كيف يمكن لنا الفصل والجزم بأن كتابات الصخور ونقوشها، هي كتابات غير حقيقية؟ وأنها لا تمثل اللغة بشكل مباشر؟ أو أنها لشعوب ما قبل التاريخ، وأنه لا يجب اعتبار الكتابات الحفرية، كتابات حقيقية؟ ضمن هذه الأسئلة التي تبدو فخاخا، فإنني بالتأكيد، لن أكتب الإجابات التي تشبه المكائد، فما الكتابة إلا استلهام الواقع، والبحث عن زمن نتتبعه كما على الصخور، من نقوش وكتابات، ورحلة داخلية للسلف، امتلكوا الذات، وامتلكوا أيضا قدرة التعليق على الحياة، فوق صخورهم لتصبح مرئية للآخرين ولنا.
وبالنسبة لي، بعد أن قمت مؤخرا بسفر مهيب وشيق إلى جبل عكمة، شمال الحجاز بالمملكة العربية السعودية، وبالقرب من منطقة العلا بحوالي 3 إلى 5 كيلومترات فقط. لم أجده جبلا كالجبال الأخرى، إنما مكتبة حجرية مفتوحة على الهواء، عمرها أكثر من 2700 سنة، مكتبة قاومت الشمس والرياح والأمطار طويلا، لتبقى على حالها.
مكتبة حقيقية في قلب العلا، لا تقل أهمية عن المكتبات الكبرى في عصرنا، بعد أن حفرت على منحدرات الجبل، ووجهاته الصخرية، كتابات باللغة العربية الشمالية، وبخط المسند الجنوبي، وبشكل فني وجاذب، لتعطي للمكان وجودا.
لقد حددت هذه المكتبة هوية الشعب من مكان وذاكرة وثقافة، هوية مرتبطة بممالكهم العربية القديمة، كالدادانية واللحيانية، حيث بقيت الكتابة واضحة، وفي حالة رائعة، تشمل جميع جوانب الحياة كما كانت المنطقة خلال عصر الدولتين، ومعلومات عن الحياة الإنسانية والحضارية، وقوانين وتنظيمات كانت تحكم المجتمع، والحياة الدينية والسياسية والاقتصادية والمعاملات التجارية، مع التعريف بوسائل الترفيه والآلات الموسيقية، مثل الآلات الوترية كالسمسمية والمزامير والطبول... وكتابات أخرى تؤكد معرفتهم بالمهن الدقيقة مثل النحت وصياغة المعادن، بجانب المئات من الكتابات المقدسة والمحفورة.
إن مكتبة جبل عكمة تعرفنا على الأسماء القديمة، مثل وشح، وود، ومهر، وجنيد، وودع، وما قاموا به، وتعرفنا أيضا على أسماء القبائل، والآلهة مثل ذو غيبة، كما أنها تمدنا بتوثيق لمراسم الدفن، والدعاء لذرية الميت، وعن النذور والأضحيات والزكوات، إلى ذكر ملكيات الأرض ومساحاتها الخاصة لأصحابها، وعن نظام المقايضة في البيع والشراء، وكيف استبدلت بألواح الطين، مع الإشارة لمالك السلعة، وجرد البضائع، وعن ورثة ورثوا عددا من أشجار النخيل.
حول هذه المكتبة المستنيرة بمتحفها الفني، منظر بانورامي ممتد يشمل كل شيء، لا يمكن تصويره بعدسة الكاميرا إلا مجزءا، بسبب الرؤية الرحيبة في منطقة صحراوية وشاسعة وخلابة
تصف الكتابات هناك جوانب الحياة الاجتماعية المتداخلة مع رحلات الحج، وطقوس حج المعبودات، وأوضاعهم الحياتية والإنسانية، وخاصة في هذين المملكتين (دادان ولحيان)، حين كانت العلا على الطريق التجاري للتجار الأنباط، وكل ما يتعلق بالأوضاع التجارية من ضرائب وخراج.. الجدير بالذكر أن المفردات تقترب وتكاد تلتصق، وكأن من نسخها، لديه رغبة التوثيق الجاد، كي لا يضيف أحد مفردات جديدة في الزمن القادم والمتغير.
وبجانب المكتبة، هناك مئات من النقوش الصخرية التي تتخذ من أشكال الحيوانات المرسومة موسوعة مصورة من الوعول والإبل والخيول والنعام وأنواع أخرى.. وكأنها تتجول على واجهات الصخور، مع بعض المطاردين من الصيادين والمسلحين بالرماح وأسلحة أخرى، مع زخرفة معقدة، وكأنها رغبة قديمة في تمثيل العالم الطبيعي، مع الأحداث الرئيسة والواضحة في حياتهم بالفن.
وحول هذه المكتبة المستنيرة بمتحفها الصوري الفني، منظر بانورامي ممتد يشمل كل شيء، لا يمكن تصويره بعدسة الكاميرا إلا مجزءا، بسبب الرؤية الرحيبة في منطقة تعد اليوم صحراوية وشاسعة وخلابة، وآفاق من الرمال الصفراء، تتخللها أودية من صخور رملية بظلال ملونة، ومساحات جبلية مغلقة من البازلت الأسود، كان كل ذلك قبل الغروب، أي قبل أن يصبح المشهد قمريا.
وقفتُ مذهولة أمام جبل عكمة الشاهق المائل إلى الحمرة، حيث يطلق عليه الأهالي مكتبة لحيان... فهل بعد كل هذه الدقة، يتم تصنيف هؤلاء الأسلاف بأنهم من المتأخرين؟ ونجعلهم ينتمون إلى ما قبل التاريخ؟ كيف وهم من أنشأوا هذا التواصل بالكتابة مع أي قارئ وفي أي زمن؟ ومن المكان ذاته؟ مع أهمية خاصة، وهي أصالة وسلامة المعلومات المحفوظة حول كل شيء... أليست الكتابة كما نعلم منظومة حضارية؟ وهؤلاء كتبوا على جبل، يقع على مفترق طريق تجاري للأنباط، ومكان للراحة وتبادل الأفكار، وملتقى للتبادل الثقافي عبر الزمن، ألا يثبت ذلك القيمة المعرفية للمكان، وتاريخ الكتابة المبكر لشبه الجزيرة العربية.