أي رسائل يحملها التقارب العسكري بين الجزائر وواشنطن؟

توقيع مذكرة تعاون بين الجانبين بقي مضمونها سريا

غيتي
غيتي
جنود جزائريون يشاركون في العرض العسكري بمناسبة الذكرى السبعين للثورة الجزائرية في الجزائر، 1 نوفمبر 2024

أي رسائل يحملها التقارب العسكري بين الجزائر وواشنطن؟

على مدار شهر كامل، شكلت زيارة قائد القيادة الأميركية لأفريقيا (أفريكوم)، الجنرال مايكل لانغلي موضع تساؤل مباشر في الأوساط السياسية والأكاديمية الجزائرية حول توقيتها والظروف المرتبطة بها ودلالاتها العميقة لا سيما وأنها انتهت بالتوقيع على مذكرة تفاهم للتعاون العسكري، ومما يطرح اليوم: ماذا وراء التقارب العسكري الجزائري الأميركي؟ هل فعلا، جاء ليؤكد نية الجزائر في تغيير وجهة شراكتها العسكرية إلى أميركا، كرد فعل منها على الفتور الذي أصبح يطبع علاقاتها مع الشريك التاريخي الروسي؟ وحتى بالنظر إلى ما آلت إليه علاقاتها لا سيما مع "محور باريس -الرباط" الذي طور خطابا معاديا جدا ضدها؟ وكيف يمكن أن يلقي ذلك بظلاله على ملفات جيوسياسية في شمال أفريقيا وحتى في الشرق الأوسط؟

وتتجه الجزائر إلى توثيق تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة الأميركية بإبرام مذكرة تعاون وقع عليها في العاصمة الجزائرية الجنرال لانغلي والوزير المنتدب للدفاع الوطني في الجزائر وقائد أركان الجيش الجنرال سعيد شنقريحة، ورغم أنه لم تتسرب أي معلومة عن تفاصيل المذكرة غير أن معظم القراءات السياسية تؤكد أنها بالإضافة إلى توالي زيارات المسؤولين في البنتاغون تحمل في سياقها أبعادا سياسية كثيرة وحملت رسائل جزائرية إلى أطراف إقليمية بعينها، في إشارة إلى محور الرباط-باريس فالخط بين البلدان الثلاثة عرف توترا شديدا وبشكل غير مسبوق بعدما اختار ساسة باريس النبش في جراح الذاكرة والإساءة إلى الأمة الجزائرية ومؤسساتها، ويضاف إلى ذلك "الهزة" غير المسبوقة التي شهدتها العلاقات بين الجزائر وجارتها الجنوبية مالي لا سيما بعدما اتهمتها بـ"دعم الجماعات الإرهابية الناشطة على أراضيها" كما أنها وظفت لغة غير مسبوقة إلى حد الحديث عن مسألة "القبائل" في محاولة منها لـ"مناكفة" الجزائر.

ورغم أن زيارة مايكل لانغلي لم تكن الأولى من نوعها بل الثالثة حسبما أوردت سفارة الولايات المتحدة في الجزائر على موقعها، وسبقتها محادثات بين رئيس الأركان الجزائري ومدير المخابرات الأميركية غير أنها تزامنت مع أحداث سياسية وأمنية مهمة يوجزها أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة ورقلة كاهي مبروك في ثلاثة أحداث: الأول تحرير الرهينة الإسباني الذي كان في رحلة سياحية، وتم اختطافه بتاريخ 14 يناير/كانون الثاني، بالمنطقة الحدودية الجزائرية-المالية من طرف عصابة مسلحة مكونة من خمسة أفراد. ويحضر ثانيا الحديث عن تزامن الزيارة مع بدء ولاية الرئيس دونالد ترمب، ويمكن ثالثا إضافة تعيين مبعوثة أممية جديدة لليبيا خلفا لعبد الله باتيلي السنغالي الذي شغل المنصب الأممي الأرفع في ليبيا إلى غاية مايو/أيار 2024. وانطلاقا من هذه المعطيات يمكن القول إن الاتفاق العسكري جاء ليدحض الادعاءات التي صدرت من السلطات العسكرية الحاكمة في مالي فبعد إلغائها لاتفاق الجزائر الذي كان يرعى المصالحة بين الفرقاء في البلاد، يبدو أنها وضعت جميع الحركات في سلة واحدة بما فيها الحركات الأزوادية (قبائل كبرى تستوطن شمال مالي) لشرعنة الحرب الضروس التي تشنها عليها بمبرر "الإرهاب".

تعد الولايات المتحدة شريكا أساسيا للجزائر، لاسيما في قطاع الطاقة، الذي يجمعهما فيه تعاون استراتيجي منذ أكثر من 60 عاما

وكان لافتا للعلن خلال مراسم توقيع مذكرة التفاهم للتعاون العسكري، حرص الوزير شنقريحة على توجيه تهنئة للرئيس ترمب محملة بمؤشرات قوية على الرغبة في تعزيز التعاون والتقارب، وتبني الجزائر والولايات المتحدة علاقاتهما على خلفية تاريخية صنعتها مواقف الرئيس جون كينيدي تجاه الثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي (1954-1962) واحتفاء الأميركيين بمؤسس الدولة الجزائرية الحديثة الأمير عبد القادر، والذي تحمل مدينة أميركية اسم "القادر" نسبة إليه، كما توثقت العلاقات الأمنية على مستوى الاستخبارات والتكوين والتدريب في فترة العشرية السوداء بالبلاد وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001.

الشؤون العامة للقيادة الأميركية في أفريقيا
الجنرال مايكل لانجلي، قائد القيادة الأميركية في أفريقيا، في زيارة ثالثة للجزائر في 22 يناير 2025، حيث وقع مذكرة تفاهم للتعاون العسكري

وأكد السفير الجزائري في واشنطن، صبري بوقادوم، "رغبة الجزائر في تعزيز التعاون العسكري والأمني بين البلدين"، وأوضح بوقادوم في حوار صحافي، أن توقيع الجزائر على مذكرة تفاهم مع وزارة الدفاع الأميركية من خلال فرعها الأفريقي (أفريكوم) مؤخرا، سيفتح آفاقا جديدة للتعاون الأمني، مبرزا أن "هذا التعاون قائم بالفعل، خاصة في مجالات البحث والإنقاذ وتبادل المعلومات الاستخباراتية، إلى جانب التنسيق بشأن الأمن في منطقة الساحل".

كما أكد السفير أن العلاقات الاقتصادية بين البلدين تشهد تطورا مستمرا، حيث تعد الولايات المتحدة شريكا أساسيا للجزائر، لاسيما في قطاع الطاقة، الذي يجمعهما فيه تعاون استراتيجي منذ أكثر من 60 عاما، مشيرا إلى أن "الاستثمارات الأميركية في الجزائر تتوسع حاليا لتشمل قطاعات أخرى، مثل الزراعة والطاقة المتجددة، مما يعكس اهتماما متزايدا بالسوق الجزائرية".

دوافع التقارب

وبرأي الدكتور مبروك كاهي، فإن المعلن من الزيارة أيضا تعزيز التعاون الأمني حتى مع وصول دونالد ترمب إلى سدة الحكم في البلاد وإسقاط جميع القراءات التي أثيرت مباشرة بعد تعيينه وزير خارجية (ماركو روبيو) من الداعين لفرض عقوبات على الجزائر بسبب مقتنياتها من السلاح الروسي، ويرى كاهي أن "الزيارة، في ما هو غير معلن، تشكل ضربة موجعة لفرنسا التي كانت تعتبر نفسها وصية على أفريقيا ولا أمن دونها، في وقت تعتبر واشنطن الجزائر شريكا فعالا في محاربة الإرهاب وتعزيز الاستقرار الإقليمي في المنطقة".

يرى محللون أن مذكرة التعاون العسكري بين واشنطن والجزائر تحمل في طياتها مؤشرات إيجابية. ويمكن قراءتها في سياق التوترات الأخيرة في العلاقات الفرنسية الجزائرية

وقد اتضحت هذه الرؤية في التصريحات التي أدلى بها الجنرال لانغلي في أعقاب لقائه بالقادة الجزائريين، إذ لفت إلى أن "الجزائر وأميركا تتقاسمان الاهتمامات ذاتها بخصوص الاستقرار والأمن في المنطقة وأنهما ستزدهران وستواصلان سويا حماية وسلامة الشعوب"، والأهم في تصريحات لانغلي وصفه لـ"الجزائر بالبلد الرائد (leadership) في المنطقة" وأن "كل الدول الأخرى ستستفيد من هذه الريادة".

ويرى أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية فيلالي عبد السلام أن "قراءة مضمون التصريحات، تعكس الأهمية الكبرى والحاسمة في تطور العلاقات بين البلدين".

كما يرى محللون أن مذكرة التعاون العسكري بين البلدين تحمل في طياتها مؤشرات إيجابية ويمكن قراءتها في سياق التوترات الأخيرة في العلاقات الفرنسية الجزائرية. وقبل فرنسا دخلت علاقات الجزائر مع إسبانيا في أزمة أيضا بسبب ملف الصحراء وتأييد حكومة بيدرو سانشيز لمقترح المغرب بإقامة حكم ذاتي موسع في الصحراء.

ويقول عبد السلام فيلالي إن "التقارب الجزائري الأميركي يمكن وصفه بالأمر الإيجابي لا سيما بالنظر إلى ما آلت إليه العلاقات ليس مع محور باريس-الرباط الذي طور خطابا معاديا جدا ضد البلاد، فالاتفاق المبرم بين قيادة (أفريكوم) الأفريقية ووزارة الدفاع الجزائرية يعتبر إقرارا صريحا بدور الجزائر، فهي دولة محورية وجيواستراتيجية في منطقة شمال أفريقيا والساحل الأفريقي الذي صنفته الخارجية الأميركية في تقرير الإرهاب السنوي كمصدر لأحد أكبر المخاطر الأمنية في العالم بسبب تمركز جماعات إرهابية خطيرة ونشاط شبكات تهريب السلاح والبشر، وهي جميعها تشكل تحديات أمنية وخطيرة لا سيما في سياق صراع جيوسياسي شرس بين الغرب وروسيا والصين على النفوذ في القارة السمراء".

أ.ف.ب
الرئيس دونالد ترمب ووزير الخارجية ماركو روبيو خلال اجتماع لمجلس الوزراء في البيت الأبيض في 26 فبراير

ويميل المحلل السياسي أحسن خلاص إلى قراءة سياسية مفادها أن "تطوير التعاون الأمني والعسكري بين الجزائر وأميركا قد انتقل من مستوى التشاور إلى مستوى وضع إطار دائم لا يخضع للتقلبات والهزات غير المسبوقة التي عصفت بها. وهنا يمكن الإشارة إلى قرار إدارة الرئيس ترمب سنة 2020 القاضي بالاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء".

بعد انتخاب ترمب لولاية رئاسية ثانية، وجه له الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون رسالة ذكّر فيها "بعمق علاقات الصداقة التاريخية التي تجمع الجزائر والولايات المتحدة الأميركية"

ومن الناحية الدبلوماسية، يقول المتحدث في إفادة لـ"المجلة" إن "هذه الخطوة تحمل قراءات مستجدة وتفعيل حقيقة شعار رفض الجزائر للتخندق والاستقطاب وهي تريد تجسيد مبدأ الحياد الإيجابي، واللافت أنها انتقلت من المقاربة بالمواقع إلى المقاربة بالمواضيع والتعزيز من شراكاتها الاستراتيجية مع مختلف الفاعلين، فمثلا لوحظ في الفترة الأخيرة أن العلاقات الجزائرية-الإيطالية تشهد حركية متميزة ونسقا مدعوما للتعاون المشترك في مختلف القطاعات لا سيما في مجالي الغاز والنفط عبر مشاريع جديدة للهيدروجين الأخضر، ليشمل ألمانيا التي سعت هي الأخرى لتعزيز التعاون الطاقوي مع الجزائر".

وبعد انتخاب ترمب لولاية رئاسية ثانية، وجه له الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون رسالة ذكّر فيها "بعمق علاقات الصداقة التاريخية التي تجمع الجزائر والولايات المتحدة الأميركية"، مشيدا بـ"الديناميكية الإيجابية التي تشهدها الشراكة الثنائية في شتى المجالات"، ومعربا في الوقت نفسه عن عزمه على "العمل معكم من أجل ترقيتها إلى آفاق أرحب، بما يخدم مصالح البلدين المشتركة".

أ.ف.ب
رئيس أركان الجيش الجزائري سعيد شنقريحة ووزير الجيوش الفرنسي سيباستيان لوكورنو خلال الزيارة الرسمية لشنقريحة إلى وزارة القوات المسلحة في باريس في 24 يناير

وأضاف الرئيس الجزائري: "لا يفوتني، في هذا المقام، أن أنوه بجهودنا الثنائية في المحافل الدولية وبحرصنا الدائم على تكثيف التشاور والتنسيق حول القضايا ذات الاهتمام المشترك، والمرافعة لصالح المبادرات الساعية إلى الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، باعتبار بلدي عضوا غير دائم في مجلس الأمن الأممي".

font change