نازحو غزة... حكايات النزوح المستمر للتعبير عن أهمية البقاء

حياة صعبة في ظل الاحتلال والمنع والقهر

رويترز
رويترز
عائدون إلى مدينة غزة وسط انقاض المباني المدمة، أثناء الهدنة بين إسرائيل وحركة حماس، 6 فبراير 2025

نازحو غزة... حكايات النزوح المستمر للتعبير عن أهمية البقاء

بعد قرابة شهر من تدفق آلاف النازحين من جنوب قطاع غزة إلى شماله، وعودتهم إلى مناطقهم المدمرة وافتقادهم لأبسط المقومات الأساسية للعيش، من منزل وماء وكهرباء وبنية تحتية، جعلت الحياة شبه مستحيلة هناك. على سبيل المثال أنا كأحد العائدين بعد نزوح لأكثر من عام، كنت أسكن جنوب غربي مدينة غزة منذ ولادتي وحتى قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، تعرض منزلي وعائلتي للدمار الكامل، فقدناه دون القدرة على إيجاد مساحة صغيرة لوضع خيمة بجواره بسبب كثافة وانتشار الركام، فقررت الاستمرار في الإقامة وسط القطاع نازحا إلى أن أعود لاحقا.

في 26 يناير/كانون الثاني الماضي، سمح الجيش الإسرائيلي بعودة النازحين مشيا عن طريق شارع الرشيد- البحر- بعد تراجع قواته وآلياته في المنطقة التي كانت تسمى "خط نتساريم" خلال حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، والتي امتد عرضها لقرابة 8 كيلومترات، حيث تراجع الجيش من المناطق الغربية إلى منطقة الشرق والوسط، كما سمح في اليوم ذاته بعودة النازحين في مركباتهم عن طريق موازٍ لشارع صلاح الدين شرق "خط نتساريم"، ومن بين الآليات العسكرية بعد اشتراط وجود نقطة تفتيش تشرف عليها قوات دولية من "شركات أمن أميركية، وقوات مصرية قطرية"، حيث يتم تفتيش المركبات بهدف منع تسريب أي نوع من أنواع الأسلحة من الجنوب إلى شمال القطاع.

يقول سعيد عبد العال (47 عاما)، الذي قرر العودة مع عائلته مشيا، أنه ومنذ أن بدأ السير على شارع الرشيد بعد جسر وادي غزة باتجاه الشمال، شاهد المباني المدمرة إلى جانب تدمير الطرقات والتي غيرت من ملامح المنطقة بشكل جذري، مضيفا: "أنا كنت أمشي على شارع البحر بشكل شبه يومي، بحكم عملي في توزيع البضائع، كنت أحفظ الشوارع والبنايات وحتى يافطات الدعايات في الطرقات، الطريق كله تغير، ملامحه اختفت، أنا طول الطريق وحتى وصلت منطقة الشيخ عجلين- جنوب غربي غزة- وأنا بحاول أفهم، أنا وين!".

لم يكن عبد العال الوحيد الذي تفاجأ بما تراه عيناه، حيث تحدثت "المجلة" مع أكثر من 10 من المواطنين العائدين مشيا، من بينهم نساء وكبار سن، الجميع دون استثناء عبروا عن صدمتهم من حجم الدمار في الطرقات والمباني السكنية التي تعرض غالبيتها لدمار كلي، حتى المباني التي لا زال جزء منها واقفا، بحاجة لإزالة بسبب تضرر في الأساسات ما تسبب في انحرافها لأحد الاتجاهات الأربعة، فيما تعرضت مئات المنشآت التجارية والسياحية والتعليمية للقصف والتدمير أيضا.

تحدثت "المجلة" مع أكثر من 10 من المواطنين العائدين مشيا من بينهم نساء وكبار سن، الجميع دون استثناء عبروا عن صدمتهم من حجم الدمار في الطرقات والمباني السكنية

قبل السابع من أكتوبر 2023، كان يقطن في مدينة غزة وشمال القطاع، قرابة مليون و200 ألف فلسطيني، اضطر منهم للنزوح القسري خلال الحرب بعد إجبارهم وترهيبهم من قبل الجيش الإسرائيلي ما بين 700 إلى 800 ألف بحسب ما أعلنت عدة منظمات دولية، تركوا خلفهم أقاربهم الأحياء والأموات، تركوا منازلهم وأملاكهم وأعمالهم وبحثوا عن النجاة في ظل التوغلات البرية الإسرائيلية واشتداد القصف البري والبحري والجوي وعمليات التجريف والتدمير التي طالت كافة مناحي الحياة على مدار 470 يوما.

مساحات مسطحة من الركام

كانت مدينة غزة بالتحديد، خلال السنوات الأخيرة، تتحول من مدينة أفقية إلى عامودية بسبب الاكتظاظ السكاني والثورة العمرانية الكثيفة، حيث غطت المباني الأسمنتية آلاف الدونمات بعد اقتطاعها من المساحات الزراعية والترفيهية، إلا أن الحرب حولتها إلى مناطق مسطحة يكسوها الركام بلونه الرمادي الباهت نهارا، والظلام الدامس ليلا بسبب عدم وجود كهرباء وتضرر الشبكات شبه الكامل حسب ما أعلنت شركة توزيع كهرباء غزة في أول أيام وقف إطلاق النار.

رويترز
فلسطينيون يسيرون بين أنقاض المباني المدمرة خلال الهجوم الإسرائيلي، في مخيم جباليا للاجئين، شمال قطاع غزة في17 فبراير 2025

مع عودة النازحين للمدينة التي خلت من معظم سكانها لقرابة عام، بدأت الحياة تعود في غالبية الشوارع والأحياء، حتى إن من صمدوا طوال أيام الحرب ولم ينزحوا إلا داخليا، شعروا بأن شيئا تغير. عبدو شمالي (51 عاما)، رفض وعائلته النزوح طوال الحرب واستمر في التنقل من منطقة لأخرى، حتى لحظة إعلان وقف إطلاق النار في 19 يناير الماضي وعودة النازحين من أقاربه وجيرانه وأصدقائه بعدها بأسبوع.

يقول لـ"المجلة": "الشارع صار فيه ناس وأولاد قاعدين على أبواب بيوتهم، حاسس إن الحياة بترجع بعد ما كنت أتمنى أسمع أي صوت أو أشوف أي حد بالشارع وأنا ماشي في أيام الحرب خاصة في ساعات المساء، هلقيت بديت أصدق إنه الحرب وقفت واحنا بنستعيد بيوتنا وحياتنا بعد ما دمروها وتعرضت للخراب".

خلال حديثنا، مرت من أمامنا سيارة لتوزيع المياه، صرخ "يا الله.. وهي سيارة المي رجعت تمشي بالشارع يعني أخيرا بنقدر نعبي مي ونرجع للبيت بعد ما انقطعنا من شهور من المي والكهربا والغاز وحتى الأكل".

بعد الساعات الأولى من الفرحة جراء العودة التي كانت مثل الحُلم وتحولها إلى حقيقة، والصدمة من مشاهد الدمار، أصبح الناس يبحثون عن بديل لمنازلهم المدمرة، وتوفير المياه، لكن لم يجدوا من يساندهم، حيث افتقر شمال القطاع لتوفير الخيام والغذاء الكافي ما دفعهم لرفع أصواتهم للمطالبة بتوفيرها.

محمود حسونة (37 عاما)، من سكان مدينة غزة، بعد عودته وجد منزلهم ومنازل جيرانهم عبارة عن أكوام من الركام، تفحص وعائلته المنزل بحثا عما يستطيعون انتشاله من تحت الأنقاض لكنه لم يجد ما يستحق، حتى سأله طفله "بابا وين بدنا أنام؟".

نظر إلى يمينه وشماله، عله يجد خيمة أو مكانا قريبا يُقام فيه خيام فلم يجد، سأل بعض المارة عن مكان لمخيم إيواء قريب، فلم يجد، حتى قرر استخدام بعض قطع من الشوادر الجلدية المترهلة والتي أحضرها معه خلال عودتهم، موضحا: "كانت ليلة باردة جدا، طول الليل لولاد برجفوا من البرد واضطريت أولع نار وهم نايمين ادفيهم، ما صدقت النهار يطلع أروح أدور على أي إشي نعمل فيه خيمة أو مكان في خيم".

الحرب حولت غزة إلى مناطق مسطحة يكسوها الركام بلونه الرمادي الباهت نهارا، والظلام الدامس ليلا بسبب عدم وجود الكهرباء

في الصباح، خرج حسونة للبحث عن منزل أو غرفة للإيجار، لكنه وبعد بحث طويل، لم يجد إلا بعض المنازل أو الشقق التي تعرض غالبيتها لدمار جزئي ولا تتوفر فيها خدمات أساسية وبأسعار باهظة، الأمر الذي دفعه للذهاب إلى السوق لشراء بعض الاحتياجات لصناعة خيمة بجوار منزله، يقول: "مش لحالي، كتير ناس كانت بالسوق ماشية وبتسأل وبتدور على شوادر وخشب أو خيام جاهزة، الحاجة كانت كبيرة وكلنا بيوتنا تعرضت لدمار وبدنا نستر حالنا ونحمي ولادنا، ما في أي خيارات تانية قدامنا غير هيك".

وعاد لصناعة خيمته، لكن المشاكل لم تنته، حيث بدأت رحلة البحث عن أقرب مكان تتوفر فيه مياه، وبعد سؤال الآخرين، تمكن من إيجاد مكان يبعد عنه قرابة 300 متر، ذهب هو وطفله الذي لم يتجاوز الثانية عشر من عمره، ووقفوا في طابور طويل حتى جاء دورهم لتعبئة الجالونات وحملها بالأيدي خلال العودة مشيا إلى خيمتهم بجوار ركام منزلهم، وهذا أصبح حال المئات من الغزيين العائدين.

كحال حسونة، فعل غالبية العائدين، حتى حاولوا اعتياد حياتهم في شكلها المزري، وانتقلوا لتفقد واستعادة أعمالهم السابقة، من ترميم وافتتاح المطاعم والمقاهي والمحال التجارية، بهدف تلبية احتياجات المواطنين العائدين، والقدرة على توفير دخل لهم ولأسرهم حتى يتمكنوا من العيش والاستمرار، حيث عادت الحياة إلى الأسواق المركزية مثل سوق الرمال وعمر المختار وأسواق أخرى شهيرة في المدينة المنكوبة.

لكن، هناك آخرون لا زالت آثار الحرب تلاحقهم حيث تعرض أقاربهم للفقد خلال الحرب خلال العمليات البرية العسكرية وهم داخل منازلهم ومناطق سكنهم. وفقد خلال الحرب، أكثر من 14 ألف مواطن بحسب ما أعلن المكتب الإعلامي الحكومي بغزة في آخر إحصائية له.

هناك آخرون لا زالت آثار الحرب تلاحقهم حيث تعرض أقاربهم للفقد خلال الحرب خلال العمليات البرية العسكرية وهم داخل منازلهم ومناطق سكنهم

إيمان إسماعيل (34 عاما)، من شمال قطاع غزة، كانت نازحة مع أسرتها إلى الجنوب خلال الحرب، فيما بقي شقيقها- الوحيد- وزوجته وطفلاه في منزله بمخيم جباليا شمالا، كانوا على تواصل دائم إلا خلال انقطاع شبكات الاتصال والإنترنت كما تقول، وحتى قبل شهرين من إعلان وقف إطلاق النار، حيث كان الجيش الإسرائيلي يتوغل ويحاصر ويقصف المخيم بكثافة، ففقدت الاتصال معه.

في حينها، حاولت وأسرتها التواصل معه وزوجته عدة مرات، وسألوا آخرين كانوا في المنطقة، التي غادروها نتيجة القصف الشديد لكنهم لم يعرفوا أخباره، وبعد أكثر من شهر على انقطاع الاتصال، علموا أنهم لم يغادروا منزلهم الذي تعرض للقصف فوق رؤوسهم. تقول لـ"المجلة": "أنا رجعت أنبش على أخويا ومرته وولاده، بدي أطلعهم وأدفنهم".

Omar AL-QATTAA / AFP
أطفال فلسطينيون داخل مأوى مؤقت في بيت حانون شمال غزة

رفضت عائلة إسماعيل العودة حينما سمح الجيش الإسرائيلي بذلك، كونهم لم يشعروا بأنهم جاهزون نفسيا لمشاهدة منزلهم المُدمر فوق جثامين أفراد عائلتهم، فيما أصرت ابنتهم إيمان على العودة وحيدة للبحث عن شقيقها وعائلته... تضيف: "قعدت أسبوع كل يوم باروح أحفر وأرفع الركام بإيدي، وساعدني كتير من الناس حتى لقيت أجزاء منهم، ودفنتهم على مراحل في المقبرة، مش عارفة لو لسة في أجزاء مفقودة باقية، لكن أنا تيقنت إنهم كانوا بالبيت وقتلوا ودفنتهم".

عادت إلى عائلتها جنوبي القطاع، كما اضطر إلى العودة عدد آخر من العائلات التي لم تستطع التأقلم لأسباب مختلفة، إما بسبب عدم توفر المأوي، وإما بسبب عدم توفر أبسط احتياجاتهم الأساسية من ماء وكهرباء وبنية تحتية، لكنهم لا زالوا في حالة انتظار لتوفر الإمكانيات والوقت المناسب بحسب ما قال عدد منهم لـ"المجلة"، فيما عبّر آخرون عن خوفهم من عودة الحرب والعمليات العسكرية والقصف نتيجة استمرار التهديدات الإسرائيلية، وعدم تيقنهم من انتهاء الحرب أو عودة للقتال بين فصائل المقاومة الفلسطينية وإسرائيل.

font change