إسرائيل تريد تغيير واقع الضفة... بعد غزة

مشكلة الفلسطينيين أن كياناتهم السياسية في أضعف أوقاتها

رويترز
رويترز
طفلان فلسطينيان يحملان زجاجات المياه وسط انقطاع إمدادات المياه، في أعقاب غارة إسرائيلية، في مخيم الفارعة للاجئين بالقرب من طوباس، في الضفة الغربية المحتلة، 12 فبراير

إسرائيل تريد تغيير واقع الضفة... بعد غزة

استغلت إسرائيل التداعيات الناجمة عن "طوفان الأقصى" لتعزيز هيمنتها العسكرية والسياسية والإدارية والاقتصادية المباشرة على جغرافيا فلسطين، وترسيخ تحكمها في الفلسطينيين من النهر إلى البحر أكثر من أي وقت مضى.

وفي الواقع فإن هذا المسار يتم بدفع من حكومة اليمين القومي والديني المتطرف التي تشكلت أواخر عام 2022، برئاسة بنيامين نتنياهو ومع الوزيرين بتسلئيل سموتريتش (صاحب نظرية محو حوارة) وإيتمار بن غفير (استقال مؤخرا)، التي همها إزاحة أي بعد فلسطيني أو أي كيانية فلسطينية، من الخريطة الجغرافية والسياسية، وفق مبدأ: لا "حماسستان" ولا "فتحستان"، لا في الضفة ولا في غزة.

وقد يجدر التذكير بأن ذلك يشمل السعي لاستبعاد فلسطينيي 48 من المشاركة في الانتخابات، والنيل من مكانتهم كمواطنين في إسرائيل، بعد إقرار قانون-أساس يقضي باعتبار إسرائيل وطنا لليهود، يملكون وحدهم حق تقرير المصير فيها (2018).

وما يفاقم من خطورة هذا الوضع عدة عوامل، أهمها:

أولا، تحويل المستوطنين في الضفة الغربية إلى ميليشيا منظمة ومسلحة، باسم "الحرس الوطني"، وهي ميليشيا مشبعة بأيديولوجيا دينية وقومية متطرفة، تطالب بطرد الفلسطينيين من هذه المنطقة أو تلك، وتعمل بشكل رسمي وبإسناد من الجيش، وتحت إمرة إيتمار بن غفير الذي كان يشغل منصب وزير الأمن القومي قبل استقالته.

ثانيا، موقف الرئيس الأميركي بشأن استعداد الولايات المتحدة لإضفاء شرعية على أي خطوة إسرائيلية تتضمن ضم الضفة الغربية، أسوة بضم إسرائيل للجولان السورية، والقدس الشرقية، وذلك بالتساوق مع خطته المتعلقة بإجراء "ترانسفير" لفلسطينيي غزة، أو سلخ غزة عن الجسم الفلسطيني، بدعوى إقامة "ريفييرا" شرق أوسطية فيها.

الثالث، حال الانقسام السياسي الفلسطيني، بخاصة الانقسام في كيان السلطة، بين سلطة "فتح" في الضفة، وسلطة "حماس" في غزة، في وضع لا تستطيع فيه أي من الحركتين، بأوضاعهما الحالية، وتبعا للظروف الإقليمية والدولية، صد الخطط الإسرائيلية، لا سيما بعد تدمير قطاع غزة، وتحويله إلى منطقة غير صالحة للعيش، واعتماد حوالي مليونين من الفلسطينيين فيه على المساعدات الآتية من الخارج.

ما يفترض إدراكه أن سطو إسرائيل على الضفة الغربية لا يتعلق فقط بإجراءات سياسية أو أمنية أو اقتصادية أو إدارية فثمة واقع يجري تشكيله على الأرض أيضا، ويتمثل بزيادة عدة المستوطنين

وفي نظرة عامة فإن إسرائيل تعمل على التخلص من السلطة الفلسطينية، وإعادة الإدارة المدنية في الضفة، تحت سلطتها، وهي تتبع اليوم للوزير سموتريتش (كوزير في وزارة الدفاع إضافة إلى منصبه كوزير مالية) في وضع بات فيه الفلسطينيون في الضفة الغربية إزاء سلطات ثلاث، لكل واحدة نظامها القانوني، فثمة سلطة إسرائيل، وهي العليا، وسلطة المستوطنين، والسلطة الفلسطينية، التي لا تستطيع شيئا إزاء السلطتين السابقتين.

وكان الكنيست الإسرائيلي قد شرعن هذا التحول في إقرار قانون-أساس (2024) ينص فيه على رفض قيام دولة للفلسطينيين، بتصويت 68 نائبا، "بلا معارضين". ("إسرائيل اليوم"- 27/7/2024) وفي السياق ذاته قام مؤخرا اثنا عشر وزيرا من حزب "الليكود" (9 فبراير/شباط) بتوجيه رسالة إلى رئيس الحكومة نتنياهو يطالبون فيها بإعلان "بسط السيادة الإسرائيلية" على الضفة الغربية، وقد استمدوا تشجيعا على ذلك من تصريحات ترمب عن "مساحة إسرائيل الضيقة" باعتبارها فرصة تاريخية يفترض من إسرائيل اقتناصها لإعلان ضم الضفة.

التغول الاستيطاني

ما يفترض إدراكه أن سطو إسرائيل على الضفة الغربية لا يتعلق فقط بإجراءات سياسية أو أمنية أو اقتصادية أو إدارية، على أهمية كل ذلك، فثمة واقع يجري تشكيله على الأرض أيضا، ويتمثل بزيادة عدة المستوطنين، إذ ثمة 750 ألف مستوطن في الضفة، ثلثهم في القدس، وبحسب شاؤول أرئيلي، ثمة "497.589 شخصا، يعيشون في 134 مستوطنة و120 بؤرة استيطانية غير قانونية". ("هآرتس"- 20/7/2024).

كما يتمثل ذلك بزيادة عدد المستوطنات وتوسيعها، في كل أرجاء الضفة، وخاصة في القدس ومحيطها، بهدف تغيير طابعها الديموغرافي، وتقطيع أوصالها، وعزل القدس عن رام الله، وعن بيت لحم في الشمال، وعن أريحا والأغوار في الشرق، بربط الجدار الفاصل عبر هذا التوسع الاستيطاني الثلاثي الأبعاد.

وبديهي أن من شأن ذلك تحويل الضفة إلى كانتونات معزولة، لا تواصل بينها، سيما مع الطرق الالتفافية والجسور والأنفاق والجدار الفاصل، الأمر الذي يقوض أية محاولة لإقامة دولة فلسطينية مستقبلا.

ومثلا، فقد قامت حكومة إسرائيل، خلال العام الماضي، بالمصادقة على بناء 27.589 وحدة سكنية في عشرات المستوطنات، و9.421 وحدة سكنية في مستوطنات إسرائيلية في الضفة، و18.358 وحدة سكنية في القدس المحتلة. مع إعلان 24.193 دونما كأراضي دولة، في محافظة أريحا بغور الأردن، على سبيل المثال. وفي المحصلة، فمنذ توقيع اتفاق أوسلو عام 1993، شهد عام 2024 ذروة في مدى إعلان إسرائيل عن مناطق في الضفة الغربية كأراضي دولة.

على صعيد الوضع الاقتصادي في الضفة فهو يشتغل لصالح إسرائيل، فهي التي تسيطر على المعابر والتجارة وحركة المصارف ووسائل الاتصال والعملة والبني التحتية

وبحسب المحلل الاقتصادي سيفر بلوتسكر فإن التوجهات الأساسية لحكومة نتنياهو تكمن في العبارتين الآتيتين: "للشعب اليهودي الحق الحصري... في كل أرجاء (أرض إسرائيل). وستدفع الحكومة قدما بالمستوطنات وتطورها في كل أنحاء (أرض إسرائيل)، في الجليل والنقب والجولان، وفي الضفة الغربية... هذا المفهوم للسيطرة اليهودية الحصرية والمطلقة على كل (أرض إسرائيل)، من البحر إلى النهر، يُقرر كل شيء. إنها صيغة متطرفة لا مثيل لها في كل الخطوط التوجيهية لحكومات (الليكود) السابقة، من مناحيم بيغن حتى بنيامين نتنياهو. وهي تتعارض مع أي احتمال تسوية مع الفلسطينيين- حتى التسوية المتواضعة التي تضمنها اتفاق السلام للرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب". ("يديعوت أحرونوت"- 11/1/2023). ويجدر التذكير بأن نتنياهو هو صاحب السبق في تقويض اتفاق أوسلو، منذ ولايته الأولى (1996-1999)، وولايته الثانية (2009-2021)، لذا فهو في ولايته الثالثة يستكمل ما بدأه سابقا، بعدما هيمن على السياسة الإسرائيلية قرابة ثلاثة عقود.

رويترز
الجدار العازل الخرساني الذي يفصل إسرائيل عن الضفة الغربية، في 23 يناير

في ما يخص توزع الفلسطينيين، في مدن وبلدات وقرى ومخيمات الضفة، يمكن ملاحظة أن مناطق (أ) و(ب)، وهي مناطق سيطرة السلطة الفلسطينية، وتشكل تقريبا 40 في المئة من أراضي الضفة، يعيش فيها 2.5 مليون فلسطيني تقريبا، إضافة إلى 400 ألف شخص يعيشون في القدس الشرقية. أما في المنطقة (ج) (بحسب اتفاق أوسلو)، وهي تشكل 60 في المئة من أراضي الضفة، ولا زالت تخضع للهيمنة الإسرائيلية، فثمة 134 مستوطنة و221 بؤرة استيطانية غير قانونية (66 منها أقيمت خلال الحرب الحالية)، في حين أنه في هذه المنطقة ثمة 400 ألف فلسطيني، أو 45 في المئة فلسطينيون و55 في المئة مستوطنون. وبحسب شاؤول أرئيلي، أيضا، فإن "المستوطنين يشكلون حوالي 5.14 في المئة من إجمالي السكان في إسرائيل، و15 في المئة من سكان الضفة الغربية، لكنهم يشكلون 55 في المئة من سكان المنطقة (ج) في الضفة"، لكنهم مع ذلك يسيطرون على 60 في المئة من أراضي الضفة (المنطقة ج).

الاعتمادية الاقتصادية

على صعيد الوضع الاقتصادي في الضفة فهو يشتغل لصالح إسرائيل أيضا، فهي التي تسيطر على المعابر، وعلى التجارة، وحركة المصارف، ووسائل الاتصال، كما أنها تسيطر في مجالي العملة، والبني التحتية، إضافة إلى وجود عمالة فلسطينية، كانت تقدر قبل الحرب بحوالي 160 ألف عامل (إضافة إلى 20 ألفا من غزة)؛ هذا من دون احتساب أن إسرائيل تعد من الدول القوية اقتصاديا وتكنولوجيا وعلميا، علما أن الناتج المحلي السنوي في إسرائيل 522 مليار دولار، وحصة الفرد 55 ألف دولار سنويا.

ويوضح ألون بنكاس مدى ضعف السلطة، وارتهانها لإسرائيل، بقوله: "توجد عملة واحدة وغلاف ضريبي واحد وتجارة خارجية واحدة. 55 في المئة من استيراد الفلسطينيين مصدره إسرائيل، و80 في المئة من التصدير الفلسطيني مخصص لإسرائيل. نحو 80 ألف فلسطيني يعملون في إسرائيل في فرع البناء، و15 ألفا في الصناعة والخدمات. إذا كان هناك أي أحد يبحث عن أدلة وشهادات على الضم بحكم الأمر الواقع... فإن الاقتصاد الفلسطيني هو المكان لرؤيتها. ما بدأ كرابطة قوية أصبح اعتمادا اقتصاديا مطلقا للفلسطينيين على إسرائيل واقتصادها. حيث تبلغ الميزانية السنوية العامة للسلطة 5.7 مليار دولار... 65 في المئة من الميزانية مصدرها الضرائب التي تجبيها إسرائيل". ("هآرتس"- 8/1/2025).

الفلسطينيون إزاء حقبة جديدة في الصراع مع إسرائيل، على حقوقهم وعلى أرضهم وعلى مكانتهم السياسية، والمشكلة أن حركتهم الوطنية أو كياناتهم السياسية الجامعة (المنظمة والسلطة) في أضعف أوقاتها

وبحسب بحث أجراه دكتور روعي فايبرغ، من مجموعة أبحاث "تمرور" الإسرائيلية، فإن إسرائيل هي الشريكة التجارية الرئيسة للسلطة الفلسطينية، مع حجم تجارة سنوي يبلغ 5–6 مليارات دولار. وتظهر المعطيات أن حوالي 65 في المئة من الاستيراد الفلسطيني مصدره إسرائيل، و85 في المئة من التصدير الفلسطيني يوجه للسوق الإسرائيلية. ويظهر بعد آخر من الاعتماد الاقتصادي في سوق العمل؛ فحتى اندلاع الحرب الحالية فإن حوالي 130 ألف فلسطيني كانوا يعملون في إسرائيل وفي المستوطنات بشكل قانوني، وحوالي 50 ألفا كانوا يعملون دون تصاريح. وفي المحصلة فقد أدت الحرب إلى ارتفاع في نسبة البطالة في مناطق السلطة الفلسطينية، من 25–30 في المئة إلى 50–60 في المئة. ونسبة البطالة مرتفعة بشكل خاص في أوساط الشباب. علما أن نسبة الضرائب التي تجبيها إسرائيل لصالح السلطة ارتفعت من 40 في المئة في عام 2010 إلى الثلثين تقريبا اليوم" ("هآرتس"- 20/7/2024)، إذ إن السلطة تؤمن ميزانيتها السنوية من أموال "المقاصة" التي تجبيها إسرائيل ومن مساعدات الدول المانحة.

محاولة محو المخيمات

على الصعيد الأمني معروف أن إسرائيل تشددت وتوسعت في أعمالها العسكرية ضد الفلسطينيين في مختلف مناطق الضفة الغربية، خلال فترة الحرب على غزة، أي طوال 16 شهرا، مستغلة التغطية والدعم الأميركيين، وقد ذهب ضحية ذلك 945 فلسطينيا، من الأطفال والنساء والشيوخ والشباب، وأضعاف عددهم من الجرحى. كما قامت باعتقال حوالي 16 ألف فلسطيني لفترات متفاوتة.

ولعل ذروة تلك الهجمات أو الحملات العسكرية الإسرائيلية، تمثلت في إطلاق عملية "السور الحديدي"، التي استهدفت مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في الضفة، منذ شهر، لا سيما مخيمات جنين وطولكرم وعين شمس، وكلها تأتي في سياق سعي إسرائيل لوأد مقاومة الشعب الفلسطيني، بكل أشكالها، وترسيخ السيطرة الإسرائيلية على الضفة.

رنين صوافطة - اف ب
فلسطينيون يتفقدون الاضرار التي الحقتها غارة جوية اسرائيلية على مخيم جنين في الضفة الغربية في 5 يوليو

وكان رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو قام شخصيا، يوم 21/2، بدخول مخيم طولكرم، تأكيدا منه على المضي في محاولة محو المخيمات وتغيير معالمها بتدمير عمرانها وبناها التحتية، وإجبار عشرات الألوف من سكانها على النزوح منها.

القصد من كل ذلك أن الفلسطينيين إزاء حقبة جديدة في الصراع مع إسرائيل، على حقوقهم، وعلى أرضهم، وعلى مكانتهم السياسية، والمشكلة أن حركتهم الوطنية، أو كياناتهم السياسية الجامعة (المنظمة والسلطة) هي في أضعف أوقاتها، مع خلافاتها وهشاشة قواها وانكشاف ظهرها على أكثر من صعيد. لذا ففي كل الأحوال فإن الأولوية اليوم، مع الاحترام لكل الشعارات والرغبات والعواطف، يفترض أن تتركز على تعزيز صمود الفلسطينيين، وتمكينهم في أرضهم، قبل أي شيء آخر، إذ المسألة لم تعد تتعلق بـ"فتح" أو "حماس"، ولا بوجود سلطة أو دولة، وإنما بوجود الشعب الفلسطيني في أرضه.

font change