عمرو دياب وصعوده الثابت إلى الصدارة حتى صار صانع "أيامنا"

كتاب مصطفى حمدي يروي سرّ نجاحه واستمراريته

غلاف كتاب "أيامنا"

عمرو دياب وصعوده الثابت إلى الصدارة حتى صار صانع "أيامنا"

احتل كتاب الباحث والناقد المصري مصطفى حمدي "أيامنا: رؤية موسيقية واجتماعية لمسيرة عمرو دياب" الصادر عن "دار ريشة" قائمة أعلى الكتب مبيعا في معرض القاهرة الدولي للكتاب، وهو ما يعود جزئيا إلى مسيرة عمرو دياب الناجحة والمستمرة منذ ظهور ألبومه "ميال" عام 1988.

بقي عمرو دياب متصدرا "الترند" بلغة العصر، ونجح في توظيف أنماط موسيقية سائدة، وتوليد أنماط غير سائدة، واستعادة الكلاسيكي ودمجه بالغربي، واستجلاب موسيقات العالم، والدخول في تجارب توزيعية وأساليب غنائية مختلفة ومتناقضة. وكان في كل تجربة جديدة يخوضها قادرا على جر المزاج العام إلى منطقته التي شاء لها منذ البداية أن تكون خاصة ونابعة من شخصيته وذوقه وخياراته.

يعرض مصطفى حمدي سيرة دياب من مدخل محاولة فهم الظاهرة التي احتلت العقود الأخيرة الماضية، مستفيدا من مفردة "أيامنا" التي تشكل عنوان أحد أبرز ألبومات دياب، الذي صدر عام 1992 وكان من العلامات البارزة في مسيرته. يعرض الكتاب مفهوم العمل على مسيرة عمرو دياب من مدخل جيلي، إذ ينظر المؤلف إلى تجربة دياب بوصفها التجربة التي سيطرت على الجيل الذي كان مراهقا إبان بروزه، وعلى كل الأجيال التي جاءت بعده. فهو أحد مطربين قلائل استطاعوا مخاطبة ثلاثة أجيال، من جيل الثمانينات إلى جيل زد، وبذلك فإن المجال الذي يشير إليه الكتاب ربما يكون مدخلا لقراءة سوسيولوجية للتلقي، التي مثلتها صدارة دياب المديدة، وخلقت توافقات بين أجيال لا شك أنها تختلف وتتباين في تكوينها الاجتماعي ومؤثراتها ومزاجها، لكنها تلتقي على استقبال نتاج دياب الغنائي بوصفه غناءها الذي يعبر عنها ويجسد تجربتها.

بدايات قلقة

بدأ عمرو دياب مسيرته في مرحلة من التحولات مطلع الثمانينات، عندما كانت التجارب الكبرى في الغناء العربي ختمت مسيرتها بعد وفاة عبد الحليم حافظ وأم كلثوم، وعزوف محمد عبد الوهاب عن الغناء. في تلك المرحلة، برزت أصوات أطلق عليها "جيل الوسط"، وهي مجموعة أصوات مصرية حرصت على الحفاظ على أكبر قدر ممكن من الاتصال بالتجارب الكلاسيكية، مع محاولة إضفاء طابعها الخاص عليها، مثل هاني شاكر ومحمد ثروت ومحمد الحلو ومدحت صالح وغيرهم. من ناحية أخرى، برزت تجربة "فرقة المصريين" مع الملحن هاني شنودة، التي بحثت عن تجربة جديدة ومغايرة بأدوات حديثة وبلغة موسيقية تستكشف آفاقا مختلفة في البناء اللحني والتوزيع الموسيقي والثيمات الشعرية. وكانت تجربة محمد منير، بخصوصيتها المستندة إلى تراث النوبة وفرقة يحيى خليل، التي تدمج موسيقى الجاز وغيرها من أنواع الموسيقى في نسيج الأغنية العربية، حققت نجاحا باهرا، خصوصا مع ألبوم "شبابيك" الصادر في عام 1981 الذي شكل بصمة واضحة في الغناء المصري.

كان دياب يخطو أولى خطواته في بيئة اجتماعية وسياسية تتسم بسيطرة روح القلق والملل، والرغبة العامة في البحث عن نماذج جديدة في الفن والحياة

في ذلك المناخ، كان دياب يخطو أولى خطواته في بيئة اجتماعية وسياسية تتسم بسيطرة روح القلق والملل، والرغبة العامة في البحث عن نماذج جديدة في الفن والحياة، مترافقة مع بدء موجات التسارع العام في مجالات التكنولوجيا والموضة وأولى موجات سطوة ثقافة الصورة مع ظهور محطة "أم تي في" الأميركية، أول محطة تبث "فيديو كليبات" غنائية قصيرة على مدار الساعة.

facebook
الكاتب الصحافي مصطفى حمدي

تكمن خصوصية عمرو دياب ، كما يرصدها الكتاب، في أنه التقط هذا المزاج وتمثله، ولم يقع في فخ تحويل فنه إلى صدى لأي تجربة مهما بلغت درجة إعجابه بها. ففي بدايته كان شديد التأثر بتجربتي "المصريين" ومحمد منير، لكنه وظف هذا التأثر في إطار خاص، عمد عبره في ألبومه الأول "يا طريق"، الصادر عام 1983، إلى الاستفادة من خبرة الملحنين هاني شنودة وياسر عبد الحليم وعزمي الكيلاني، والشعراء عصام عبد الله وعبد الرحيم منصور وهاني زكي، في تركيب تجربة غنائية تستجيب لروح التجديد، من خلال إدخال إيقاعات راقصة، وصوت التصفيق، ومن خلال أفكار السلام والمحبة والصداقة والصحبة وغيرها، من دون استرجاع درامية الغناء العربي الكلاسيكي وأنماط تعابيره. بدأ دياب في هذا الألبوم بتلمّس معالم مشروعه القائم على دفع كل التعابير إلى منطقة الإيقاع والرقص. لم يتجاهل الحزن والألم، لكنه عبر عنهما بالإيقاع.

 لجأ بعد ذلك إلى تراث مسقط رأسه في بورسعيد، في أغنيات تستعيد فولكلور تلك المنطقة بأسلوب جديد، في ألبوم "غني من قلبك" الصادر عام 1984، وعبر فيه عن تقديره لتجربة منير عبر خلق نموذج مغاير لها، قادم من منطقة مختلفة عن تلك التي يستمد منها منير مادته. فشكل فولكلور بورسعيد أحد مصادر ثقافته وخصوصيته، وكان مدخلا مناسبا لإطلاق تجربته الخاصة من دون أن تغرق في تجربة منير.

بكلمات عصام عبد الله وشوقي حجاب، خاض تجربة استلهام التراث البورسعيدي في ثلاث أغنيات من الألبوم، هي "أشوف عينيك"، و"بتغني لمين"، و"يا خلي"، مؤكدا إصراره على السير وراء الرغبة التي كان عبر عنها أمام هاني شنودة، والتي رواها في أكثر من مناسبة، حيث قال له: "نفسي أبقى حاجة".

الشراكة مع حميد الشاعري

تتميز علاقة حميد الشاعري وعمرو دياب بأنها شراكة في مشروع، وليست مجرد صناعة، كما كان حال الشاعري مع غيره من الأصوات التي بقيت عالقة في حدود رؤيته، ولم تتجاوزها أو تخلق لنفسها خصوصية، فحققت نجومية محدودة لم تلبث أن تلاشت واختفى أصحابها. في المقابل، استمر دياب في تطوير مشروعه، ومراكمة أدواته وخياراته وتوسيعها، والبحث عمن يستطيع التلاؤم معها وتنفيذها، فكان في كل الأحوال صاحب مشروع يدعو الآخرين الى الشراكة فيه من داخل ما يطرحه من رؤى وأفكار وخصوصية.

كان الشاعري أصبح متحكما بالمزاج الفني السائد في الثمانينات، مع إطلاق أغنية "لولاكي" لعلي حميدة في عام 1988، التي حققت رقما قياسيا في سوق الكاسيت المصري والعربي، حيث يقال إن مبيعاتها بلغت 40 مليون نسخة، وكان رسّخ أسلوبه الخاص، القائم على الهتاف الغنائي، حيث تبدأ الأغنية بصوت المطرب يؤدي جملة منها، ثم يرد عليه الكورال بعبارة تفسيرية في صيغة هتاف.

التقط دياب خصوصية هذه التجربة، وحاكاها بأسلوبه الخاص في أغنية "ميال"، التي لحنها بنفسه، وانتشرت شائعة بأنها من توزيع الشاعري، في حين أن موزعها الفعلي هو فتحي سلامة. أظهرت تلك الأغنية قدرة دياب على التقاط عناصر النجاح وتطويعها داخل تجربته الخاصة، فالألبوم، الذي حمل عنوان الأغنية، صدر في العام نفسه لصدور "لولاكي"، ونجح في تصدر المبيعات عام 1989.

استمر دياب في تطوير مشروعه والبحث عمن يستطيع التلاؤم معه وتنفيذه، فكان في كل الأحوال صاحب مشروع يدعو الآخرين للشراكة فيه

كان ذلك بمثابة لقاء غير مباشر مع تجربة الشاعري، أو حوار موسيقي معه، لم يلبث أن تطور إلى سلسلة طويلة من الأعمال، إذ كان الطرفان يتناغمان في اهتمامهما بمشروع التطوير، كلٌّ من داخل تجربته الخاصة. وجاءت الأغاني التي شارك الشاعري في توزيعها لتكون خلاصة ذلك التفاهم.

اهتم الشاعري بتوظيف الآلات الغربية في صياغة الإيقاعات الشرقية، فتعاون مع دياب في مجموعة من الأغنيات، مثل "مين غيرك"، التي استلهمت عناصر من الفولكلور التونسي، وأغنية "توتة"، التي اعتمدت الإيقاع النوبي والمقسوم الشرقي، و"أول ما أقول"، التي استخدمت المقسوم الإلكتروني والهتاف الغنائي.

AFP
نحو 40,000 معجب يحضرون حفلة عمرو دياب على الشاطئ في الإسكندرية

أما أغنية "أول ما أقول"، فاستخدمت فكرة المقسوم الإلكتروني والهتاف الغنائي. واستمر التعاون بين دياب والشاعري في ألبوم "متخافيش" الصادر عام 1990، الذي لحن دياب جميع أغانيه باستثناء أغنية "حبيتها"، التي حملت توقيع حجاج عبد الرحمن. وبنيت أغاني الألبوم على مقامات شرقية متنوعة، مثل الكرد والبياتي والراست، وعمل توزيع الشاعري على إدماج عناصر المقسوم الإلكتروني، مع فواصل موسيقية مبنية على جمل لحنية مختلفة عن اللحن الأصلي أو مستوحاة من جزء منه، وفق ما يقوله الكتاب.

كانت علاقة دياب بثلاثية "ميال" و"متخافيش" و"شوقنا"، التي وسمت مرحلة الثمانينات، تتسم بالحاجة إلى المنتج الموسيقي الذي يتلاءم مع تطلعاته. وهو ما لم يكن متاحا مع فتحي سلامة، الذي اتجه نحو مشروع موسيقي يبتعد عن مزاج "البوب" المصري الحديث. وبينما سعى الشاعري إلى تأسيس مشروع تطوير الأغنية الشبابية عبر أصوات مثل مصطفى قمر وإيهاب توفيق وحكيم وفارس، كان دياب أصبح قادرا على تطوير مشروعه الفني بالتعاون مع موزعين موسيقيين آخرين.

في ألبوم "أيامنا" عام 1992، عاد دياب للتعاون مع الشاعري، الذي وزع جميع أغاني الألبوم. أما في ألبوم "حبيبي" عام 1991، فكانت فكرة عمرو دياب تتمثل في العودة لاستخدام آلة الساكسوفون، محاولا صناعة أغنية بمعايير غنائية جديدة، فاستعان بالعازف سمير سرور لتقديم الفاصل الموسيقي في الأغنية.

"أيامنا"

وفي عام 1994، أطلق دياب ألبوم "ويلوموني"، الذي اعتمد على محاكاة الأشكال الموسيقية العالمية، حيث شهد أول تجربة لتقديم موسيقى "الفلامنكو" في الأغنية التي حملت عنوان الألبوم، والتي لحنها عمر الطنطاوي وكتب كلماتها عادل عمر، ووزعها حميد الشاعري. تلاحق تلك الأغنية  تجربة "بامبوليو" لفريق "جيبسي كينغ"، الذي كان الأكثر رواجا في التسعينات، وتسعى إلى خلق أغنية عربية موازية لها. ونجح الطنطاوي في تقديم ألحان تستلهم روح تلك الأغنية في "يلوموني"، وكذلك في "حبيبي يا نور العين"، التي شهدت تقديم نسخة أكثر تطورا وحداثة وقابلية للحفظ والانتشار. وقدم الشاعري في كلتا التجربتين توزيعات تعتمد على الغيتارات.

في أغنية "عودوني"، التي كانت عنوان الألبوم الصادر عام 1998، يعرض الكاتب تجربة دياب والشاعري القائمة على بناء قوالب موسيقية عدة في لحن واحد، مثل "الآر إن بي"، والإيقاع النوبي، والفواصل الموسيقية التركية، والإيقاع الخليجي، والوتريات الكلاسيكية التي توظف الكمنجات. كما قدم الألبوم أغنية "كل الكلام"، التي استندت إلى شكل موسيقى "الراي"، متأثرة بأغنية "يا ريح" للمغني الجزائري الراحل رشيد طه.

العالمية والموضة والمزاج

مثّل دخول عمرو دياب الصاخب إلى الاستاد لأداء أغنية "أفريقيا" من ألحانه ومن توزيع مودي الإمام  في افتتاح دورة الألعاب الأفريقية في القاهرة عام 1991، لحظة عبوره حدود المحلية وتحوله ظاهرة عالمية، وبات صانعا للموضة ومؤثرا اجتماعيا وثقافيا بالمعنى العريض للكلمة. القميص الأبيض المزركش بالنقاط السوداء، وإغلاق زر ياقة القميص، كان عنوان موضة اجتهد جيل تلك المرحلة في تقليدها.

أنتجت تلك الخلطة شخصية النجم الرياضي الذي تنتشر صوره والذي لا يدخن السكائر ولا تطاوله الفضائح

وتشهد تجربة دياب السينمائية الأبرز في فيلم "آيس كريم في جليم" مع خيري بشارة لمدى وعيه وحساسيته تجاه ما يقدمه، إذ يروي حسام حسني، موزع أغنيات الفيلم التي قام دياب بتلحينها جميعا، في مقطع يستشهد به الكاتب، أنه مع بداية تصوير الفيلم، أمسك دياب بالكلاكيت وقال: "سجل يا زمن، اكتب يا تاريخ... الفيلم ده حيبقى حاجة مهمة في تاريخ السينما المصرية".

واللافت أن بشارة لم يكن من المعجبين بعمرو دياب، لكن بحثه عن المغني الذي يعتبره الجيل الشاب ممثلا له دون منازع، قاده إليه، وكان ذلك سببا في ظهور الفيلم، الذي قدم مجموعة من الشخصيات التي تعبر عن رغبة التمرد والتحرر، لكنها تجد نفسها عالقة في شبكة من الوقائع المرة وداخل عالم يحفل بالقسوة والزيف.

ما ارتداه دياب في الفيلم، من جاكيت جلدية سوداء وبنطال جينز، صار الموضة السائدة، وكرس دياب نموذجا عاما لشخصية تسيطر على صناعة الصورة. وعمل على الاستفادة من هذا التأثير وتوسيعه عبر الحرص على الظهور بشخصية تنسجم مع المعايير الاجتماعية من ناحية، وتستثير التمرد المدروس والمحسوب من ناحية أخرى، من دون اختراق التابوهات الكبرى. أنتجت تلك الخلطة شخصية النجم الرياضي الذي تنتشر صوره، والذي لا يدخن السكائر، ولا تطاوله الفضائح، والمتطابق مع الصورة النموذجية الكلاسيكية المعتمدة في تنشئة الأجيال، في مقابل نموذج النجم المتمرد والجريء في لباسه وقصة شعره وخياراته الموسيقية والغنائية.

AFP
عمرو دياب يحيي حفلة موسيقية في المنامة، البحرين

بعد تلك المرحلة، انفتح دياب على المنتج محسن جابر، ومعه نال للمرة الأولى جائزة الموسيقى العالمية، ليكون العربي الوحيد الذي نالها بعد الشاب خالد. وكانت مرحلة أواخر التسعينات تشهد تراجع أيقونية النجوم العالميين مثل مايكل جاكسون، لصالح الفرق الغنائية مثل "باك ستريت بويز" و"بلو" و"إن سينك"، وظهور موجة جديدة من النجوم الشباب الذين صعدوا بسرعة صاروخية إلى واجهة المشهد، مثل ريكي مارتن وإنريكي إغليسياس صاحب أغنية "بايلاموس" الشهيرة، ومارك أنتوني وجينيفر لوبيز وكريستينا أغيليرا وبريتني سبيرز. وترافقت الشعبية الجارفة لكل تلك المجموعة الجديدة من النجوم مع صعود موجة "البوب اللاتيني" والفلامنكو.

أصدر دياب عام 1999 ألبوم "قمرين"، الذي شكل بداية مرحلة جديدة تلت مرحلة الشاعري، وكان نجماها الموزع طارق مدكور والملحن شريف تاج، صاحب أغنية "تملي معاك"، التي تعد أبرز "هيت" في تاريخ دياب. وقد وزعها مدكور بأسلوب "الرومبا فلامنكا"، وظهرت منها 42 نسخة، أشهرها لفريق "أوت لاندش" البريطاني، التي اختارتها مجلة "رولينغ ستونز" أهم أغنية عربية صدرت خلال أول عقدين من القرن الحادي والعشرين، ونالت في وسط جمهور دياب لقب "أغنية القرن".

أطلق دياب بتعاونه مع المخرج طارق العريان فكرة استخدام تقنيات السينما في تصوير "الفيديو كليب" واستكشاف مواقع جديدة غير شائعة

قدم مع عمرو مصطفى قالب "السوفت روك" في أغنية "خليك فاكرني"، وفاز معه للمرة الثانية بجائزة الموسيقى العالمية، واعتمد نماذج "الأفرو" و"الأوتوتيون". واصل دياب استخدام النماذج الموسيقية الرائجة عالميا وتطويعها في أغانيه، فتعاون مع الملحن خالد عز في أغنية "علم قلبي" التي سيطر عليها مزاج "الآر إن بي"، وفي ألبوم "ليلي نهاري" تعاون مع نادر حمدي عضو فريق "واما"، وفي ألبوم "الليلادي" تعاون مع حسن الشافعي ودخل عالم موسيقى "الهاوس".

AFP
عمرو دياب يحيي حفلًا خلال مهرجان قرطاج الدولي الـ45

أطلق دياب بتعاونه مع المخرج طارق العريان فكرة استخدام تقنيات السينما في تصوير "الفيديو كليب"، واستكشاف مواقع جديدة غير شائع التصوير فيها. كما أنه عمم فكرة "النوستالجيا" واستفاد منها في أغنية "حبيبي"، التي استعان فيها بعازف الساكسفون الشهير سمير سرور، الذي شكّل ظهوره في "الفيديو كليب" الخاص بالأغنية تأكيدا للتصالح مع التراث وتوظيف أدواته في التجربة الجديدة، وكأن دياب يرد على كل ما طاوله من هجوم يتهمه بإفساد الذوق العام وتبخيس التجربة الفنية الموسيقية المصرية ورموزها. ساهم نجاحه في إدماج أحد أبرز وجوه موسيقى السبعينات في تجربته الحديثة، التي لاقت شعبية واسعة، في إعادة عدد كبير من موسيقيي تلك المرحلة إلى الواجهة،  وقدم دليلا على قدرته على التفاهم مع تاريخ الموسيقى المصرية وتوظيف عناصرها الأرسخ في الذاكرة في مشروعه الجديد والخاص، الذي كان صاحبه وصانعه.

ابن زيدون والمهرجانات

تجنب عمرو دياب بمهارة الكثير من الفخاخ التي وقع فيها غيره من النجوم الذين رافقوه، والذين عجزوا عن بناء مشاريعهم الخاصة أو غرقوا في متاهات الانتماء إلى تيار سياسي أو ديني، والنطق باسمه. فابتعد بمهارة عن الدين والسياسة، وكذلك عن الصحافة، وأصر على أن يكون حاضرا بمنتجه الفني فقط، فلم يشهد تاريخه أغنيات سياسية أو دينية، ما خلا تجارب نادرة.

AFP
عمرو دياب يقدم عرضا قبل مباراة كأس سوبر لوسيل بين الهلال السعودي والزمالك المصري في استاد لوسيل، الدوحة، قطر

وقد يكون الوحيد الذي التقط الحاجة إلى التعبير الساخر في مرحلته الحديثة، التي قرأ فيها نهاية لغة الحب والتفجع، والحاجة إلى أغنية تستجيب للسياقات الجدلية التي أنشأها نظام العلاقات الحديث، بما فيها من تشابكات وتحديات وأنماط لا يمكن التعاطي معها بلغة الانسحاق وتأنيب الذات. فأغاني دياب عموما، وفي مرحلته الحديثة خصوصا، تدعم قيم العبور والتجاوز والسخرية وتوكيد الذات، وتأكيد خصوصية التجربة الشخصية، والحق في نقد الحب والحبيب والمواجهة، وعدم الخوف من خوض التجارب الجديدة والغريبة، والاعتراف بها وهضمها وتمثلها.

لم يكن مجرد ناقل أو محاك، بل كان صانعا لنموذج مواز في الجودة، وفي منطق الإنتاج والإخراج والأداء وبذلك بات النسخة التي نعرفها من النجم العالمي

ما كان يدعو إليه يحضر في مغامراته الغنائية الحديثة، التي شهدت غناءه مطلع قصيدة ابن زيدون الشهيرة "أضحى التنائي" في بداية أغنية "والله أبدا"، كما استشرف طاقة أغاني المهرجانات وقدرتها التمثيلية على نقل مزاج عارم لا يمكن مواجهته، فكان أن تبناها واخترقها في أغنيات تحمل نفسها وصخبها وروحها ومنطقها، مثل "يوم التلات" و"يا أنا يا لأ"، وقدم نماذج تنطوي على مسحة السخرية في "لو كان يرضيك" و"معاك بجد" و"مالك" و"نغمة الحرمان" و"أنت مغرور" و"قالك ندم" و"أغنية مهرجان" و"وخدين راحتهم".

AFP
عمرو دياب يغني على مسرح Beirut Waterfront Arena في العاصمة اللبنانية بيروت

ظهر استيعاب مزاج المهرجانات والحرص على التفوق عليه بشكل خاص في أغنية "إنت الحظ"، التي استخدمت إيقاع المقسوم و"الميغا ميكس". كما تعاون مع شاعر المهرجانات مصطفى حدوتة في أغنية "يا قمر لوفي تنين منك"، التي لحّنها بنفسه. لاحق دياب التحولات الموسيقية، من "الراب" و"التراب" و"التكنو" و"النيو سول" واستوعبها. ولحق كذلك التحولات في مجال الانتشار والإنتاج، فقرر عام 2016 أن ينتج لنفسه، وتحول إلى المنصات الرقمية قبل أن يوقع عقدا مع شركة "سوني". وفي ألبوم "مكانك" الصادر عام 2024، أطلق تجربة طرح ألبوم كامل من 12 أغنية في 12 ساعة، بمعدل أغنية كل ساعة، بشكل يغاير كل منطق عرض الألبومات وطرحها.

لاحق عمرو دياب، في خلاصة كتاب مصطفى حمدي، التطورات في عالم الموسيقى، وبناء الصورة وصناعة المزاج، وقدم نسخة شرقية عربية من موسيقى العالم الأكثر رواجا بثيمات محلية مصرية وشرق أوسطية. لم يكن مجرد ناقل أو محاك، بل كان صانعا لنموذج مواز في الجودة، وفي منطق الإنتاج والإخراج والأداء. وبذلك بات النسخة التي نعرفها من النجم العالمي، مما جعله صانع "أيامنا"، وفق التعبير الذي اختاره صاحب الكتاب بذكاء، للدلالة على خصوصية مشروع نجح صاحبه في أن يكون نجم أجيال ما بعد المرحلة الكلاسيكية.

font change