باريس: تسرع ميمونة خطاها بين ركام الصناديق والعلب. لا تأبه لصراخ البائع، الفارع الطول، الذي يدعوها للشراء بلهجة أهل الصعيد: "تفضلي يا ست الكل"، حيث أن معظم عمال سوق الخضر من المهاجرين المصريين. تتسلل بين الأجساد التي تبدو لها ضخمة. تذوب كلمات الرجل خلف خطواتها المتباطئة بسبب المتبضعين وجلبتهم. رجال ونساء، بلهجات متنوعة وأصول مختلفة، ومن أحياء باريس وضواحي أوبارفيلييه، لابلين ساندوني، وكورنوف، حاملين مظلاتهم ومتدثرين بألبسة شتوية تثقل أقدامهم، فيما الأصوات تتمازج مع روائح الأسماك واللحوم والبيض المقلي والبريك باللحمة والبصل.
تقف ميمونة فجأة. تتفرج على "بسطة" امرأة أفريقية تنقل نظراتها بحذر خوفا من عناصر شرطة البلدية. تتداخل ألوان فستانها مع مشهد الخضر والفاكهة المجلوب معظمها من حقول إسبانيا أو البرتغال، بسبب غلاء الخضروات المحلية، ومواد غذائية مشحونة أو مهربة من الجزائر والمغرب وتونس. تضع السيدة البدينة لميمونة في ورقة جرائد بالية مسحوق الحنة. تدفع ما بقي في حقيبة يدها من نقود. تنظر حولها معاينة تدفق المارة مثل المطر الذي خففت برده خيوط الشمس القليلة وهي تشق الغيم السميك، مظللا لافتة "تاتي Tati" ، آخر ما بقي من أثر لأكبر متجر شعبي قبل أفول عصره وإغلاقه نهائيا في 2021.
هنا عنابة
"هنا أحس بألفة شديدة. هذا الضجيج يشعرني بأن الحياة لا تقاوم. لا أستطيع العيش خارج هذا الحي ولا أتخيل حياتي من دون هذه الحركة غير المتوقفة"، تقول ميمونة وهي تسند ظهرها الذي بدا مقوسا الى حائط خط عليه "هنا عنابة ici Annaba" (شمال شرق الجزائر)، قبل أن تهم بإشعال سيكارتها. تصير تبلع مجاتها بلعا. تترك سحابات دخانها تختلط بالبخار الساخن الصاعد من شقوق المترو الحديدية، وأنفاس العابرين في هذا البرد، كأنها داخل فيلم لهنري كلوزو (1907-1977). توجه نظرها بين وقت وآخر إلى جمع النساء اللواتي يحطن جدار محطة مترو "بارباس ريشيشوار"، وصراخهن تخالطه كلمات من بلادهن الأم وهمهماتهن وتأففهن المتراقص مع حركة القطار وعجلاته المسرعة. تصطف البائعات، في فترة ما قبل الظهر، بعضهن قرب بعض. ينادين على أغراض بأسعار بخسة: أمشاط بلاستيكية، معلبات، أقلام كحل، أشرطة وأحذية مستعملة، وهواتف وساعات مسروقة، وفواكه موسمية، "بعضهن يبيع كي يستطيع أن ينام في غرفة موتيل رخيصة بدلا من النوم في الشارع"، تقول ميمونة.