"كيمياء الجوع"... عن أبعاد الصيام الروحية والشعرية

عندما تتسامى الروح يحلق الخيال

Shutterstock
Shutterstock
طفل أو رجل مسلم يصلي مع المصحف الشريف في مسجد

"كيمياء الجوع"... عن أبعاد الصيام الروحية والشعرية

تطلق الباحثة الألمانية آنا ماري شيمل مصطلح "كيمياء الجوع" على مفهوم الصيام، ذلك عندما تتبنى النظرة الروحانية بإملاءات المتصوفة ومفهومهم له. فالصيام ممارسة ليس من أهدافها الجوع والظمأ كمعاناة وتهذيب للنفس، بل هو خلو جوف الإنسان من أي وجود مادي دنيوي، وهذا ما يساعد في تحرير الروح من انشدادها المادي.

وتستشهد شيمل بمقولة لجلال الدين الرومي: "وهل يمكن لقصبة الناي أن تغني لو امتلأ بطنها بالطعام؟". وفيما توصلت إليه الباحثة أيضا، يصبح الصيام "بيئة افتراضية في رحابها تتبرعم الروح في منطقة وسطى، بين العبودية لله والسلوك الرقيق الذي ليس له أدنى قيمة أمام الهيمنة الإلهية المطلقة، وبين تشدق النفس وانتفاخ أوداجها بأن تدعي أنها صورة مصغرة عن الله تنعكس فيها صورته الكاملة".

أما العرفاني حيدر آملي، فهو يمثل فائدة الصيام الروحية بالشجرة ذات الأغصان العشرة، التي عندما نقطع تسعة منها يذهب الغذاء إلى الغصن المتبقي "فينمو بذلك ويكبر وتكون ثمرته أحلى وألطف وأحسن، وكذلك النفس الإنسانية مع أغصانها العشرة التي هي الحواس، فإن الإنسان لو قطع أغصانها التسعة عن نفسه بقطع تعلقاته عن العالم، فإن الغصن الباقي (الروح) تكون ثمرته الفكرية أعلى وأعظم وألطف وأشرف".

اتساع المعنى

في الشعر، يتسع المعنى ولا يضيق على مجرد الارتفاع بالروح عن المتع الحسية، إلى تجريد رمضان من طبيعة الأيام وتقويم الزمن. إنه عرس الروح ونشوتها بعد اقتران القمر بكوكب الجنة. فعندما تشف الروح وتتسامى، يتخذ التعبير عن تلك التجربة الوجدانية شكل الغنائية الشعرية أو التراتيل وهو ما يحتمله الشعر العمودي وحده، باعتباره القالب الإبداعي المناسب في هذه الحالة.

في الشعر، يتسع المعنى ولا يضيق على مجرد الارتفاع بالروح عن المتع الحسية، إلى تجريد رمضان من طبيعة الأيام وتقويم الزمن

الشاعر هاني الملحم في نصه "رمضان مهلا"، لا يرى في رمضان دورة فلكية نلج في أيامها، بل هي الأرواح من تزحف وترتحل إليه شغفا به:

إني أتيتك كي تكون لأحرفي

قنديل حبر في رؤى الكلمات
 

إني أتيتك راجيا يهفــــو إلى

فيض من الغفران والرحمات
 

وكأن الروح في خفتها تسبقنا الخطى، وتلتقي به في عالم "مثالي" يتعالى على كوننا المادي هذا، ثم يحضران معا - رمضان والروح - بوعد أيام الطهر والنور:

وأطير نحــــو النجم أخطـب وده

لينير دربــي في دجـى الفلــوات
 

في روضة الأحساء مهد قصيدتي

وبها ربيع طفولتي ورفاتي
 

من خصائص القصائد الرمضانية أيضا، أنها تتوحد في معناها وإشاراتها، كأن رمضان قاد الشعراء الى بعض معانيه وتجلياته، فنطقوا بلسانه.

Wikipedia
قبر آنا ماري شيمل ووالدتها، يحمل اقتباسا عن علي بن أبي طالب: "الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا"

ففي نصين للشاعرتين إيمان الحمد "قبس من رمضان"، ونورة النمر "قطرة من غمام الصوم"، نلحظ أن عتبتي نصيهما تشابهتا حد تطابق المعنى الموحى به، حيث "قبس" إيمان تقابله "قطرة" نورة. وليس هذا فحسب، إنما تتناظر الرموز الدالة على الشهر والأدوات التعبيرية أيضا، مثل:  "كأس حبر - خيط الحروف"، "ويرتعش الهلال - في الدنيا هلال" ، "القناديل – فوانيس".

عند هذا الحد من الفكرة، يجب علينا أن نتريث ولا نمضي أبعد من ذلك حتى لا نقع في براثن "النقد الثقافي" وغواية "النسق" التي يمكنها أن تسلب فردانية الذات المبدعة في التعبير والرؤية. لهذا سنقارب كل نص على حدة بقراءة انطباعية تقودها جمالية النصوص المعروضة أمامنا، ومع تأكيد أن منظور المعالجة الشعرية والتناول، هو في غاية الاختلاف والتفرد بين النصين.

كأنما رمضان وحده هو الحالة الشعرية للحياة، بينما بقية الأيام تصبح نثرها

نص الشاعرة إيمان عند استحضاره معنى رمضان، تنطلق فيه من خلال اللغة باستعاراتها، فكأنما رمضان وحده هو الحالة الشعرية للحياة، بينما بقية الأيام تصبح نثرها. وتتفق الشاعرة في هذا المفهوم مع إدغار موران في فلسفته عن "الثنائية القطبية القصوى" التي يصف فيها الحياة بالنثر متى ما كانت مليئة بالانشغالات والروتين، وشعرية عندما يحظى الفرد بـ"متعة العيش". إيمان تعبر عن ذلك بقولها:

لئن يغفو المدى في كأس حبر

ويرتعش الهلال كومض شعر
 

أتيه بعتمة الأفلاك حتى

أراك، أراك، في قسمات شهر

AFP
تجار يعرضون فوانيس رمضان التقليدية في سوق

فكما الانفعال الشعري، يثير رمضان كوامن الشعور ويظهرها على شكل عواطف رققها الوجد، وتمظهرت على شكل حسي، دموع منهمرة لتصلها بحالة من الطهر والنقاء:

ويجري الدمع شلالا شرودا

أيلمس أنهر الجنات نهري؟
 

وفي حالة متفردة من معنى رمضان الذي تستثار ذكراه دوما عند قراءة القرآن، مما يحدث انفعالا شاعريا يأخذ بالمشاعر ناحية راحتها. تقول الشاعرة إيمان:

ذكرتك والقناديل استراحت

ودار العشق مشتعلا بقطري
 

فهل يغفو المدى في كأس حبر

وأنت تضيء بالقرآن سطري؟
 

فما تستبطنه النفس في النهاية هو مقدار شعورها بالظفر من غاية الصوم الذي يكون قطافه من بداية الشهر وليس انتظارا إلى نهايته:

وهذي روحي العطشى فأي

انهمارات الهدى انسكبت بصدري

AFP
بائع مكسرات ينتظر الزبائن في متجره

أما نص الشاعرة نورة النمر فهو يتناول الشهر الكريم من خلال مفهوم "الارتباط الشرطي" كما جاء في نظرية العالم الروسي إيفان بافلوف، حيث أن رمضان يعمل بمثابة "المثير" الطبيعي لاستنهاض المشاعر الروحية وتحريكها في اتجاه الطهر والقداسة:

إذا ما هل في الدنيا هلال

لشهر الله ذبنا فيه عشقا
 

وعلقنا فوانيس الأماني

على باب أحق بأنْ يدقا
 

الشاعرة من جهة أخرى، وقبل بزوغ هلاله، كانت تستشعر الروح وكأنها مأسورة ومشدودة بأوتاد إلى عالم مغرق في ماديته، مقابل ما تستشرفه بترحل الروح وانطلاقها نحو السمو والرفعة:

إلى رمضان كم تقنا انتظارا

لنعرج في براق الطهر عتقا

عندما يتمثل الشاعر رمضان كموضوع للقصيدة الذاتية، لا يمكن أن يستحضره إلا عن تجربة روحية حقيقية، يكشف عنها ويشارك الاخرون بنتيجتها

وفي ختام قصيدتها، تنهيها الشاعرة نورة باعتذارية، كون اللغة غير مأمونة على نقل تمام المشاعر والعواطف الروحية، وإلا فالمشاعر هي أكبر من قدرة اللغة على التعبير عنها. فبإزاء جموح المشاعر الروحية وتزاحمها، تضيق عبارات الوصف والتبليغ:

وكم خاب الكلام إذ ارتبكنا

ولم نقدر لحاء الحمد نطقا
 

سوى خيط الحروف به نوفي

تفاصيل الهوى فتقا ورتقا

Shutterstock
فانوس عربي مزخرف

 تجربة روحية

نستشف من خلال هذين المثالين، أن رمضان وعندما يتمثله الشاعر كموضوع للقصيدة الذاتية، لا يمكن أن يستحضره إلا عن تجربة روحية حقيقية، يكشف عنها ويشارك الاخرون بنتيجتها. تكون هي موضوع القصيدة وتتوارى بقية معاني رمضان الأخلاقية والحصول على المثوبة إلى خلف المشهد.

على هذا المعنى، تقول الناقدة إليزابيث درو، إن أروع الشعر الديني، ذلك الذي لا يعظ أبدا، وإنما ينقل ما يحس به الشاعر، وما يعتقده بصدق ويقين. وقريب منه رؤية ت. س. إليوت في تعليقه على رداءة بعض الأشعار الدينية، ويرجعه إلى أن الذين يكتبون ذلك النوع من الشعر الديني، إنما "يكتبون عما كانوا يودون أن يحسوا به لا عما يحسون".

بهذا، نجزم أن الخيال الشعري الذي ينقل التجربة الحقيقية المعيشة، يكون محلقا، باذخ الرؤى والجمال، وعكس ما يظنه الشاعر صموئيل جونسون بأن "الدين يقص أجنحة خيال الشاعر".

font change

مقالات ذات صلة