المقرر أن يُخصص لمرحلة يعتمد بعدها دستور ألماني بالكامل. لكن في انتخابات البوندستاغ الألماني الأول التي أجريت في العام نفسه، حصلت الأحزاب التي أيدت القانون الأساسي على غالبية كبيرة، مما عدّ حينها أنه موافقة السكان على الدستور الجديد.

اعتمد الألمان في عام 1949 "قانونا أساسيا" وليس "دستورا"، ولهذا أطلقوا على الجمعية التأسيسية اسم "المجلس البرلماني"

لماذا سميّ قانونا أساسيا وليس دستورا؟

يرى الألمان أن آباء وأمهات القانون الأساسي أرادوا حينها منع تأسيس دولة ألمانيا الغربية من ترسيخ تقسيم ألمانيا. لهذا السبب، اعتمدوا في عام 1949 "قانونا أساسيا" وليس "دستورا"، ولهذا أطلقوا على الجمعية التأسيسية اسم "المجلس البرلماني"، وبالتالي امتنعوا عن إجراء استفتاء على القانون الأساسي. وفي العديد من أماكن القانون الأساسي، تم تأكيد طابعه المؤقت، وأيضا صراحة في الديباجة. وبعد إنجاز توحيد ألمانيا، كان من المقرر استبدال القانون الأساسي بدستور، وكان من المقرر أن يعتمده الشعب الألماني بأكمله. لذلك بعد الوحدة، تقرر الاحتفاظ باسم "القانون الأساسي". على الرغم من تعديله في بعض الأماكن نتيجة لإعادة التوحيد، إلا أنه احتُفظ بجوهره. ولم يجر استفتاء على القانون الأساسي بعدما سطّر قصة نجاح لافتة.

GERARD MALIE/AFP

النماذج الملهمة

لم ينسف القانون الأساسي ما سبقه من دساتير في ألمانيا، بل اعتمد الآباء والأمهات المؤسسون على دستور بولسكيرشن Paulskirchen-Verfassung، الذي وضعته الجمعية الوطنية في فرانكفورت في 1848/1849، ودستور فايمار لعام 1919 كأول دستور ديمقراطي لألمانيا. كما جاء في دراسة منشورة في موقع "الوكالة الفيديرالية للتأهيل السياسي" bpb، بقلم ستيفان مارشال، فقد كانوا متأثرين بشدة بالديمقراطية الألمانية الأولى، جمهورية فايمار، إنما لم يمنعهم هذا التأثر من الرؤية النقدية والبحث عن أسباب فشلها انطلاقا من ثغرات الدستور، فتبنوا العديد من لوائحه، لكنهم في الوقت نفسه حاولوا التعلم من "أخطاء البناء" للديمقراطية الألمانية الأولى، التي مهدت الطريق للاشتراكية القومية. قبل كل شيء، أرادوا جعل الديمقراطية "دفاعية"، أي أن الدستور الديمقراطي يجب أن يكون قادرا على الدفاع عن نفسه ضد أعدائه.

في جميع أنحاء العالم، أصبح القانون الأساسي لألمانيا نموذجا للدساتير الجديدة، خاصة في الدول الشمولية سابقا، في السبعينات، على سبيل المثل، في إسبانيا والبرتغال واليونان، ولاحقا أيضا في أميركا الجنوبية وآسيا. بعد عام 1989، استرشدت الدول الاشتراكية السابقة في أوروبا الوسطى والشرقية، مثل بولندا وجمهورية التشيك، بالقانون الأساسي الألماني.

كرامة الإنسان مصونة

إنها المادة الأولى في القانون الأساسي الألماني، أو الدستور، التي تتوج ما استخلص آباء وأمهات القانون الأساسي من دروس التاريخ الألماني، وخاصة من زمن الاشتراكية القومية وجرائمها ضد الإنسانية.

المرحلة التي تمر فيها سوريا بعد سقوط نظام الأسد تدفع إلى السؤال عن الدستور الجديد، عن مصادر استلهامه وعن مصير الدساتير السابقة التي تشكلت منذ دستور 1920

ألا يستحق هذا المفهوم، "كرامة الإنسان"، أن يكون "الديباجة"، المنطلق، أو القاعدة الأساس التي تبنى عليها الدساتير؟ خاصة الدول الناهضة من حروب مدمرة خلّفت وراءها انهيار المؤسسات والبنى الاجتماعية والثقافية والقيم والمنظومات كلها، وتركت ألغاما قابلة للانفجار في كل لحظة وإعادة المجتمع إلى ما تحت الصفر، كحال سوريا اليوم؟

LOUAI BESHARA/AFP
فتاة تلوّح بعلم الاستقلال السوري من نافذة حافلة تقل نازحين سوريين عائدين إلى ديارهم بعد سنوات من النزوح، عند مدخل مدينة حمص

المرحلة التي تمر فيها سوريا بعد سقوط نظام الأسد، وبعد تعطيل العمل بالدستور وحل الحكومة المؤقتة البرلمان، والوعد بأن يكون هناك مؤتمر حوار وطني ينتج منه تشكيل لجنة تحضيرية من أجل كتابة دستور جديد للبلاد، تدفع إلى السؤال عن الدستور الجديد، عن مصادر استلهامه، عن مصير الدساتير السابقة التي تشكلت منذ دستور 1920 الذي كتبته لجنة خاصة برئاسة هاشم الأتاسي في فترة تنصيب الملك فيصل ملكا على سوريا لمدة لم تدم طويلا.

يليق بالشعب السوري الذي ثار من أجل "كرامته" في الدرجة الأولى، وبعد كل التضحيات التي قدمها قربانا لهذه الكرامة، أن يكتب دستوره الجديد الذي يضمن مستقبلا كريما لسوريا، وتكون ديباجته "الكرامة الإنسانية مصونة"، دستورا جديرا بأن يحتفى به ويخصص له يوم وطني كما بلدان عديدة، وأن يقف الرئيس في يوم الاحتفال كما وقف الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير في 23 مايو/أيار 2024، احتفالا بمرور 75 عاما على القانون الأساسي وقال: "دستورنا هو ما يمكن أن نكون فخورين به، إنه يحمي ويثمّن كل فرد"، وتابع: "هذا الأساس وفّر الحماية لبلادنا حتى الآن، حتى عندما مررنا بظروف صعبة، وأنا على قناعة أنه سوف يكون السند لنا في المستقبل أيضا".

font change