متخيل الصويرة المغربية في الرواية العالمية

تجارب سردية من بلدان وقارات مختلفة

متخيل الصويرة المغربية في الرواية العالمية

في طليعة من سحرتهم مدينة الصويرة المغربية الشهيرة باسمها التاريخي القرين، موغادور، الكاتب المكسيكي ألبرتو روي سانشيز الذي أفرد لها خمسة أعمال سردية، روائية وقصصية: أسماء الهواء، شفاه الماء، حدائق موغادور السرية، حكايات موغادور، كيف حلّ الحزن في موغادور.

منذ زارها مصادفة عام 1975 باتت موغادور ملازمة لحياته حدّ الهوس، وتحولت إلى مصدر من مصادر خياله المركزية، بالنظر إلى متاهتها المعمارية التي تعادل مجازيا وفق تقديره الأندلس كجسر يصل بين تراث المكسيك العريق وبين جذوره العربية، المغربية، الآهلة بالسحرية والشعر جماليا، وبالتعدد الثقافي والإنساني على نحو استثنائي.

"أسماء الهواء"

هي رواية التفاصيل الحميمة لسيرة الإغواء المبهم، المستحوذ واللافت بغرابة حلمية جارفة لفاطمة التي تنظر من نافذتها صوب الميناء، فيما أنظار رجال موغادور مشدودة إليها في انبهار ورغبة محتدمين. ما السر في إطلالتها الأبدية من نافذتها الصقيلة، وهي ترقب المدينة كأنها تنتظر شخصا ما؟ هذا هو اللغز الذي يسعى الكل إلى اكتشاف غموضه المحيّر، والأكثر من ذلك، رغبة معظم رجال الصويرة في الظفر بأنوثة فاطمة المتوقدة، المحفوفة بسديم الإبهام وفتنة التمنع الحصينة، فلا أحد منهم لمسها حتى، وبعدم اكتراثها تُضاعف شحذ نيرانهم، ولا يغنمون من جوارها الآسر سوى ما تحصده النظرة. إنها لعبة حول الهوس والرغبة والتخييلات الجنسية المصاحبة لها، ولعل الحيز الذي تفرده الرواية للحمام النسائي بعبق ضبابه، واختلاجات عرقه، وطقوسية ألوانه وعريه، هو أبدع ما في "أسماء الهواء"، إذ تلتقي فاطمة العاهرة كاديا، هذه المباحة لرجال المدينة، بينما الأولى محرمة عليهم، وكأن كاديا آخر تجد فيه فاطمة ظلا من ذاتها.

"شفاه الماء"

يضطلع الراوي بدور "الحلايقي"، أي الحكواتي الطقوسي لموغادور الذي ينقل مستمعيه إلى عوالم أخرى، عبر رحلته للبحث عن المخطوطات القديمة لعزيز الغزالي، مؤسس "المسرنمون"، وهم جماعة من الرجال والنساء تشكل الرغبة لهم بوصلة لا محيد عنها إلى شتى العوالم.

يكتب خوان أمادو رسالة حب طويلة إلى ميمونة، المرأة المستأثرة بقطب الرغبة، رسالة تتماهى بشكل لاواعٍ مع مخطوطة عزيز الغزالي المبحوث عنها في زوبعة من الاستيهامات الجنسية التي تنزاح بالبطل من المكسيك إلى العديد من البلدان في جميع أنحاء العالم، وأخيراً إلى مدينة موغادور المغربية، حيث كتب عزيز الغزالي أطروحاته عن الحب منذ سنوات خلت.

تتكون المخطوطة الموسومة بدوامة الأحلام لعزيز الغزالي من تسعة فصول وكل فصل يحتوي على تسعة أحلام، بحث مبتدؤه الجغرافي أميركا اللاتينية ووجهته الثانية جنوب فرنسا وبعدها جنوب إسبانيا، عروجا على شمال أفريقيا، المغرب بالذات، طنجة أولا، مراكش ثانيا، ثم موغادور (الصويرة) أخيرا، إذ يكتشف أمادو أن عزيز الغالي هو نفسه، كأنه حلّ فيه.

مع تجميع شظايا فسيفساء الرواية الذي هو نفسه فسيفساء الرغبة والبحث، تفضي القراءة إلى أن مسعى أمادو ما هو إلا استقصاء لجذوره العربية الأندلسية

مع تجميع شظايا فسيفساء الرواية الذي هو نفسه فسيفساء الرغبة والبحث، تفضي القراءة إلى أن مسعى أمادو في استغواره واستكشافه للأشكال اللانهائية للحب، ما هو إلا استقصاء لجذوره العربية الأندلسية، التي يعثر عليها أخيرا في مدينة خارقة، تعادل بالنسبة اليه مجاز الفردوس المفقود، الأندلس التي يتمازج في استعارتها تراث المكسيك الروحي وتراث المغرب الأمازيغي والعربي والإفريقي بملء تعدده الانساني والثقافي.

كتب عن الصويرة

"حدائق موغادور السرية"

رواية في أربع حلقات وكل حلقة تضم تسعة فصول، أشبه بدوامات سردية وشعرية في آن، تعتمد المحكي القصير والمكثف، مؤسسة على جماليات الرحلة، ورصيد متواتر من المراسلات، ذات بناء متشظ، إذ كل وحدة حكائية مستقلة وفي الوقت نفسه ذات صلة بالنسق الروائي العام، تدور جميعها حول طقوسية الرغبة في مدينة موغادور السحرية الشبيهة وفق توصيف الكاتب بامرأة تقع في غرامها من أول وهلة، امرأة فيما تحكم طوق امتلاكها لك لا يمكنك في المقابل أن تستأثر بحبها وحدك.

ترصد الحكاية لعبة الشهوة في ما بين حسيبة، ابنة البستاني المقتدر الراحل حديثا، إذ تقرر بعد أربعة شهور من الألفة الحميمة مع الراوي ألا تمنح نفسها له إلا إن كشف لها حديقة مجهولة في المدينة، وبذا يسعى بكل ما أوتي من حلم أن يكون دليلها إلى هذه الجنائن السرية ولو كلفه الأمر اختراعها، حتى يستطيع الظفر بفردوس أنوثتها من جديد.

Pedro  Martin González Castillo/Getty Images
ألبرتو روي سانشيز

"كيف حل الحزن في موغادور"

رواية أخرى هي محض استئناف لمتتاليات دورة روايات الرغبة التي تصخب في موغادور، إذ يقدم المؤلف فرضية قصصية لنشوء أو تشكل مناخ الكآبة في موغادور. إنها حكاية صينية تجري وقائعها الغامضة في موغادور المغربية كمعادل موضوعي لحضارة الأندلس دائما، لا يني يصدح بلازمته حول فضيلة التعدد الثقافي والمزيج العرقي، هذا المدار الملحوم به والممجد في متاهات الرواية التي يتطابق فيها الخيالي بالواقعي، والشعري باليومي، والحلمي بالتاريخي.

"موغادور" للألماني مارتن موزيباخ

بسبب مخالفات مالية فادحة في تدبير مصاريف البنك الذي يشتغل فيه البطل باتريك، سيجنح إلى الهروب إلى أيما مكان خارج ألمانيا بغية الاختفاء، اتقاء مصير السجن كعقاب لسرقته الدامغة، ويلفي نفسه في المغرب بتدبير من أحد المهربين، بدءا بالدار البيضاء، ومن البيضاء سينتهي به المطاف في الصويرة التي يسعى أن يلتقي فيها السيد بيريرا أحد اللاعبين المهرة الضالعين في تهريب الأموال، حتى يسعفه في قضيته الجنائية. سيضطر باتريك أن يقيم مصادفة في بيت دعارة بالصويرة تديره السيدة خديجة، المرأة التي أبهرته بقوتها وشيطنتها إذ تغيرت أحوالها جذريا منذ أن ألقت بقطة في الفرن وهي طفلة، إنه مكان مثالي بالنسبة لباتريك كي يتحاشى الإقامة في الفنادق كخطة ضرورية لينأى عن رقابة الأمن هنا وهناك.

 Raquel Maria Carbonell Pagola/LightRocket/Getty Images
القوارب الزرقاء في الصويرة

هروب المصرفي الفاسد إلى المغرب في معلنه هو بغرض الاختفاء، في انتظار تدبير حكيم لأزمته الحادة، وفي المضمر كأنها رحلة للتطهير، سفر لإيجاد توازن روحي، كاغتسال أخلاقي من لوثة الإفلاس الإنساني المزمن التي دمغت مجمل حياته، وفي موغادور ستتأرجح به الأحوال بين السيدة خديجة التي تمتهن العرافة أيضا وبين المعلم الروحي ذي الأسنان الثلاث.

أبدع خوان الأغنيات الست الأولى قبل أربعة عقود، وعمره 23 عاما، في مدينة الصويرة المغربية بالذات

تتشظى موغادور في الرواية إلى لوحات، منها الدستوبي ومنها الشعري ومنها الواقعي المبتذل ومنها الغرائبي والعجائبي في آن... من جهة المدينة الملاذ، ومن جهة ثانية المدينة الموبوءة.

في النهاية يؤوب باتريك إلى بلده، وفق سيناريو تهريب ثان، ويصدمه أن حياته السابقة ما عادت موجودة، وكأن الحقيقة اللاذعة لكل هروب، الانزلاق نحو الدمار، بهذه النبرة السوداوية تختم الرواية تجربتها الحكائية المضطربة.

ألفونسو فيلا

"دفاتر الصويرة" للإسباني ألفونسو فيلا

في عطلة وجيزة في برشلونة تلتقي أرابيلا بعازف البيانو خوان وتنشأ بينهما علاقة حميمة على مدار أسبوع، وفي لحظة الوداع يقدم لها خوان هدية غامضة: سبعة دفاتر مكتوبة بخط اليد.

مجمل ما دوّنه خوان في دفاتره السبعة هي الوقائع الكبرى الخاصة والمنعطفات الحاسمة في حياته كإنسان وموسيقي، مفصحا أنه أبدع الأغنيات الست الأولى قبل أربعة عقود، وعمره 23 عاما، في مدينة الصويرة المغربية بالذات، بينما ألّف الأغنية السابعة والأخيرة في الليلة التي سبقت الوداع، بينما كانت أرابيلا نائمة في الفندق.

 Jean-Denis  Joubert/Gamma-Rapho/Getty Images
الصويرة، المغرب

يسافر بنا في خرائط تجواله من إسبانيا إلى مدن فاتنة بدءا بلشبونة وروما وهافانا ونيويورك والدار البيضاء، لكن سحرية حياته وشغفه تستأثر به مدينتان لا غير، على نحو استثنائي: أمستردام والصويرة.

في ضوء ما تقرأه أرابيلا من مكاشفات خوان، ستستيقظ ذاكرتها الأخرى، في استيهامات تتماهى مع حكاية الحب المركزية في الدفاتر السبعة.

لا يقف متخيل الصويرة في الرواية العالمية عند هذا الحد من الأمثلة المشار إليها أعلاه، بل تمتد ظلاله لتشمل تجارب سردية من بلدان وقارات مختلفة، كرواية "موغادور" للكاتب النروجي رون بيرجلوند ستين، ورواية "نداء البحر"، من ضفة الصويرة للكاتب الفرنسي نويل كاستيت وغيرهما ممن لم تتصدّر موغادور عناوين نصوصهم، في حين حضرت بصورة من الصور في متونهم الحكائية كفضاء أو كعلامة.

font change