الاحترار العالمي... والسخونة الدولية

حدث تراجع في جهود احتواء الأزمات وحل الصراعات الدولية

الاحترار العالمي... والسخونة الدولية

بدا العالم في الأعوام الثلاثة الأخيرة كما لو أنه يشهد سباقا بين ارتفاع درجات الحرارة الطبيعية في العالم وازدياد معدلات سخونة العلاقات الدولية. ودخلت جهود مواجهة الاحترار الناتج من الانبعاثات الغازية وغيرها من الأنشطة البشرية المُلوثة للبيئة، مرحلة أكثر تقدما خلال مؤتمري شرم الشيخ ودبي للأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ (كوب-27. وكوب-28، على التوالي) في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، ونوفمبر 2023. واستمر هذا التقدم بدرجة أقل في "كوب-29" الذي استضافته باكو في أذربيجان في نوفمبر 2024.

لكن بالتوازي مع ذلك، حدث تراجع في جهود احتواء الأزمات وحل الصراعات الدولية وإنهاء الحروب في العالم. فقد استمرت حرب أوكرانيا التي اندلعت في فبراير/شباط 2022 وحملت في طياتها خطر توسعها سواء في أوروبا أو في العالم، ونشبت حرب غزة إثر هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 على إسرائيل، منذرة بحدوث حرب إقليمية في الشرق الأوسط.

ولهذا بات الاحترار العالمي أو ارتفاع درجة حرارة الكوكب إلى مستوى خطير، والسخونة الدولية أو ارتفاع درجة حرارة الصراعات الدولية والإقليمية، والداخلية أيضا في بعض الدول، أكثر ما يؤرق البشرية عام 2025. وفي الوقت الذي ينبعث أمل في خفض معدلات السخونة الدولية، لا يخفى وجود قلق من احتمال ازدياد الاحترار العالمي وتراجع جهود مكافحته.

فقد تحدث الرئيس الأميركي دونالد ترمب مرات عن التزامه بحل الصراعات الدولية وإنهاء حربي غزة وأوكرانيا، وبشر في خطاب تنصيبه بأنه سيكون صانع سلام. وبدأت ولايته الثانية فعلا بوقف القتال في غزة عبر اتفاق أصر على أن يُعقد قبيل دخوله البيت الأبيض. وطرح تصورا ما زال يثير جدلا بشأن حل مشكلة غزة، مع إعلان انفتاحه في الوقت نفسه على حلول وخطط عربية.

كما بادر بالاتصال بالرئيس الروسي بوتين والأوكراني زيلينسكي، وأخذ خطوة سريعة إلى الأمام عبر الاتفاق مع موسكو على عقد محادثات لإصلاح العلاقات الثنائية وبحث سبل وقف حرب أوكرانيا. وبدت الجولة الأولى في هذه المحادثات، التي استضافتها الرياض في 18 فبراير/شباط، واعدة ومبشرة بمرحلة جديدة في العلاقات الأميركية-الروسية، وبوضع أسس لمفاوضات تقود إلى وقف حرب أوكرانيا.

لا بد من انتظار كيف سيؤثر انسحاب الدولة الأكبر في العالم من اتفاقية 2015 على جهود مكافحة الاحترار العالمي، وهو ما قد يبدأ في الظهور في "كوب 30" الذي سيُعقد في مدينة بيليم البرازيلية آخر العام الجاري

لكن الرئيس الأميركي، الذي يتحرك منذ اليوم الأول في اتجاه تخفيف السخونة الدولية، يتصرف بشكل مختلف تجاه الاحترار العالمي. فقد قرر وقف مشاركة الولايات المتحدة في اتفاقية باريس لعام 2015 بشأن التخفيف من آثار التغير المناخي، الأمر الذي يثير شيئا من القلق حول مستقبل جهود مكافحة هذا التغير بالنظر إلى دور واشنطن المركزي في عالمنا. غير أن هذا القرار ليس الأول، إذ اتخذ ترمب خلال ولايته الأولى قرارا مشابها. ولكن ما لا يعرفه كُثُر أن ذلك القرار ظل نظريا. فقد أُصدر في أول يونيو/حزيران 2017، ولكنه لم يدخل حيز التنفيذ إلا في 4 نوفمبر 2020 أي في اليوم التالي للانتخابات الرئاسية. وما إن دخل جو بايدن البيت الأبيض في يناير/كانون الثاني 2021 حتى قرر إعادة الولايات المتحدة إلى الاتفاقية التي كان ترمب قد قرر الانسحاب منها. فالنظام الأساسي لهذه الاتفاقية ينص على أنه لا يجوز لأية دولة انضمت إليها أن تنسحب منها إلا بعد مضي أربع سنوات على تاريخ تصديقها عليها (ثلاث سنوات بعد إعلان الرغبة في الانسحاب، ثم عام رابع لكي يدخل هذا الإعلان حيز التنفيذ). 
وكانت واشنطن قد صدَّقت على تلك الاتفاقية في 4 نوفمبر 2016 في الأيام الأخيرة لولاية بايدن. ولهذا لم يكن في إمكانها وقف مشاركتها فيها فعليا، رغم اتخاذها قرار الانسحاب منها قبل انتهاء ولاية ترمب الأولى، وظلت ملتزمة بها أقله عند إجراءات الحد الأدنى مثل حضور الاجتماعات ومواصلة الإبلاغ الدوري عن مستويات الانبعاثات. 
وإذ لا توجد سابقة يُقاس عليها، والحال هكذا، لا بد من انتظار كيف سيؤثر انسحاب الدولة الأكبر في العالم من اتفاقية 2015 على جهود مكافحة الاحترار العالمي، وهو ما قد يبدأ في الظهور في "كوب 30" الذي سيُعقد في مدينة بيليم البرازيلية آخر العام الجاري.

وتجدر، هنا، ملاحظة أن وقف المشاركة في اتفاقية باريس 2015 لا يعني انسحابا كاملا من جهود مكافحة تغير المناخ، لأنه لا يشمل إنهاء الالتزام بالاتفاقية الإطارية المؤسِسة للتعاون الدولي لمواجهة التغير المناخي التي أُصدرت عن مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة والتنمية، المعروف باسم قمة الأرض، في ريودي جانيرو في يونيو 1992، ودخلت حيز التنفيذ في مارس/آذار 1994 بعد تصديق 154 دولة عليها بما في ذلك الولايات المتحدة، ووصل عدد المنضمين إليها الآن إلى 197 دولة. وهذه الاتفاقية هي التي تُعقد على أساسها مؤتمرات "كوب Cop" السنوية منذ المؤتمر الأول في برلين عام 2005.
ومع ذلك فالمتوقع أن يؤثر وقف مشاركة الولايات المتحدة في اتفاق باريس 2015 على اثنين من مسارات مكافحة التغير المناخي. أولهما مسار تقليل انبعاثات الغازات التي تُسبب الاحتباس الحراري عن طريق الحد من مصادرها، أو من خلال زيادة المساحات الخضراء لكي يتسنى تخزين تلك الغازات في الأشجار. وقد أصدر الرئيس ترمب فور تنصيبه مرسوما تنفيذيا بإنشاء مجلس وطني للطاقة تشمل أهدافه زيادة إنتاج الولايات المتحدة من النفط والغاز. ويرتبط هذا التطور بخطة أكبر تهدف إلى استخدام مصادر الطاقة في زيادة النفوذ الجيوسياسي للولايات المتحدة في السنوات المقبلة.
أما المسار الثاني فهو الدعم الذي تقدمه الدول المتقدمة للدول النامية. وربما يؤثر تغير السياسة الأميركية في تقليل هذا الدعم الذي اتُفق في "كوب 29" على زيادته إلى 300 مليار دولار سنويا لمدة عشرة أعوام حتى 2035.
ولا يقل أهمية، إن لم يزد، أن العالم قد يفقد دور الولايات المتحدة المهم في الاتصالات والمفاوضات الهادفة للتوصل إلى اتفاقات في مؤتمرات "كوب" الأربعة المقبلة حتى انتهاء ولاية ترمب. وقد كان لهذا الدور أثره في كثير من الاتفاقات التي أُبرمت في المؤتمرات السابقة، وآخرها الاتفاق على زيادة الدعم الذي تقدمه الدول المتقدمة للدول النامية في "كوب 29" قبل نحو ثلاثة أشهر.

font change