خليل مطران، أحد رواد القصيدة العربية المتجددة، والمسهم الإسهام الكبير في صوغ رؤيا حديثة "غير مألوفة" للشعر العربي.
هذا الشاعر البعلبكي الذي هاجر إلى مصر، ومكث فيها حتى وفاته (1949)، وكرم هناك، هذا الشاعر لم يلقَ من وطنه سوى الإجحاف والإهمال. وآخر الإنجازات الوطنية التي حققت لتكريمه، وفي مسقط رأسه نسف تمثاله في بعلبك التي كتب لها أجمل ما عنده.
هذا النسف المجرم الذي ارتكبته ظواهر الجهل والظلام، لم يعوضه شيء حتى الآن.
من بين الشعراء الإحيائيين والمجددين في نهايات القرن التاسع عشر وحتى الثلاثينات، يبدو خليل مطران الأقلق، والأدعى والأحدّ إحساسا بقضية "اللغة"، أو "التعبير" أو الشكل في القصيدة العربية التي كانت تحاول المساهمة في بناء النهضة العربية الجديدة. أو فلنقل في بناء قصيدة "نهضوية" تحمل، فيما تحمل، مختلف الأزمات والتبدلات والهواجس التي تكبدتها النهضة التنويرية لا سيما في علاقتها بالموروث وبالآخر: أي بالغرب. كأنها مرحلة مغادرة، مغادرة شيء ما، إلى آخر غير محدد تماما، ومحاولة خروج من دون الحسم في موضوع الدخول. فهو خروج متردد ودخول أكثر ترددا. كأنه قدر كل البدايات.
وإذا أخذنا الرباعي الذي يعتبر، في ذلك الوقت، الكوكبة التي أطلت على الجديد ولو من القديم، كالبارودي وأحمد شوقي ومطران وحافظ إبراهيم، نلمس هذا التردد الذي يتجسد في مراوحة ما عند القديم (المغسول) في شعر البارودي وحافظإابراهيم، ويتجسد من ناحية أخرى، بالإطلالة الخجول عند شوقي (وسنجد تجديده الأساسي في لغة المسرح).
مطران الذي تحدث عن الخروج على المألوف، تقدم بخطى محسوبة ومعدودة، وبجرأة "مراعيا زمانه"
وبالإطلالة الأكثر تجرؤا عند مطران. فشوقي كما يقول شوقي ضيف: "أميل إلى القديم" من مطران، ومطران أميل إلى الجديد ولو بحدود محسوبة، فمطران، ابن بعلبك (وكوفئ هناك بنسف تمثاله، للتأكيد) يمثل درجة عليا من القلق، على الأدوات الشعرية، وهو قلق قامت عليه الحداثة الشعرية الغربية منذ بودلير، والحداثة الشعرية العربية منذ منتصف التلاثينات. ويتمثل قلق مطران بضرورة "الخروج على المألوف السائد"، وهذا ما عبر عنه في بيانه الأول الذي وضعه في مقدمة ديوانه المؤلف من أربعة مجلدات في طبعته الأولى عام 1908 في مصر (وطبعته الثانية عام 1939).
الأسئلة
إن أسئلته العميقة في المانفستو وهو الأول في بلاد المشرق والمغرب في تلك المرحلة، لا بد من اعتبارها "تمردا"، صيغ ضمن "رؤيا" لشكل القصيدة، وعلاقتها اللغوية، والمجازية، والبيانية، والداخلية. وهي خطوة رائدة (على الأقل نظريا) حملت محاولة لتصور القصيدة "غير المألوفة"، ويمكن تحديد هذا التصور في نقاط عدة:
1 - الخروج على المألوف: "رأيت في الشعر المألوف جمودا وبدا لي تطريز الأقلام على الصحف البيضاء، كتطريس الأقدام في تيه البيداء. فأنكرت طريقته...".
2 - وأول غيث هذا الخروج "افتتاح" الشاعر "طريقة" له، أي بصمات له. أو فلنقل ذاتية تسائل "كيف ينبغي أن يكون الشعر"، وهذا يعني عمقا رفض النموذج التاريخي للقصيدة العربية، واتباع "رؤيا" خاصة بالشاعر، لا تعنى بالتقليد ولا بالمحاكاة، ولا بالشكل الجاهز "الصالح لكل زمان ومكان". إنها روح التجديد التي لا ترى في الماضي سوى نبض الحاضر، الحاضر من نبض المستقبل.
3 - وهذا يفترض في حال تنفيذه مقاربة القصيدة مقاربة "تجريبية"، أي استخدام موادها استخداما غير خاضع لما هو جاهز، ولا لما هو منسجم مع الذائقة العامة. ومطران الذي تحدث عن الخروج على المألوف، تقدم بخطى محسوبة ومعدودة، وبجرأة "مراعيا زمانه" (كما يقول). فهو، بحسب تعبير توازني، أو كأنه واقع بين اختيارين التجديد ومقتضيات الواقع. إنها المغامرة الناقصة! ربما. لكنها مغامرة جعلتنا نُدرك الواقع الثقافي والاجتماعي الذي كان سائدا في تلك المرحلة.
ما علاقة النظرية "المطرانية" بنصه، وبـ"طريقته" أي ما علاقة هذه "الرؤيا" المبكرة بتجسداتها اللغوية، أو باحتمالات تحولاتها في النص نفسه؟
4 - وعلى رغم هذه "الخطى" المعدودة، المراعية "الجريئة" على غير "صدم"، واجه خليل مطران من يوجه إليه الاتهامات... بأنه يخرج على "التراث" (وهي التهم التي وجهت إلى الشابي) عندما نُظر إلى آرائه ونصوصه بأنه انحياز إلى الإغراب لا الإعراب. وفي هذا السياق يرد مطران في بيانه- المقدمة: "قال بعض المتعنتين الجامدين، من المتنطسين الناقدين أن هذا "شعر عصري" وهموا بالابتسام. فيا هؤلاء! نعم. هذا شعر عصري. إنه عصري. وله على سابق الشعر مزية زمانه على كل سالف الدهر".
5 - ومن هذه "العصرية" توغل مطران في تبيان "فنه" المتجدد "أن شعر هذه الطريقة هو شعر المستقبل لأنه شعر الحياة والحقيقة والخيال جميعا". ويعني ذلك، عموما أن التجربة الشعرية لا يمكن أن تكون "مفروضة" من خارج "المعاناة" أي من تجربة غير معيشة، أي من "مثال" تجريدي أو مادي مُعمم يسلك في الكتابة مسلك النظام الأبدي، أو الفوقي، ويعني ذلك أن الشعر ابن الحياة، وليس ابن "الموتى". أو ابن الماضي الوارد كتلة تاريخية وشكلية يحتل الحواس، فيعدمها، والمخيلة فيعطبها، والحقيقة (الذاتية والجماعية) فيطمسها.
الطموح النظري
إنه طموح "نظري" متسع وأكاد أقول غير محدود. لكن يبقى السؤال: ما علاقة النظرية "المطرانية" بنصه، وبـ"طريقته" أي ما علاقة هذه "الرؤيا" المبكرة بتجسداتها اللغوية، أو باحتمالات تحولاتها في النص نفسه؟ وهل أدى فعلا "خدمة" لما يسمى "الحداثة الشعرية" (وأي حداثة)؟
إن "المعاصرة" التي أشار إليها مطران هي في العمق، تأثراته الغربية سواء بالرومانسية الغربية أو بالنص الشكسبيري (ترجم مطران مسرحيات عدة لصاحب "هاملت")، وبعضها يصب في النهاية، وإن من أمكنة مختلفة، في رومانطيقية ما. ونظن أن الموروث "الغربي" عند مطران ليس محسوبا فقط وإنما محدود، ومرتبط بالقرن التاسع عشر، وبرومانسيته، المتمثلة بلامارتين وده فينيسي ودو موسيه، (وهي هنا رومانسيات يغلب عليها التبسيط والبوحية على عكس الرومانسيات الأخرى كالإنكليزية والتي يمثلها اللورد بايرون أو كيتس) أو الألمانية وهي الأهم والتي يمثلها غوته وهولدرلن... إلخ). أي إن مطران ما كان له أن يختار سوى ما يتلاءم وشروطه الخاصة، ونفحاته المتصلة أصلا بالموروث الغنائي العربي، وهو إرث ضخم له كباره كجرير وقيس بن الملوح وكُثير عزة وجميل بثينة وعمر بن أبي ربيعة في العصر الأموي، وله كباره في العصور العباسية: أبو نواس، بشار، ابن الرومي، المتنبي، الشريف الرضي... (ولا يفوتنا في هذا المجال القول إن الغنائية محفورة حفرا عميقا في الشعر الجاهلي ابتداء بالنابغة وانتهاء بلبيد ومرورا بطرفة والحارث بن حلزة وعنترة) وله كباره في الشعر الأندلسي سواء عند الموشحين أو عند سواهم كابن زيدون وغيره.
الرومانسي
نريد أن نقول إن مطران انتقى من لغة الرومانسيين ما يتواءم والغنائية العربية المتوارثة، فالتقى الرافدان في قصيدة تقبل أكثر مما ترفض، وتقيم معادلات تنتصر فيها "الفصاحة العربية"، و"الشكل العربي" فالحاضر هنا استمرار للماضي، ولو على تململ الكلاسيكي، والمستقبل خليط من الاثنين.
ولهذا نجد أن الهامش الذي "غامر" فيه ضيق، لم يتعد لا بنية القصيدة الجاهلية وما أعقبها، ولا المفاهيم التي أثقلت تلك القصيدة، كشِعر المناسبات، أو المحافظة على الوزن والقافية (الشعر الإنكليزي لا يأبه كثيرا بالقافية... ومثله الشعر الألماني)، أو المواضيع التقليدية، كالمدح والهجاء والرثاء وإبداء النصائح والخواطر والمواعظ ووصف الفاكهة والحلوى، والزفاف، والجنازات والتهانئ والغزل:
يا عيونا تسقي العيون الرحيقا/واصِلي مدمنا أبى أن يُفيقا
والتقريظ، كتقريظه ديوان شوقي:
وسُبْكٌ يُعيد اللفظ لحنا موقعا/ويبدي لنا المعنى الخفي مجسدا
والحنين:
إِي آثار بعلبك سلام/بعد طول النوى وبُعد المزار
وَوُقيتِ العَفاءَ من عَرَصات/مقوياتِ أواهل بالفخار
ذكريني طفولتي وأعيدي/رسم عهد عن أعيني متوار.