"حروب القمح" تشتعل بين روسيا وفرنسا في شمال أفريقيا

موسكو تسيطر على أسواق كانت حكرا على باريس قبل سنوات قليلة

.أ.ف.ب
.أ.ف.ب
تراجع صادرات القمح الروسية وسط استمرار العقوبات الغربية

"حروب القمح" تشتعل بين روسيا وفرنسا في شمال أفريقيا

تخوض روسيا وفرنسا حربا غير معلنة حول تجارة القمح داخل أسواق أفريقيا والشرق الأوسط، لتزويد نحو 12 دولة تعاني من شح في الإنتاج الزراعي بسبب التغيرات المناخية. وتعتبر منطقة شمال أفريقيا الأكثر طلبا للقمح العالمي، بسبب تزايد الطلب المحلي والعادات الغذائية. وتستورد هذه المنطقة سنويا نحو 30 مليون طن من القمح (حسب المواسم)، مما يجعلها الأكثر إستهلاكا للخبز والرغيف عالميا بمعدل 280 كيلوغراما سنويا لكل فرد.

تحتل مصر المرتبة الأولى في واردات القمح الروسي من حيث الكمية، تتبعها الجزائر ثم المغرب وتونس وليبيا. وكانت صادرات القمح الروسية بلغت العام المنصرم 51 مليون طن من إنتاج إجمالي قُدّر بـ93 مليون طن. لكن الإنتاج المرتقب لن يتجاوز 83 مليون طن هذا الموسم.

روسيا تنتزع مكانة فرنسا لتوريد القمح

على مدى عقود طويلة، كانت فرنسا تُعتبر مزود القمح الرئيس لدول شمال أفريقيا، لاعتبارات تاريخية واقتصادية. لكن هذه الوضعية تغيرت في السنوات الأخيرة، بعد توسع النفوذ الروسي في مجال توريد القمح إلى جميع دول الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، من مصر إلى المغرب، نزولا إلى منطقة الساحل جنوب الصحراء الكبرى التي غادرتها القوات العسكرية الأوروبية.

تستغل روسيا تنامي الطلب المغاربي على القمح بسبب الظروف المناخية لتطوير تجارتها مع جنوب البحر الأبيض المتوسط، والقفز على العقوبات الاقتصادية الغربية 

وغدت موسكو تسيطر على أسواق كانت حكرا على باريس قبل سنوات قليلة. وتستخدم روسيا كل ديبلوماسيتها التجارية والناعمة لتعويض جزء من الخسائر التي تسببت فيها العقوبات الغربية بعد غزوها أوكرانيا. وتعتبر روسيا شمال أفريقيا منطقة استراتيجية، بعد اندحارها في الشرق الاوسط، عقب سقوط نظام الأسد في سوريا، وخسارة فرق الممانعة التابعة لإيران.

 تعويض خسائر روسيا وفك الحصار المالي

تستغل روسيا تنامي الطلب المغاربي على القمح بسبب الظروف المناخية لتطوير تجارتها مع جنوب البحر الأبيض المتوسط، والقفز على العقوبات الاقتصادية الغربية التي تمنعها من تصدير الطاقة والمواد الزراعية إلى داخل الأسواق الأوروبية. وتقوم الشراكة الجديدة غير المعلنة بتجاوز التحديات المناخية وأزمة القمح وتمكين موسكو من كسر قيود الحصار الاقتصادي المالي والتجاري.

.أ.ف.ب
إفراغ محصول حقول القمح في المزارع الأوكرانية، على بعد مئة كيلومتر من العاصمة كييف، 20 يوليو 2024

وقد مكنت هذه السياسة التجارية التي تغض الطرف عنها دول في شمال البحر الأبيض المتوسط من تركيا إلى إسبانيا، من تصدير النفط والغاز المسال عبر أطراف ثالثة، وأيضا الانتقال إلى القارة الأميركية عبر الأجواء والمطارات المغربية. وترغب روسيا في إزاحة فرنسا من سوق المغرب، على غرار ما فعلت في مصر والجزائر من قبل.

التغيرات المناخية سيف ذو حدين

تلعب التغيرات المناخية أدوارا في الاتجاهين: تراجع في الانتاج المحلي وزيادة في الطلب الخارجي، مما يجعل موسكو غير قادرة على الوفاء بالتزاماتها مع الدول العربية، بسبب عوامل مناخية وظروف الحرب غير الملائمة للإنتاج الزراعي في عدد من مناطق الصراع. وتقدر سوق القمح في العالم بنحو 74 مليار دولار، وكانت روسيا تحصل على حصة الأسد منها داخل أسواق 12 دولة، وهي بحسب ترتيب الاستيراد: مصر 11 مليون طن، الجزائر 8,5 ملايين طن، تركيا 7,2 ملايين طن، إيران 5,6 ملايين طن، السعودية 4,6 ملايين طن، بنغلاديش 3,9 ملايين طن، المغرب 1,2 مليون طن، تونس 1,1 مليون طن، إضافة إلى حصص أخرى لنيجيريا وكينيا والسنغال وموريتانيا ومالي وغيرها.

ستعاني 15 دولة من تبعية تزود الحبوب الرئيسة، بعد تسجيل معدلات إنتاج ضعيفة بسبب التغيرات المناخية، وتحتاج هذه الدول إلى توريد 70% من حاجاتها المحلية بالاعتماد على الأسواق الخارجية

تقرير لمنظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (UNCTAD)

وقدرت منظمة الأغذية والزراعة في روما حجم الإنتاج العالمي خلال موسم 2024-2025 بنحو 793 مليون طن، لكن المخزون قد يتراجع 3,2 في المئة لتغطية حاجيات السوق العالمية، ليصل إلى 805 مليون طن خلال الموسم الزراعي 2025-2026، مما قد يشكل ضغطا على الطلب قياسا للعرض، ويدفع بالأسعار نحو الارتفاع نهاية السنة الجارية، بسبب ضعف المخزون العالمي من القمح.

Shutterstock
تصاعد المنافسة بين روسيا وفرنسا على تصدير القمح إلى القارة الأفريقية

وكشف تقرير لمنظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (UNCTAD) "أن 15 دولة ستعاني من تبعية تزود الحبوب الرئيسة، بعد تسجيل معدلات إنتاج ضعيفة بسبب التغيرات المناخية، وتحتاج هذه الدول إلى توريد 70 في المئة من حاجياتها المحلية بالاعتماد على الأسواق الخارجية". وعلى الرغم من أن هذه الدراسات لا تحظى بتغطية إعلامية كافية، فإن الخبراء "يحذرون من حدوث أزمة غذائية حادة ومجاعات في عدد من مناطق النزاع أو تلك التي تعاني من التغير المناخي الشديد".

تراجع صادرات القمح

تتوقع روسيا أن تنخفض صادراتها من القمح 31 في المئة، بتراجع قد يصل إلى 23 مليون طن من القمح خلال النصف الأول من السنة الجارية. وتواجه روسيا التي تعتبر أكبر مصدّر للقمح اللين في العالم، طلبا عالميا متزايدا في ظل نقص المعروض. وأعلنت أنها سوف تقلص حصة تصدير القمح 63 في المئة في النصف الثاني من موسم التصدير. ويمثل هذا الرقم انخفاضا عن الحصة الروسية البالغة 11 مليون طن، خلال هذه الفترة الشتوية والربيعية من السنة، وفق الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، وهو إتحاد تجاري يضم روسيا وأربع دول أخرى من جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابقة. وعزت تلك المصادر تراجع الإنتاج والتصدير إلى ظروف مناخية ولوجستية غير مواتية. كما قررت أوكرانيا تقليص صادراتها من القمح بنصف مليون طن خلال الفترة نفسها.

وخلال الموسم الماضي 2023-2024، صدرت روسيا 51 مليون طن من القمح اللين، وصدر الاتحاد الأوروبي 36 مليون طن، وكندا 24 مليون طن، وأوستراليا 22 مليون طن، والولايات المتحدة 20 مليون طن، وأوكرانيا 12 مليون طن، بحسب موقع "ستاتيستا" الفرنسية.

تعتمد موسكو منذ ثلاث سنوات أسلوب ديبلوماسية القمح كقوة ناعمة بغطاء اقتصادي، لتحسين صورتها لدى دول الجنوب في صراعها مع حلف شمال الأطلسي

لكن هذه الأرقام مرشحة للتراجع في بعض المناطق، دون أن تحدت تبدلا كبيرا في ترتيب الدول المصدرة للقمح في العالم. ومن المحتمل أن تفقد الصادرات الروسية ثلث حصتها، مما قد يتسبب في رفع الأسعار في أسواق أخرى خصوصا الولايات المتحدة وكندا.

ارتفاع محتمل للأسعار الدولية؟

نتيجة لذلك، قد تفقد روسيا موقع الصدارة في أسواق القمح العالمية في النصف الثاني من عام 2025 وفق توقعات "التجمع الروسي للحبوب" الذي يضم 300 منظمة تضطلع بـ90 في المئةمن صادرات القمح للخارج. وقال المصرف المركزي الروسي "إن فقدان الريادة في تجارة القمح العالمية مرده إلى العقوبات الاقتصادية الغربية، وتوقف بعض الدول عن التوريد بضغط من دول أوروبية، وتطبيق حصة تصدير جديدة قد تؤثر في توازن أسواق القمح العالمية".

.أ.ف.ب
إفراغ حصاد حقل القمح في مزرعة في لوممرانج، شمال شرق فرنسا، 10 أغسطس 2024

وتوقع مصرف "سيتي غروب" أن يتراوح سعر القمح من 305 إلى 315 دولارا للطن خلال الربع الأول من السنة الجارية، ومن جهته توقع مصرف "مورغان ستانلي" أن يرتفع السعر إلى 325 دولارا في نهاية 2025، بسبب تراجع الإمدادات من روسيا وأوكرانيا ودول في الاتحاد الأوروبي منها فرنسا. ويعتبر المخزون المتوفر من القمح في العالم الأضعف منذ 2015، لكن الأسعار لن تتأثر كثيرا لأن الاقتصاد يمر بفترة ركود وضعف في النمو. وقال وزير الزراعة الروسي أوكسانا لوت "إن صادرات الحبوب ستنخفض نحو الخمس هذا الموسم عن قيمتها السابقة"، وكانت قيمتها بلغت 15,5 مليار دولار خلال موسم 2023.

ديبلوماسية القمح الناعمة

تستخدم موسكو منذ ثلاث سنوات ديبلوماسية القمح كقوة ناعمة بغطاء اقتصادي، لتحسين صورتها لدى دول الجنوب في صراعها مع حلف شمال الأطلسي. وتضغط دول الاتحاد الأوروبي على دول جنوب البحر الأبيض المتوسط وأفريقيا كي تقلص وارداتها المختلفة من روسيا، بما فيها المواد الزراعية، والعسكرية بالنسبة للجزائر

إنتاج القمح لن يتجاوز 27 مليون طن هذا الموسم، بانخفاض 25 في المئة مقارنة بالموسم الماضي. واعتُبر المحصول هو الأقل مستوى منذ عام 1983

وزارة الزراعة الفرنسية

وكانت وزارة الزراعة الروسية قد قررت فرض رسوم التصدير على القمح بمبلغ 40 دولارا لكل طن متري، اعتبارا من 5 فبراير/شباط، لتعويض الخسائر المرتقبة في تجارة الحبوب عامي 2025-2026.

تراجع الحصاد الفرنسي

استغل الاتحاد الأوروبي ضعف الصادرات الروسية خلال هذه الفترة لتقوية حضوره في أسواق القمح العالمية. لكن المنتج الأكبر، وهي فرنسا المصدر التاريخي للقمح إلى شمال أفريقيا والدول العربية، باتت بدورها تعاني من موسم حصاد يعتبر الأسوأ منذ عقود طويلة، بسبب عدم انتظام الأمطار. وكشفت وزارة الزراعة الفرنسية أن إنتاج القمح لن يتجاوز 27 مليون طن هذا الموسم، بانخفاض 25 في المئة مقارنة بالموسم الماضي. واعتُبر المحصول هو الأقل مستوى منذ عام 1983. وعادة تخصص فرنسا 20 في المئة من إنتاجها الزراعي للتصدير لتمويل مشتريات أخرى، خصوصا من الخضر والفواكه. وسجل الميزان التجاري الزراعي فائضا تجاوز 9 مليارات يورو غالبيته مع الدول العربية والأفريقية.

ضياع أسواق شمال أفريقيا

تراجع الإنتاج الزراعي الفرنسي، له أضرار تجارية وجيوسياسية، فهو من جهة يقلص فائض الميزان التجاري الزراعي، ويُخرج فرنسا من أسواق مهمة واستراتيجية، ويفتح الباب (تجاريا) في وجه قوى لم تكن حاضرة قبل سنوات. وقالت وكالة "تاس" الروسية "إن روسيا صدرت للمغرب عام 2024 مواد زراعية بقيمة 280 مليون دولار"، وهي قيمة تضاعفت ثلاث مرات بحسب المركز الروسي للصادرات الزراعية، الذي قال "إن  روسيا أصبحت المصدّر الأول للقمح إلى المغرب، متجاوزة فرنسا لأول مرة". وبحسب المصادر نفسها، "تسيطر روسيا على 30 في المئة من واردات القمح إلى الجزائر بقيمة 850 مليون دولار".

.أ.ف.ب
شحنة من حبوب القمح في سفينة تعد للشحن إلى تركيا، في ميناء مدينة رزتوف الروسية، 26 يوليو 2022

وخلال العام المنصرم استورد المغرب 6,3 ملايين طن من القمح، واشترت الجزائر 8,5 ملايين طن، جله من روسيا. ويقدر استيراد دول المغرب العربي الخمس من القمح بنحو 18 مليون طن، 33 في المئة من روسيا وأوكرانيا، بعد تراجع الحضور الفرنسي في أسواق الحبوب المغاربية.

وأنتج المغرب والجزائر مجتمعين نحو 7 ملايين طن من القمح الموسم الماضي، 3,5 ملايين طن كل بلد تقريبا. لكن الشقيقين العدوين يحتاجان إلى ما بين 50 إلى 70 في المئة من واردات القمح في ظل ظروف مناخية ينتظر أن تزيد الاعتماد الخارجي، وزيادة التبعية الغذائية سواء لفرنسا أو روسيا أو الولايات المتحدة.

font change