لم تنحصر البوذية في بلادها الأولى: الهند والصين، بل تمددت أولا إلى اليابان وجنوب شرقي آسيا. واليوم هي ذات شعبية كبيرة في كل العالم الغربي، خصوصا لأولئك الذين يسعون إلى إيجاد نموذج للحياة الروحية يتجاوز الدين التقليدي والعبثية المُقلقة السائدة. حتى الملحد المشهور سام هاريس لجأ إلى التمارين التأملية في البوذية في كتابه الأكثر مبيعا "الاستيقاظ: دليل إلى الروحانية دون دين".
ممارسات التأمل البوذية يمكن توظيفها بشكل كبير لتحقيق غايات دنيوية كالسعادة والسلام الداخلي. وإذا تعلمت تقنيات التأمل البوذية لمثل هذه الأغراض العلاجية، أو من أجل الحصول على المزيد من القوة والطاقة، فإنك في الواقع تكيف تلك التقنيات لمشروع دنيوي، وتشارك في ممارسات التأمل كوسيلة لتحقيق غاية تعميق قدرتك على تحسين نوعية حياتك. في "بوذية الزن"، وربما هي أرقى صور البوذية، يتخلص الإنسان من المشاعر السلبية بالانغماس في اللحظة الراهنة ويتوقف عن التفكير، فالعقل هو العدو الذي يبعث فينا كل الأفكار المزعجة التي تمنع من التنعم بالحياة. هذا هو الجاذب الأكبر الذي لفت انتباه كل إنسان قلق. وهذا هو حال الإنسان المعاصر اليوم، هو ينتقي ولا ينتمي بالكامل، ويحاول أن يكيف ما يصل إليه من أفكار جديدة مع معتقداته الخاصة.
لكن إذا أردنا دقة التصور فينبغي أن نتذكر أن هدف الخلاص في البوذية هو التحرر من الحياة المحدودة نفسها وليس مجرد التحرر من الألم. وهنا نختلف. فكرة الخلاص هذه تتكرر في مختلف الديانات، ولكن في الكثير من فروع البوذية هناك صراحة صادمة تتعلق بتداعيات الخلاص. فبدلا من الوعد باستمرار حياتك، أو رؤية أحبائك مرة أخرى، فإن خلاص "النيرفانا" يرى أنك ستنقرض. هذه مصادرة لا تستند إلى أي دليل علمي. لكن الفكرة من أركان البوذية.
والهدف في البوذية ليس أن تعيش حياة حرة. مع الألم والمعاناة التي تنطوي عليها مثل هذه الحياة، فالسعادة الدائمة مستحيلة. لكنك ستصل إلى "البصيرة" التي مفادها أن الذات وهمٌ يذوب في خلود "النيرفانا". ما يهم في نهاية المطاف هو بلوغ حالة من الوعي حيث يتوقف كل شيء عن أن يكون ذا أهمية، حتى يصل المرء إلى الراحة والسلام.
قد تبدو هذه الخلاصة حول البوذية متطرفة عندما تصاغ بهذه الطريقة، ولكنها في الواقع توضح ما هو ضمني في كل أفكار الخلاص الأبدي. فبعيدا عن جعل حياتنا ذات معنى، فإن الأبدية تجعلها بلا معنى، لأن أفعالنا لن يكون لها أي غرض. وبينما الفناء ضروري فهو شرط الفاعلية والحرية. والحرية لا تعني السيادة أو التحرر من كل القيود. بل إننا أحرار لأننا قادرون على أن نسأل أنفسنا ماذا ينبغي لنا أن نفعل بحياتنا هذه المتزمنة بزمن.
يجب أن ندرك أننا يجب أن نكون عُرضة للخطر وفي حالة مراوحة بين الشك واليقين. إننا نتميز بمعاناة الألم، والحزن على الخسارة، والقلق قبل الموت، وهكذا نتمكن من عيش حياتنا والاهتمام ببعضنا البعض
إن القدرة على طرح هذا السؤال هي الشرط الأساسي للحرية الروحية. فلكي أعيش حياة روحية حرة، بدلا من حياة تحددها الغرائز الطبيعية فحسب، يتعين عليّ أن أكون مسؤولا عما أفعله. مع أن هذا لا يعني أنني حر من القيود الطبيعية والاجتماعية. فنحن لم نولد بالقيود والعادات التي نلتزم بها. لقد شكلنا أهلنا والسياق التاريخي الجغرافي السياسي الاجتماعي الأوسع الذي ولدنا فيه قبل أن نتمكن من فعل أي شيء حيال ذلك. ودون المعايير الاجتماعية، التي لم أخترعها والتي تشكل العالم الذي أجد نفسي فيه، لا أستطيع أن أفهم من أكون أو ماذا أفعل. إنني لا أخضع لسيطرة الطبيعة أو المعايير فحسب، بل إنني أتصرف في ضوء تلك المعايير، وقد أضحي بحياتي من أجل مبدأ أتمسك به أو من أجل قضية أؤمن بها. وهذا هو معنى أن أعيش حياة روحية. لا بد أن أعيش دوما في علاقة بموتي الذي لا مفر منه، وإلا فلن يكون هناك أي شيء مهم ولن أتمكن من تكريس حياتي لأي شيء. إن أي شكل من أشكال الحياة الروحية لا بد وأن يحركه القلق من كوننا فانين، حتى في أعمق تحقق لأحلامنا.
ثم ما العيب في القلق؟ إن القلق الذي نشعر به قبل الموت لا يمكن اختزاله في حالة نفسية يمكن التغلب عليها، بل إن القلق هو حالة من الفهم تسمح لنا بعيش حياة حرة. العبيد هم الذين لا يقلقون. عبيد الأفكار المعلبة، "الفائضون عن الحاجة" بحسب نيتشه.
وما دامت حياتنا مهمة بالنسبة لنا، فلا بد أن يحركنا القلق من أن وقتنا محدود، وإلا لما وجدنا إلحاحا يحدونا للقيام بأي شيء. حتى لو كان مشروعك هو أن تعيش حياتك دون قلق نفسي قبل الموت فإن هذا المشروع لا يمكن فهمه إلا لأنك حريص على عدم إهدار حياتك في القلق قبل الموت. وفقط في ضوء الخوف من أننا سنموت، وأن حياتنا غير محددة النهاية ولكنها محدودة، يمكننا أن نسأل أنفسنا من جديد، عما ينبغي لنا أن نفعله بحياتنا.
على النقيض من ذلك، يجب أن ندرك أننا يجب أن نكون عُرضة للخطر وفي حالة مراوحة بين الشك واليقين. إننا نتميز بمعاناة الألم، والحزن على الخسارة، والقلق قبل الموت، وهكذا نتمكن من عيش حياتنا والاهتمام ببعضنا البعض. وهكذا نصل إلى أن حياتنا المشتركة هي هدفنا النهائي، وأن جوهر الحياة الروحية لا يكمن في الهدوء الفارغ الذي يسود السلام الأبدي، بل في الاعتراف بهشاشتنا وبحريتنا أيضا، وأنه لا بأس بمواجهة العواصف العاتية، فهذا ما يدل على كوننا أحياء.