أهل غزة يستعدون لاستقبال رمضان في أجواء من الحزن والفقدان

تدمير المساجد وتشتت العائلات وغياب الموارد

AFP
AFP
فلسطينيون يؤدون صلاة عيد الأضحى في ساحة المسجد العمري التاريخي في غزة

أهل غزة يستعدون لاستقبال رمضان في أجواء من الحزن والفقدان

يحل شهر رمضان المبارك على غزة هذا العام، في ظروف استثنائية، حيث يدخل الناس إليه مدججين بالحزن والفقد، بعد أن أبيد الكثير من المساجد التي حملت لهم لحظات خاصة، وهدمت البيوت والشوارع التي شكلت ذكريات الغزيين ومنحتهم الدفء.

الكثير من اللحظات محي بالكامل، حيث دمرت الأماكن والذكريات الدافئة معها، وتحولت إلى غصة داخل النفس، وألم لا يمكن مجاراته. فرحة رمضان هذا العام، شأن رمضان الماضي، أصبحت كابوسا ثقيلا وحسرة على الماضي، خاصة بعدما عاد النازحون ليجدوا ركام بيوتهم، وصار عليهم استقبال رمضان داخل خيمة، لا تمنحهم أيّا من طقوسه المعتادة.

يعكف المصلون في غزة خلال رمضان، على أداء الصلوات والعبادات النوافل، صلاة التراويح وقيام الليل والاعتكاف في العشر الأواخر، داخل المساجد. وخلال الحرب الأخيرة، هدم الاحتلال ما يقارب ألف مسجد، من أصل ألف ومائتين، حتى أصبحت معظم أحياء القطاع دون مآذن، ودون دور عبادة تستوعب المصلين.

عبادة واعتكاف

يشاركنا أمير الحسيني، 46 عاما، ألمه بمجيء رمضان على غزة في ظل هذه الظروف، إذ لن يستطيع ممارسة عباداته داخل المسجد، خاصة أن الاحتلال هدم، بين ما هدم، المسجد العمري، أقدم الآثار الدينية في غزة.

كان المسجد العمري يعني بالنسبة إليّ هوية رمضان، ولا أعرف كيف سيكون هذا العام، بعدما فقدت مكان عبادتي المفضل

أمير الحسيني

يقول الحسيني: "أشعر بحزن شديد وصعوبة في استيعاب ما حدث، فالمسجد العمري يعني بالنسبة إليّ هوية رمضان، ولا أعرف كيف سيكون هذا العام، بعدما فقدت مكان عبادتي المفضل، الذي أشعر فيه بالأمان والبهجة خلال الشهر الفضيل، لم أعد أسمع الآذان من بيت الله، ذلك النداء الذي كان ينطلق في رمضان، فتتأجج مشاعري، وأترك عملي كبائع لألعاب الأطفال، لأصلي سعيدا بالإقبال الكبير للناس من حولي على المسجد... تلك حالة روحانية لا يمكن نسيانها، أو تعويضها". هكذا يصف الحسيني حسرته، بفقدان لحظات الهدوء والسكينة بفعل وحشية الاحتلال، واعتدائه على دور العبادة. ويكمل: "دون مساجد سيفقد رمضان الكثير من قيمته وحضوره".

REUTERS
فلسطينيون يعاينون الأضرار في موقع قصف إسرائيلي لمسجد ومنازل في رفح جنوب غزة

يرى الحسيني أن رمضان بعد الحرب الشرسة على القطاع، لن يكون على حاله من النواحي كافة: "من خلال تجارتي، أجد من الصعب عليّ شراء الفوانيس وبيعها، خوفا من عدم اكتراث الناس لها، فالجميع مكلوم، مشغول بحزنه على من فقدهم، ولا يعطي بالا لأي شكل من أشكال الزينة والاحتفال". ويشير الحسيني إلى خطورة العمل في التجارة في هذه الظروف بسبب تقلب أسعار البضائع، وعدم الاستقرار بفعل الحرب.

من جانب آخر، يعرب أمجد عبد الهادي، 34 عاما، عن حزنه جراء فقدانه مكان عبادته واعتكافه في رمضان، مسجد الخادي، شمال غرب غزة. كان لعبد الهادي ارتباط وثيق بمسجد الخالدي، وقد اعتاد في العشر الأواخر، أن يترك منزله، ويعتكف حتى نهاية الشهر الفضيل: "لا أعرف كيف سيكون رمضان هذا العام، لكن لو تعذرت الأمور فسأعتكف في منزلي، بالرغم من أن الاعتكاف في المسجد يحمل روحانية لا يضاهيها أي مكان آخر".

AP
فلسطينيون يصطفون لشراء الخبز أمام مخبز في مدينة غزة

إفطار عائلي

أما سعاد العشي، 67 عاما، فتخبرنا بأنها كانت تنتظر شهر رمضان كل عام، لتجتمع بأبنائها وأحفادها حول المائدة، وهو أمر كان صعب التحقق في سياق العام، نظرا الى انشغالهم، لكن في رمضان الحالي، لن يتحقق ذلك: "كيف أجمع عائلتي، وقد استشهد أربعة منهم خلال الحرب، وكذلك قضى إلى ربهم سبعة أحفاد، وتركوا لي حسرة طيلة عمري".

كيف أجمع عائلتي، وقد استشهد أربعة منهم خلال الحرب، وكذلك قضى إلى ربهم سبعة أحفاد، وتركوا لي حسرة طيلة عمري

سعاد العشي

"كان رمضان شهر فرح ومسرة للقلب، وترويح عن النفس، لكنه هذا العام حاد مثل سكين، يذبح القلب ويفرغه من معناه". هكذا  تستقبل أم الشهداء وجدتهم رمضان، نافذة تعيد اليها ذكريات لا تحتملها.

لا تتوقف سعاد العشي عن قص مواقف مع مفقوديها في رمضان، وفي كل قصة تذرف دموعها، وتعبر عن حزنها العميق: "كنا نجتمع في حديقة منزلنا، نستمتع بأجواء روحانية، ونتناول الملوخية والدجاج، مثل عادة الغزيين، أول يوم رمضاني. كان ابني محمد لا يقتنع بكل ذلك الطعام دون صحن الحمص، منذ طفولته، وحتى بعد أن تزوج وأنجب، كنت ألبي طلبه مثل الأطفال، ماذا سأفعل هذا العام دونه، ودون بقية أحبابي؟".

AFP
فتاة فلسطينية تحمل حصة غذائية لعائلتها في مخيم جباليا شمال غزة

تضيف: "أحبت حفيدتي لانا الفوانيس الملونة، وأحب حفيدي سالم الفانوس الذي له شكل مسجد، أما أخته عفاف فكانت تحب القطائف، واعتدت سابقا، أن أحضر لهم كل ما يحبونه، الآن لا أجد قيمة للحياة من دونهم، لا أشعر بطمأنينة رمضان المعتادة".

تلك الفوانيس لم تقتصر على أيدي الصغار،  في غزة، فكانت زينة يعكف الكبار على الحصول عليها، وتعليقها على نوافذ البيوت وفي داخلها، من أجل صنع بهجة رمضان، والاعتناء بطقوس الفرحة خلاله.

REUTERS
رجل يطهو الطعام وسط أنقاض المباني المدمرة

تعليق الزينة 

على رغم المأساة، تحاول بعض العائلات في غزة، الحفاظ على طقوس رمضان. إذ ترى زينة أبو سيدو، 29 عاما، أن الحياة يجب أن تستمر، وأن مجيء شهر رمضان، يعد فرصة أخرى لاستعادة شيء من ذكريات الماضي.

تعرض بيت أبو سيدو لقصف وتدمير جزئي، في منطقة الشيخ رضوان غرب غزة، لكنها أكدت تزيين شرفتها كما السابق، كسلوك يجلب الراحة والطمأنينة، بعد تعب الحرب ومآسيها.

حتى بعد كل ما مررنا به، هذه التفاصيل الصغيرة تمنحنا شعورا بالأمل، بأنها جزء من رمضان الذي نعرفه

زينة أبو سيدو

تقول أبو سيدو: "رغم كل شيء، فإن الفوانيس والزينة على الشرفة تمنحني إحساسا بالسلام ولو للحظات. لا شيء يعادل فرحة رمضان التي كنت أراها في عيون أبنائي عندما يلتفون حول النوافذ ليروا الفوانيس تتلألأ في الليل. حتى بعد كل ما مررنا به، هذه التفاصيل الصغيرة تمنحنا شعورا بالأمل، بأنها جزء من رمضان الذي نعرفه، والذي كان يشكل جزءا من حياتنا اليومية".

تضيف: "تلك الفوانيس لم تكن مجرد زينة، كانت تمثل في أنفسنا عودة للبهجة، إصرارا على الحياة رغم الدماء التي تملأ الأرض. كل فانوسٍ نعلقه على الشرفة، هو بعض من الأمل وسط الظلام الذي نعيشه. ومع كل يوم من أيام رمضان، أتذكر ما كان، ما كنا عليه، وأنتظر عودة ذلك الطقس الذي نفتقده. لكن أعتقد أن رمضان هذا العام سيكون مختلفا في كل شيء، فهو يدعونا إلى أن نتعلم كيف نعيد بناء أرواحنا، ليس فقط بترتيب الزينة ولكن بترتيب مشاعرنا وتقبل الحزن".

AFP
أشخاص يتفقدون أنقاض مسجد دُمر جراء غارات جوية إسرائيلية في خان يونس جنوب غزة

مسحراتي 

لا تكتمل فرحة الغزيين برمضان دون طبول السحور، وهو طقس قديم، ذكر في رحلة ابن جبير 1217، وحافظ عليه الغزيون، وأبقوا أثره المبهج في نفوس الصغار والكبار. تلك الهوية الثقافية الرمضانية، مهددة أيضا بالتوقف هذا العام.

عن ذلك يحدثنا أبو عادل الهسي، 49 عاما، الملقب بمسحراتي رمضان في منطقة "الترانس"، في معسكر جباليا المدمر. فيؤكد لنا قيمة عمله الرمضاني، طوال عشرين سنة متتالية، في إيقاظ الناس الى السحور، وإسعاد قلوبهم.

يرى الهسي أن رمضان هذا العام محير، وهو لم يحدد بعد قدرته على ممارسة طقسه الرمضاني، وعمله مسحراتيا بالطبل والمناداة على أهل حيّه بالغناء والأناشيد الدينية.

يعز عليّ المرور أمام ركام منازلهم، وكأن شيئا لم يحدث، فما زلت غير مصدّق أنهم رحلوا

أبو عادل الهسي

يقول: "في السابق كنت أحمل قائمة بأسماء الناس، أهل الحي، وأنادي على كل رب عائلة باسمه: اصحى يا نايم وحّد  الدايم، رمضان كريم، أبو فلان صايم، قوم واصحى، رمضان اجانا وهلّت النسايم".

يؤكد أبو عادل، استحالة عمله هذا العام، بسبب هدم معظم البيوت في مخيم جباليا، ويرى أن صوت الطبل سيكون مرعبا للناس في الخيام، ليلا، بسبب عدم وجود جدران تخفف وطأة الصوت على الأذن والقلب.

REUTERS
رجل يطهو الطعام وسط أنقاض المباني المدمرة

يضيف: "لو نظرت الآن في قائمتي السابقة، فإنها فقدت الكثير من الأسماء، وقد استشهد مئات منهم، كنت أنادي عليهم في السنوات السابقة، إنني أخجل أن أنادي اسما وأتجاهل آخر، ويعز عليّ المرور أمام ركام منازلهم، وكأن شيئا لم يحدث، فما زلت غير مصدّق أنهم رحلوا".

هذا الحلول الباهت لشهر رمضان في غزة لا يشبه ما اعتاده الناس من قبل، فهو يأتي مثقلا بركام متناثر في كل مكان، وبألم لم يترك عائلة إلا زارها. اختفى كثير من الطقوس، وتلاشت أجواء الاحتفال المميزة. لكن رغم كل شيء، لا يزال بعضهم يحاول التمسك بجمال سابق، عبر إضاءة فانوس صغير، أو تعليق زينة خجولة، وكأنهم يرفضون الاستسلام لمحو رمضان من ذاكرتهم، حتى لو جاء هذا العام بلون الرماد.

font change