الحوار الوطني في سوريا وجلسات نقاش البيان الوزاري في لبنان، خطوتان صغيرتان من عملية كبيرة لترميم شرعية السلطة ومستوى تمثيلها في البلدين.
مئات المندوبين الذين وجهت إليهم الإدارة الحالية في سوريا دعوات للمشاركة في المؤتمر المحاط بالكثير من الأسئلة والشكوك من الداخل والخارج، اجتمعوا في دمشق لإنجاز مهمة رئيسة هي إنشاء شرعية جديدة لحكم البلاد. النواب اللبنانيون في بيروت مهمتهم أسهل. الشرعية قائمة بوجود هياكل عظمية لمؤسسات دولة شبه منهارة، وعليهم منحها من شرعيتهم التمثيلية لتنفيذ برنامج الحكومة الوارد في بيانها الوزاري.
لبنان وسوريا ليسا البلدين العربيين الوحيدين اللذين تعاني الشرعية فيهما من نواقص. السودان وليبيا واليمن مثلا، تمر بأزمة شرعية تجري محاولات الخروج منها من خلال الاقتتال في الميدان. مفهوم تماما ما يسوقه كل طرف من أطراف الصراع في البلدان الثلاثة، والاتهامات بالانقلاب وإشعال نيران الحرب الأهلية والاستقواء بالخارج وتنفيذ أجندات إقليمية مشبوهة والتمرد على السلطة السابقة الأعمق شرعية. بيد أن ذلك كله لا ينفي أن السودان وليبيا واليمن، تشهد استعصاءات عميقة تحول دون بناء سلطة ذات شرعية راسخة.
غالبا ما يُبرر استبعاد الشرعية التمثيلية بأنها عاجزة في ظروف بلداننا عن الإنجاز وبناء المؤسسات العاملة على خدمة المواطن حيث سينصب جل اهتمام السياسيين على ضمان مصالحهم وامتيازات مؤيديهم
وفي السياسة العربية وفكرها، غالبا ما يجري إهمال مسائل من نوع "الوكالة" (Agency) بمعنى التكليف السياسي الممنوح للسلطة القائمة وحدوده وميادينه ومدته الزمنية ومصادره، وهي العناصر التي يفترض أن تؤلف شرعية السلطة. وغالبا ما يجري الهروب إلى استبدال الشرعية بالغلبة والشوكة. ورغم أن الكثير من الدول العربية لم تلغ نهائيا فكرة الشرعية الشعبية عبر إجرائها استفتاءات تجدد للرئيس و"القائد الضرورة" و"الزعيم الملهم" بنسب تتجاوز التسعة والتسعين في المئة، فإن الاستفتاءات هذه تؤكد في واقع الأمر على بقاء أنواع من الشرعية الثورية أو التوافقية، اللتين شكلتا نقطة النهاية لحرب تحرير من الاستعمار (الجزائر مثلا والعهد الناصري في مصر بدرجة أقل إذا أخذت في الاعتبار مرحلة خروج البريطانيين وتأميم قناة السويس) أو تجنب تمدد الاحتراب الأهلي إلى ما لا نهاية (لبنان والعراق).
وغالبا ما يُبرر استبعاد الشرعية التمثيلية بأنها عاجزة في ظروف بلداننا عن الإنجاز وبناء المؤسسات العاملة على خدمة المواطن بفاعلية حيث سينصب جل اهتمام السياسيين على ضمان مصالحهم وامتيازات مؤيديهم وما شابه.
هذه الفكرة تجد حاليا جمهورا عريضا خارج دول ذات إرث متواضع في تداول السلطة مثل دولنا، لتصل إلى الغرب المفترض أنه عريق في الديمقراطية حريص على التمثيل الواسع لكل فئات الشعب، على ما نرى في الولايات المتحدة وعلى ما تنبئنا نتائج الانتخابات الأخيرة في أكثر من بلد أوروبي.
أسئلة الشرعية والتمثيل والوكالة، لا تقتصر بطبيعة الحال على لبنان وسوريا. لكن هذين البلدين الخارجين للتو من وضعين كارثيين جراء خيارات حكامهما، ترتفع أمامهما مهمة تعريف السلطة المقبلة التي من المفترض أن تنال شرعيتها من أكثرية السكان الذين تدور شكوك أصلا حول اتحادهم في "شعب" بالمعنى الذي تصفه الحداثة الأوروبية.
تبقى الشرعية هشة ومحكومة بأعداد الأكثريات والأقليات وعدد الحضور في هذا المهرجان وتلك الجنازة، ما يحيل إلى قول منسوب للإمام أحمد بن حنبل "بيننا وبينكم الجنائز"
إذا أخذنا لبنان كعينة، نجد أن انهياره المستمر منذ 2019 والذي بلغ ذروته في تفكك إدارات الدولة وشغور القصر الرئاسي لعامين ونيف قبل أن تحصد "حرب الإسناد" البائسة حيوات آلاف اللبنانيين وتلحق دمارا غير مسبوق بعمرانه واجتماعه، عوامل أعادت إحياء أشباح الحرب الأهلية التي لم يتوقف طوافها في سماء لبنان أصلا.
مشروع الدولة الذي ينادي به السياديون يفتقر، من جهته، إلى العناصر التي تلبي أولويات اللبنانيين المختلفة. الطائفة الشيعية التي تخشى خسارة الامتيازات التي حصلتها في الأعوام العشرين الماضية، ترى أن منع إسرائيل من تجديد اعتداءاتها على معاقل الشيعة في الجنوب والبقاع والحفاظ على المناصب المفتاحية في الدولة واستغلال كل فرصة ومناسبة لإظهار القوة ولو من خلال إرسال المراهقين على دراجاتهم النارية لاستفزار سكان المناطق المختلفة طائفيا، هي المسائل التي يجب أن تحصل على الأولوية في المعالجة وهذا ما لا تتفق معه كثرة من اللبنانيين.
عليه، تبقى الشرعية هشة ومحكومة بأعداد الأكثريات والأقليات وعدد الحضور في هذا المهرجان وتلك الجنازة، ما يحيل إلى قول منسوب للإمام أحمد بن حنبل "بيننا وبينكم الجنائز".
بكلمات ثانية، ستستمر سياسة الهوية المنتجة للعدد المجرد من أي مضمون سياسي حديث هي الحاكمة، فيما تنتظر عمليات صوغ القوانين وتطبيقها في مكان قصي.