مسلسل "معاوية" ضرورة ثقافية وفنية

مسلسل "معاوية" ضرورة ثقافية وفنية

معاوية؟ هكذا تسمعها باستنكار وتعجب عندَ من اعتادوا على ترك تلك المرحلة المهمة جدا في تاريخنا العربي والإسلامي نهبا لمن يسبق عليه من كتّاب وما تعرضه أعمال فنية، لقد صار شيئا متوقعا أن ينجذب المتلقي إلى دور البطل الإغريقي "أخيل/أخِيلْيُوس" بعد أن جسده براد بيت في فيلم "طروادة" الصادر سنة 2004 وترشح لجائزة الأوسكار، وتحول براد بيت في أدائه الملحمي فيه إلى أيقونة فنية، لكن المتابع نفسه قد يجهل تاريخنا العربي الثري بل لعله يستنكر التعرض لأحد أهم الشخصيات الفاعلة في تاريخنا تبعا لما تلقنه من إدانة ذلك العهد، ولم تبقِ الأعمال الدرامية الإيرانية تلك المرحلة مهملة بل سابقتْ إلى ملئها بسرديتها الخاصة، فقاموا بإصدار مسلسل عن حياة المختار الثقفي في 2009، ونشر الكثير من الأعمال ذات السردية الأحادية في تاريخ يمس عددا من الصحابة.

لذلك فإن التعرض لمعاوية في مسلسل رمضاني ضرورة ثقافية، سيما أن عددا من الأعمال الدرامية كان همها التقليل من شأن الدولة الأموية، أو التعامل باستحياء مع رموزها، إن لم يصل الأمر إلى التنقص منها ومن قادتها وإنجازاتها، ولذلك فإن مبدأ عرض مسلسل يتحدث عن معاوية بن أبي سفيان يحقق توازنا في الحالة الثقافية العربية، في عالَم أضحى مفتوحا أمام المتابعين أمام كل إنتاج فني، وطرق تاريخ الدولة الأموية في الأعمال الفنية فيه رفض ضمني للوصاية الداعية إلى التكتم على تلك المرحلة التي أسست لدولة كبرى للعرب، امتدت شرقا وغربا، وكان قد وضع أساسها صحابي من كتبة الوحي وهو معاوية بن أبي سفيان.

مبدأ عرض مسلسل يتحدث عن معاوية بن أبي سفيان يحقق توازنا في الحالة الثقافية العربية، في عالَم أضحى مفتوحا أمام المتابعين أمام كل إنتاج فني

فهذه الحالة تكسر "تابو" التعرض للشخصيات العربية الإسلامية التاريخية في الأعمال الفنية، وتزاحم السردية التي رددتها مشاريع لا ترى في تاريخ العرب إلا ما يستدعي التنقص لا الفخر، وفي حين كانت السينما الأوربية تمجد بطلا إغريقيا لم يؤسس دولة، ولا أقام حضارة مثل "أخيل/أخِيلْيُوس"، بل بلغتنا أخبار تاريخه من قصيدة للشاعر هوميروس، فإن شخصية مثل معاوية بن أبي سفيان أولى أن تستحضر من التاريخ وتُعرض في الأبواب الثقافية والفنية العربية وهو الذي ملأ الدنيا وشغل الناس. فلا يمكن لكتاب في التاريخ أن يستثني دوره متى ما تعرض للمرحلة الزمنية التي عاش فيها، وليس إهمال تلك المرحلة في الحالة الفنية سوى خدمة مجانية للسرديات المتنوعة ومنها الإيرانية، لتغرق المشاهد بأعمال ذات طابع دعائي انتقاصي من تاريخ الدولة الأموية، لذلك هو ضرورة ثقافية، تحقق توازنا أمام المتلقي العربي، وتربطه بتاريخ الدولة الأموية التي تضيق ذرعا بسيرتها نزعات شعوبية.

لا أريد استباق العمل بتقييمه الفني والتاريخي، فكل عمل يبقى تقييمه الفني مفتوحا أمام المشاهدين والنقاد، ويتنافس الفنانون في تجسيد الشخصيات التي يقومون بأدوارها، وشخصية مثل معاوية بن أبي سفيان وزمنه تتطلب مهارة وموهبة عالية

فالصورة المشاهدة مع التمثيل الدرامي لها وقع هائل على المتلقي وهو الذي جعل الفن سلطة على الجماهير، وكان تجاهل دور معاوية في التاريخ الفني العربي ثغرة تستدعي التعويض، وقد تعددت الدراسات المهمة عن تاريخ الدولة الأموية، ومعاوية بن أبي سفيان على وجه الخصوص، ورأى أن يعاد الاعتبار لتاريخه عدد من الكتّاب المعاصرين منهم على سبيل المثال ر. ستيفن هامفريز في كتابه "معاوية بن أبي سفيان من الجزيرة العربية إلى الإمبراطورية"، وفيه أشاد بعبقرية معاوية السياسية التي أثرت في إنهاء زمن الفتن ووصف تلك المدة التي نشرت الاستقرار بقوله: "تلك المهلة [أي: منح الناس 20 سنة من إلغاء الانقسامات] ليست أمرا هينا، وقد كانت حاسمة لبقاء وازدهار مشروع الإسلام بأكمله في نهاية المطاف".

لكن تلك الدراسات تعيش بين نخبة تقرأ ما فيها، بخلاف الدراما فإنها تبعث التاريخ إلى الناس، فما إن جاء مسلسل "معاوية" حتى ملأ خانة ينبغي التعرض لها وعرضها في الأعمال الفنية، ولا أريد استباق العمل بتقييمه الفني والتاريخي، فكل عمل يبقى تقييمه الفني مفتوحا أمام المشاهدين والنقاد، ويتنافس الفنانون في تجسيد الشخصيات التي يقومون بأدوارها، وشخصية مثل معاوية بن أبي سفيان وزمنه تتطلب مهارة وموهبة عالية لمنح تلك المرحلة حياة أمام ناظري المتابع، وتبقى الإشادة بطرق الموضوع نفسه، وإعطائه المساحة الفنية الملائمة لشخصية من وزن معاوية وما أثر به في التاريخ العربي والإسلامي، وقد كان الإعلان عنه جاذبا ومبشرا، على أمل النجاح والتوفيق للقائمين عليه ومزيد من الأعمال الدرامية الفنية المتعلقة بتاريخ الدولة الأموية.

font change