"يو إس إيد"... موت سريري بانتظار أن تأتي إدارة ديموقراطية (2/2)

يبدو أن معظم برامج المساعدة التي تديرها ستُلغى

رويترز
رويترز
الرئيس الأميركي دونالد ترمب

"يو إس إيد"... موت سريري بانتظار أن تأتي إدارة ديموقراطية (2/2)

"نحن فقط ننظر في أجزاء في الجهاز البيروقراطي الكبير حيث يوجد الكثير من التبذير والغش وسوء الاستخدام. في هذه العملية، اكتشفنا وأوقفنا صرف خمسين مليون دولار كانت في طور الإرسال لغزة لشراء واقيات ذكورية لـ"حماس"، خمسون مليونا! هل تعرفون ماذا كانوا يفعلون بها؟ استخدموها لصناعة القنابل، ما رأيكم في هذا؟".

بكلماته الناقدة هذه، بدأ الرئيس الأميركي الجديد، في أسبوعه الثاني في البيت الأبيض، هجومه على الـ"يو إس إيد" (الوكالة الأميركية للتنمية الدولية)، المتهمة بتقديم الخمسين مليون دولار المفترضة. سبقت الرئيس إلى إطلاق هذا الادعاء للمرة الأولى الناطقة باسم البيت الأبيض، كارولين ليفت، في مؤتمر صحافي أثار اهتماما كبيرا بسبب المعلومة الصادمة التي قالتها. هذا الادعاء غير المعقول دعمه وروج له كثيرا، إيلون ماسك، رجل الأعمال الثري الذي يُفترض أن المكتب الصغير والغامض الصلاحيات الذي يقوده في البيت الأبيض "قسم الكفاءة الحكومية" هو الذي اكتشف هذا "الهدر" الفادح لأموال دافعي الضرائب.

وبالرغم من انكشاف زيف الادعاء سريعا وإقرار ماسك نفسه بهذا، معترفا بأن "بعض الأشياء التي أقولها لن تكون صحيحة"، كرر ترمب الادعاء، مضاعفا الرقم هذه المرة ليصل إلى 100 مليون دولار. في هذا الصدد، قال الرجل في مؤتمر بفلوريدا أمام جمهور من المستثمرين: "خمسون مليون دولار زائد خمسين مليون دولار أخرى من الواقيات الذكرية لـ(حماس). هل تعلمون بهذا؟ مئة مليون دولار من الواقيات الذكرية لـ(حماس)... هل تعرفون ما هو الواقي الذكري؟ أستطيع أن أقرأ أشياء شبيهة من قائمة طويلة. لكن لا أريد أن أثير مللكم...".

بعدها بأيام كتب ترمب في حسابه عبر منصة "إكس" محاججا أن إنفاق "يو إس إيد" للأموال غير قابل للتبرير مطالبا بإغلاق المؤسسة.

رافق هذه الحملة الدعائية ضد المؤسسة، مجموعة قرارات لتفكيكها، أهمها الأمر الرئاسي الذي وقعه ترمب في يومه الأول بالبيت الأبيض القاضي بتجميد ومراجعة كل برامج المساعدة الخارجية المتعلقة بالتنمية في خلال فترة 90 يوما.

على أساس هذه المراجعة، ستُلغى برامج وتُعدل أخرى وربما يُبقى على بعضها، لضمان أن هذه البرامج، بحسب كلمات الأمر الرئاسي "تتسق تماما مع السياسة الخارجية لرئيس الولايات المتحدة الأميركية". حتى من دون تسمية "يو إس إيد"، كان واضحا أن الأمر الرئاسي يستهدفها بالدرجة الأولى، إذ هو أوقف، بجرة قلم، كل برامجها، التي تتضمن إنفاق أكثر من 40 مليار دولار في عشرات البلدان في مختلف أنحاء العالم.

رغم الدعم التقليدي الذي اعتادت "يو إس إيد" تاريخيا تلقيه من الحزبين الديمقراطي والجمهوري، فإن لليمين المتشدد في "الحزب الجمهوري" الذي يأتي منه ترمب مشاعر سلبية قوية نحو هذه المؤسسة

كان أثر هذا الأمر واضحا في هذه البلدان، إذ فقد مثلا صحافيون في أفغانستان وأوكرانيا وظائفهم بعد انقطاع التمويل الذي توفره "يو إس إيد" لمؤسساتهم، فيما توقفت خدمات صحية كثيرة، خصوصا للنساء في أفريقيا وأميركا اللاتينية، بعد توقف التمويل الأميركي لهذه الخدمات، خصوصا المتعلقة بتوزيع اللقاحات ومكافحة مرض الإيدز في دول أفريقية كثيرة كموزمبيق وكينيا، (تم استئناف بعضها لاحقا باستثنائها من أمر التجميد الرئاسي) فضلا عن توقف المساعدة الإنسانية الأساسية، المرتبطة بالغذاء والدواء، لنازحين وفقراء في السودان واليمن وإثيوبيا. أمنيا، يبدو التأثير الأكبر في المنطقة العربية مرتبطا بمعسكرات احتجاز في شمال شرقي سوريا، كمعسكري الهول وروج، حيث يعيش فيها عشرات الآلاف من المتهمين بالتعاون مع "داعش" مع عوائلهم، كثير منهم من دول غربية ترفض استلامهم.

رويترز
امرأة من الروهينغا تطعم طفلا في مخيم للاجئين في كوكس بازار، بنغلاديش، بمكملات غذائية قدمتها الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، في 11 فبراير

أدى قطع المساعدة الخارجية الأميركية إلى توقف الكثير من خدمات تقديم الغذاء والدواء وإمداد المياه وغيرها في هذه المعسكرات، ما يهدد بإثارة الاضطرابات فيها وزيادة احتمالات شن التنظيم الإرهابي هجمات جديدة على هذه المعسكرات لتحرير المتعاطفين معه فيها. حسب مصادر رسمية أميركية، أنفقت الولايات المتحدة في عام 2024 نحو 460 مليون دولار كمساعدة إنسانية في سوريا. أوقف الأمر الرئاسي هذا الإنفاق وثمة مساع تبذل حاليا للحصول على إعفاءات من الأمر.

نقمة اليمين الأميركي المتشدد

يبدو أن معظم برامج المساعدة التي تديرها "يو إس إيد" ستُلغى في إطار المراجعة الموعودة التي أشار إليها الأمر الرئاسي، إذ اتخذت إدارة ترمب خطوات لإنهاء وجود "يو إس إيد" كمؤسسة مستقلة، ففضلا عن الإعلانات بهذا الصدد، منحت الإدارة موظفي المؤسسة، البالغ عددهم نحو 10 آلاف، إجازات إجبارية، فيما طُلب من ثلثي هذا العدد ممن يعملون خارج الولايات المتحدة العودة. في هذه الأثناء، أُغلق المكتب الرئيس للمؤسسة في واشنطن، وطُلب من العاملين فيها مواصلة عملهم أونلاين من منازلهم. 

ورغم الدعم التقليدي الذي اعتادت "يو إس إيد" تاريخيا تلقيه من الحزبين الديمقراطي والجمهوري في عقود حياتها الستة، لليمين المتشدد في "الحزب الجمهوري" الذي يأتي منه ترمب مشاعر سلبية قوية نحو هذه المؤسسة ترتبط أساسا بالقيم السياسية لهذا اليمين، بعضها أشار إليها الأمر الرئاسي عبر التأكيد الوارد فيه من أن المساعدة الخارجية الأميركية والبيروقراطية التي تديرها "تقف في أحيان كثيرة ضد القيم الأميركية، فهما يساهمان في تقويض السلم العالمي من خلال ترويج أفكار، في بلدان أجنبية، تتناقض على نحو مباشر مع العلاقات المستقرة والمنسجمة بين البلدان وفي داخل هذه البلدان".

الترجمة الفعلية لهذه الإشارة الأيديولوجية هي رفض قيام "يو إس إيد" بدعم برامج الديمقراطية، ودعم التعددية وحقوق الإنسان والمرأة في دول العالم، خصوصا تلك التي تتضمن الدفاع عن التحول الجندري وحماية المثليين، وحق الإجهاض وتحديد النسل، والأنشطة التي تقود إلى نقد أنظمة حليفة للولايات المتحدة على خروقات حقوق الإنسان أو ترويج الديمقراطية فيها.

في اللغة الرسمية التي تستخدمها إدارة ترمب، ثمة تجنب لجمل الغلق الصريحة والمباشرة القادمة من ترمب وماسك. بدلا من ذلك، يجري الحديث عن إعادة تنظيم "يو إس إيد" باسم الكفاءة الإدارية

ويعتبر اليمين المتشدد الأميركي، خصوصا المسيحي الإنجيلي منه، أن مثل هذه البرامج تمثل أجندة ليبرالية مريبة تقوض معنى العائلة وتناهض الدين وتسبب مشاكل لا داعي لها لأميركا مع حلفائها وأصدقائها حول العالم. ثم هناك سوء الفهم العميق الذي تغذيه وسائل الإعلام المرتبطة بهذا اليمين بخصوص التكلفة المالية الهائلة المفترضة التي تتحملها الولايات المتحدة في مساعدة البلدان الأخرى. فحسب استطلاعات للرأي، تعتقد أغلبية ساحقة من الأميركيين (نحو 85 في المئة بحسب استطلاع للرأي في عام 2023)،  خصوصا من جمهور اليمين، أن أميركا تنفق نسبة كبيرة من ميزانيتها الاتحادية، بين 25 و30 في المئة سنويا، على المساعدة الخارجية، فيما الحقيقة أنها تنفق أقل من واحد في المئة من هذه الميزانية على المساعدة الخارجية.

أ.ف.ب
امرأة تحمل لافتة تدعم الوكالة الأمركية للتنمية الدولية خلال تظاهرة ضد سياسة ترمب بالقرب من مبنى مجلس ولاية ماساتشوستس، في 17 فبراير

والأكثر من هذا أن الولايات المتحدة تُعد الدولة الأقل انفاقا بين الدول الغنية، كنسبة مئوية من ميزانيتها العامة، على المساعدة الخارجية، فعلى سبيل المثال تُخصص كندا وألمانيا وبريطانيا وفرنسا والسويد والنرويج وغيرها، نسبا أعلى من النسبة الأميركية، في ميزانياتها العامة، للإنفاق على المساعدة الخارجية. لسوء الحظ، يرسخ الرئيس ترمب، عبر الكثير من تصريحاته المغلوطة لجهة المعلومات، سوءَ الفهم هذا، فهو يؤكد على نحو مستمر الانطباعَ المزيف من أن أميركا تنفق بسخاء على دول العالم من دون مقابل من هذه الدول التي غالبا ما ترد على هذا الإنفاق الأميركي السخي بنكران جميل وقح يقوم على سهولة استغفال أميركا واستغلالها!! أحد الأمثلة الأخيرة على هذا التزييف، إضافة إلى قصة الواقيات الذكرية التي يُفترض أنها تذهب إلى غزة، هو ادعاؤه أن أميركا صرفت 350 مليار دولار لمساعدة أوكرانيا!! 

مع ذلك، تركز الإدارة في خطابها العام بخصوص ضرورة تفكيك "يو إس إيد" على أسباب مالية وإدارية، أكثر من الأسباب الأيديولوجية، من خلال وصف مشاريع هذه المؤسسة على أنها تمثل هدرا كبيرا في المال ويتضمن بعضها حالات فساد.

ما مستقبل "يو إس إيد"؟ 

في اللغة الرسمية التي تستخدمها الإدارة، ثمة تجنب لجمل الغلق الصريحة والمباشرة القادمة من ترمب وماسك. بدلا من ذلك، يجري الحديث عن إعادة تنظيم باسم الكفاءة الإدارية (ينبغي أن تنتهي إعادة التنظيم هذه في أبريل/نيسان). ففي رسالة وزير الخارجية ماركو روبيو الذي عينه ترمب مديرا مؤقتا بالوكالة لـ"يو إس إيد"، إلى الكونغرس، ذكر الرجل أن وزارته "والكيانات الأخرى ذات الصلة ستتشاور مع الكونغرس واللجان ذات العلاقة فيه لإعادة ترتيب واستيعاب مكاتب وإرساليات وفروع محددة من "يو إس إيد" لغرض دمجها بوزارة الخارجية "فيما تُلغى بقية الوكالة بالانسجام مع القوانين ذات الصلة". ليس واضحا كيف سيكون الشكل النهائي لـ"يو إس إيد" في ظل دمجها بوزارة الخارجية وإلغاء هويتها الخاصة والمستقلة، لكن عموما إدارة ترمب غير مهتمة بالأنشطة الحقوقية التي كانت تمارسها الوكالة في أنحاء العالم المختلفة، كدعم حرية الصحافة وحقوق الإنسان والشفافية الحكومية وتمكين المرأة والجماعات المُهمشة، فضلا عن الكثير من الأنشطة الإنسانية كما في تمويل المؤسسة برامج إزالة الألغام ومخلفات الحروب في بعض البلدان. اهتمام الإدارة الأساسي هو توجيه أنشطة ما تبقى من "يو إس إيد" بإزاء الصين لعرض نموذج اقتصادي يُقوض مثلا مبادرة الحزام والطريق الصينية المنتشرة في عدة قارات.

عاصفة ترمب قوية ينحني الكثيرون أمامها، لكنها في آخر المطاف، ككل العواصف، مؤقتة

وفي ظل غياب الاستعداد الحالي لمشرعين جمهوريين في الكونغرس للتحالف مع نظرائهم من المشرعين الديمقراطيين المعارضين لتفكيك "يو إس إيد" سيكون، على الأكثر، بمقدور ترمب إنهاء هذه الوكالة الفيدرالية، خصوصا لأن تأسيسها جاء على أساس أمر رئاسي في الستينات، وليس قانونا من الكونغرس. يستطيع الكونغرس إفشال جهود ترمب لإنهاء الوجود المؤسساتي المستقل لـ"يو إس إيد" من خلال تشريع قانون ما بهذا الصدد، لكن مثل هذا الاحتمال مستبعد، في ظل الأغلبية الحالية التي يتمتع بها الجمهوريون في الكونغرس ورفضهم معارضة ترمب في موضوع "يو إس إيد". أيضا، ليس واضحا إذا كانت المحاكم تستطيع إيقاف تفكيك الوكالة، فالمؤشرات الحالية لا توحي بذلك الآن.    

مع ذلك من الصعب أيضا تصور أن "يو إس إيد" ستلقى موتا أبديا على يدي ترمب وماسك، فعلى الأغلب ستعيدها للحياة أي إدارة ديمقراطية مقبلة، خصوصا أن هذه الوكالة تحظى تقليديا بدعم الحزبين وثمة إجماع سياسي، خارج معظم اليمين المتشدد الذي يأتي من ترمب، على أهميتها وفائدتها في دعم مصالح الأمن القومي الأميركي. إلى وقت قريب، كان هذا الإجماع يتضمن حتى وزير الخارجية الحالي، روبيو، الذي كان يدعم، كعضو سابق في مجلس الشيوخ، هذه الوكالة قبل أن تُعهد له بمهمة الإشراف على تفكيكها.

عاصفة ترمب قوية ينحني الكثيرون أمامها، لكنها في آخر المطاف، ككل العواصف، مؤقتة. في هذه الاثناء، سيحرص معارضو الإدارة الحالية على حساب الخسائر التي تتسبب بها هذه العاصفة في موسم شدتها الطويل نسبياً، استعداداً لجولة مواجهة مقبلة.

font change