في ذكرى رحيلها الخمسين... كتاب يستعيد أم كلثوم في ذاكرة الأتراك

صوتها وقف في وجه محاولة أتاتورك حظر الموسيقى الشرقية

STRINGER/AFP
STRINGER/AFP
أم كلثوم تؤدي حفلًا في قاعة الأولمبيا بباريس

في ذكرى رحيلها الخمسين... كتاب يستعيد أم كلثوم في ذاكرة الأتراك

اعتبرت أم كلثوم هدية مصر الى الشرق الأوسط في القرن الماضي، بتاريخها المثير للإعجاب بشكل غير عادي. وكان بين أكبر المعجبين بها بعد العرب في الثلاثينات هم الأتراك.

في كتاب "أم كلثوم والأتراك"، الصادر حديثا عن "دار مرفأ للثقافة والنشر"، ترجمة أحمد زكريا وملاك دينيز أوزدمير، الذي يأتي توقيت صدوره مواكبا للذكرى الخمسين لرحيل "كوكب الشرق"، يناقش الكاتب والناقد الموسيقي مراد أوزيلدريم بدايات حب الأتراك لأم كلثوم، وإعجابهم بصوتها وغنائها في إطار العلاقات الموسيقية التفاعلية بين العرب والأتراك، وتأثيرها على الحياة الموسيقية التركية، كما يسلط الكاتب الضوء على محاولات التغريب، وحظر الموسيقى التركية في الراديو والسينما. ويضيء هذا الكتاب على أهمية أم كلثوم بوصفها من أكثر الفنانين تأثيرا في المنطقة.

وحدة الروح والذوق الموسيقي

يتحدث المؤلف عن تاريخ قديم من التعايش بين العرب والأتراك، إذ أن عمق الجذور الحضارية للماضي التاريخي، الذي عاشوا معظمه في سلام، يمكنه أن يفهم بشكل أفضل سبب غناء اللحن الواحد باللغتين العربية والتركية. وبعيدا من الخلفية التاريخية، من الواضح أن الترابط في مجال الموسيقى يظهر بقوة في المناطق التي يعيش فيها مجتمعان معا، أو يقعان في مواقع جغرافية قريبة.

ويشير المؤلف إلى أن الفنانين المصريين الذين قدموا إلى القصر العثماني، أو الفنانين الأتراك الذين ذهبوا إلى مصر تحت حماية الخديوات، معروفون، وكان هؤلاء يكشفون عن آثار قوية للتفاعل المباشر خلال الحقبة العثمانية. ويؤكد الكاتب أن التفاعل بين الموسيقى العربية والتركية واضح في مجال الألحان، وكذلك في الأغاني والمواويل، ووحدة الأسلوب، واستخدام الآلات نفسها لمئات السنين، والتشابه حتى في محتوى الكلمات. ذلك يجسد مظاهر تبادل للروح نفسها، التي يمكن جمعها تحت اسم "الموسيقى الشرقية"، ويتضح ذلك في حلب وماردين وهاتاي واللاذقية، تغنى باللغتين العربية والتركية، وأحيانا باللغة الكردية أو الأشورية.

ويلفت الكاتب إلى أن بعض أوجه التشابه تظهر في جوانب مختلفة، مثل الأداء المسرحي والترتيبات الأوركسترالية بين أجد بيكان وفيروز، ومحمد عبد الوهاب ومنير نور الدين سلجوق، وعبد الحليم حافظ وأورهان جينجباي، ويلدريم جورسيس وجورج وسوف وهاقان تاشيان. وبالرغم من أن أصوات الفنانات التركيات لا تشبه صوت أم كلثوم، فإن هناك من يقلدن ظهور الفنانة على المسرح بالمنديل.

التفاعل بين الموسيقى العربية والتركية واضح في مجال الألحان، وكذلك في الأغاني والمواويل، ووحدة الأسلوب، واستخدام الآلات نفسها لمئات السنين

ويرى مراد أوزيلدريم أن العلاقات الموسيقية المشتركة بين العرب والأتراك أتاحت الفرصة للملحن والمؤدي المصري عبده الحامولي (1841-1901) أن يلتقي موسيقيين أتراكا في إسطنبول، حيث اصطحبه الخديوي إسماعيل (1830-1895)، معه إلى إسطنبول، وقد غنى الحامولي في حضرة السلطان عبد الحميد الثاني (1842-1918)، وكافأه السلطان، وأتيحت للحامولي الفرصة لإعادة تشكيل أنواع التواشيح والقدود التي أخذها من التراث الحلبي. وترجمت بعض الأغاني من العربية إلى التركية أو من التركية إلى العربية. وذلك مهد إلى التعايش بين الموسيقى السورية والتركية والمصرية، وحقق نقلة نوعية منذ نهاية القرن العشرين لجهة تعزيز الموسيقى العربية بشكل عام.

غلاف كتاب "أم كلثوم والأتراك"

ويشير مراد أوزيلدريم إلى أن صورة العرب المقدمة الى القارئ التركي في الأعمال الأدبية التركية في الفترة العثمانية، إيجابية للغاية. وفي الأعمال التي كتبها الأتراك، يقدم العرب إلى القارئ كشعب نبيل وخير. ومن الممكن أن نلتقط منهجا مماثلا في الشعر العثماني الذي صور العرب كشريف وصادق ونبيل.

أم كلثوم... القوة الناعمة

يتناول المؤلف تفاعل الجمهور التركي مع أغاني أم كلثوم (1898-1975)، التي جذبت الأنظار بجمال صوتها منذ صغرها، وأحيت حفلاتها في دمشق وبيروت وبغداد، عام 1932، فمكنت هذه الحفلات من انتشار شهرة الفنانة خارج مصر في وقت قصير. فمنذ ثلاثينات القرن الماضي، كان الأتراك أكبر المعجبين بأم كلثوم في الشرق الأوسط بعد العرب، حيث احتفظت أم كلثوم بمكانتها في ذاكرتهم، خاصة الذين يعيشون في المدن، وكانت جذبت انتباه الأتراك للمرة الأولى من خلال التسجيلات وحفلاتها في الإذاعة والأفلام، وبلغ هذا الاهتمام ذروته مع الأفلام المصرية الغنائية، ويبين الكاتب أن من أهم الأسباب التي أدت إلى متابعة أم كلثوم في تركيا، الحظر الذي فرضه كمال أتاتورك على بث الموسيقى الشرقية في الإذاعة التركية، حيث استيقظ الأتراك في صبيحة 2 نوفمبر/تشرين الثاني 1934، على وقع خبر صادم، يفيد بأن شكري كايا وزير الداخلية أصدر تعميما يمنع بث الموسيقى التقليدية التركية (الشرقية) بالكامل في البرامج الإذاعية، واستبدالها بالموسيقى الغربية أو الأعمال المؤلفة وفقا للموسيقى الغربية. في ظل هذه الأحداث، أصبحت حركة التغريب محسومة في كل مكان، وبالنسبة إلى الموسيقى الشرقية كان الهدف القضاء عليها، وتصويرها بأنها تنتمي إلى الماضي، وكانت الأقلام التي تدافع عن الموسيقى الشرقية والغربية تخوض معركة شرسة في أعمدة الصحف التركية.

جذبت أم كلثوم انتباه الأتراك للمرة الاولى من خلال التسجيلات وحفلاتها في الإذاعة والأفلام، وبلغ هذا الاهتمام ذروته مع الأفلام المصرية الغنائية

من هنا فضل الأتراك متابعة الذوق الموسيقي الذي اعتادوا عليه منذ قرون. من خلال ضبط أجهزة الراديو على الإذاعات العربية، وخاصة المصرية، بحيث غدا صوت "كوكب الشرق" هو الأقرب إلى ذائقة الجمهور التركي، الذي بات يسمعها عبر أثير إذاعة القاهرة.

ويقول السياسي التركي الراحل، البروفسور يالتشين طاش (1933-2016)، حول حظر الموسيقى التركية في الراديو وأم كلثوم: "لم تكن هناك موسيقى تركية في الراديو خلال سنوات طفولتنا وشبابنا... وحسب ما أذكر كنا نشغل إذاعة القاهرة المصرية، وكنا نسمعهم يقولون "هنا القاهرة"، وكانوا ينطقون اسم أم كلثوم، لم نتمكن من فهم الأغاني العربية التي غنتها أم كلثوم بصوتها الرائع الجلي، لكن موسيقاها كانت قريبة جدا منا".

FRANCE PRESSE VOIR / AFP
مصطفى كمال أتاتورك

أم كلثوم في الصحافة التركية

يتتبع المؤلف الأحاديث والمقابلات التي أجرتها الصحافة التركية مع عدد من الفنانين الأتراك عن أم كلثوم في مختلف الصحف والمجلات اعتبارا من ثلاثينات القرن الماضي. وكان أول مقال معروف حول هذا الموضوع هو لنيزن توفيق كولايلي، ونشر في صحيفة "جمهوريت" بتاريخ 1 ديسمبر/ كانون الأول 1930: "ليخلق لنا الشرق أم كلثوم أخرى، وسوف أتوقف عن عزف الناي!". ومما لا شك فيه أن جمال صوتها كان العامل الأول في صعود أم كلثوم إلى الشهرة الكبيرة في الثلاثينات. وظهر خبر آخر في مجلة "يديجون". في العدد 198 بتاريخ 23 ديسمبر/كانون الأول 1936، بعنوان "أم كلثوم.. بلبل الإذاعة المصرية"، وورد في المجلة، "من يدري كم مرة استمعتم فيها إلى أم كلثوم، الصوت الكريستالي لإذاعة القاهرة؟ إنها تطرب الناس بصوتها المتلألئ، وألحانها الرشيقة التي تسحر النفوس".

وكتب الصحافي التركي بيامي صفا (1899-1961)، في صحيفة "جمهوريت" في 8 مايو/ أيار 1932: "المغنية العربية الشهيرة أم كلثوم هانم"، إشارة إلى أن الفنانة المصرية بدأت تعرف في تركيا في سن مبكرة. وكما يؤكد صفا، فإن الموسيقى العربية والتركية تخاطب الروح لا العقل، ولهذا السبب، فإن العربي أو التركي العادي، سيجد بالتأكيد شيئا من روحه في ألحان الآخر، حتى لو كان لا يفهم اللغة. ومن اللافت، أن أم كلثوم كانت تربطها صداقات بعدد من الفنانين الأتراك، وحين سألها الصحافي أحمد نديم جللي "من تحبين من الفنانين الأتراك؟"، ذكرت عددا منهم: "بريهان ألتنداغ سوزري ومنير نور الدين بك وصفية هانم وبريهان هانم وأحمد يطمان".

كانت تربط أم كلثوم صداقات بعدد من الفنانين الأتراك، وحين سألها الصحافي أحمد نديم جللي "من تحبين من الفنانين الأتراك؟"، ذكرت عددا منهم

وتقدم مجلة "يني مجموعة" بتاريخ 23 فبراير/شباط 1940 أخبارا واسعة عن أم كلثوم، وقد ورد في المجلة "أن أم كلثوم، المغنية المصرية الشابة التي تصادفون صوتها الحارق والسحري في بعض الليالي ولا يمكنكم تركه، هي إلهة الصوت التي أثرت في العالم الإسلامي كله من الهند إلى داخل أفريقيا". كما خصصت مجلة "يلديز" عددين منفصلين لمحمد عبد الوهاب وأم كلثوم.

OZAN KOSE / AFP
رجل يقرأ صحيفة "جمهوريت" اليومية في إسطنبول

ويقول مراد كاراشاه عن جمهور الإذاعة: "بينما كان رجل عجوز يدخن سيجارته، قال ابحث لنا عن محطة العرب!". في الواقع كان هناك تأثير مذهل لأم كلثوم على جمهور السينما والإذاعة التركية في إسطنبول. وتصف صفية آيلا، وهي من الفنانين الأتراك الذين ذهبوا إلى مصر، لقاءها أم كلثوم على النحو التالي: "دعاني رئيس الوزراء العراقي نوري السعيد (1888-1958)، لتناول العشاء في فندق بارك قبل مغادرة إسطنبول. وبينما كنا نتحدث، علم بأنني سأذهب إلى مصر قريبا، اقترح عليّ مرافقته بجولة في أنقرة وأوروبا، لكنني اعتذرت، فأعطاني رسالة لأوصلها لأم كلثوم. وشدد بعناية على أنني يجب أن أسلم هذه الرسالة إلى الفنانة نفسها. وقال: "وبهذا الشكل تتعرفين عليها أيضا". عندما وصلت إلى مصر، علمت أن الرسالة التي أرسلت إلى أم كلثوم كانت في الواقع مرسلة إلى جنرال".

شهادات... عبور الزمن والحدود

يسعى المؤلف إلى تضمين ذكريات قيمة لبعض الشخصيات البارزة، الذين تمكن من الوصول إليهم، حيث كانوا يتابعون أم كلثوم عبر الراديو من مناطق مختلفة في تركيا. وذلك لدعم الكتاب بالمعلومات عن الراحلة أم كلثوم.

يقول مراد أوزيلديريم: "كان والدي المرحوم طلعت أوزيلديريم، يخبرني أن جدي محمد طلعت ألب، كان يستمع دائما بسرور إلى حفلات أم كلثوم في الإذاعة المصرية في الأربعينات، عندما كانوا يسكنون في إسطنبول في السلطان أحمد. وبالمثل، تروي والدتي سحر حبيب أوغلو أن جدي تحسين أوغلو كان يستمع إلى أم كلثوم في الإذاعة المصرية في منزلهم بمقاطعة تيريبولو التابعة لمدينة جيرسون التركية في الخمسينات. وتتذكر عدوية يلماز (1949-...) وزوجها عثمان يلماز (1948-...) وهما من قبائل تركمان البدو الرحل في مرسين، أنهما استمعا إلى أم كلثوم في منطقة إردملي على ساحل البحر الأبيض المتوسط في مرسين.

shutterstock
البيوت الحجرية القديمة لمدينة ماردين مع قلعتها

وهذه أمثلة جميلة تبين أن الأتراك الذين يعيشون في مناطق جغرافية مختلفة، منهم من هو قادم من روميليا، ومنهم من يعيش على الساحل الشرقي للبحر الأسود، كانوا يستمعون إلى أم كلثوم.

وكان أهالي ماردين يجلسون في الهواء الطلق، وعلى الأرائك الصيفية، وهم يستمعون إلى صوت أم كلثوم يتردد في المدينة، ومن ماردين كان تاجر الأقمشة الآشوري أو الكلداني فهمي شوحة ذهب شخصيا إلى حفل أم كلثوم في مصر خلال رحلة تجارية وشاهد الحفل بحماسة كبيرة.

بينما يقول إسماعيل إيجن (1939...)، وهو عازف كمان من ماردين: "كان والدي الراحل، الذي يستمع إلى حفلات أم كلثوم على الراديو في ليالي الخميس، ضرب رأسه مرارا على الراديو بينما كانت أم كلثوم تغني، وعندما لم تستطع والدتي فهم هذا الإجراء، كانت تسأله:" ماذا تفعل؟"، فيجيب: "إنك لا تعرفين، لو عرفت، لضربت رأسك أيضا".

كان أهالي ماردين يجلسون في الهواء الطلق، وعلى الأرائك الصيفية، وهم يستمعون إلى صوت أم كلثوم يتردد في المدينة

وكما تشير تلك المقابلات الشفهية مع عدد من الأتراك من أماكن مختلفة ثقافيا في تركيا مثل إسطنبول ومرسين وديار بكر وجيريسون وطرابزون وبورصة، حيث تعد مؤشرا مهما آخر الى أن أم كلثوم كانت فنانة معروفة، واستمع إليها الجمهور التركي لفترة من الوقت.

نفهم من ذلك أن الاهتمام بالإذاعات العربية لم يخفت في المناطق الريفية حتى خلال تلك الفترة التي كانت تبث فيها الموسيقى الغربية. في الواقع كان هناك تأثير مذهل لأم كلثوم على جمهور السينما والإذاعة التركية في إسطنبول. وذلك دفع بعض الأقلام التركية إلى أن تكتب إلى وزارة الداخلية التركية: "لقد قل اهتمام الناس باللغة التركية، في المدن الواقعة تحت تأثير الثقافة العربية، بسبب تأثير الأفلام العربية، وبالتالي يجب منع بث الأفلام باللغة العربية". ونتيجة لذلك جاء حظر الأفلام العربية عام 1942 بلغتها الأصلية.

AFP
أم كلثوم

يخلص المؤلف إلى أن أم كلثوم تقف أمامنا منذ سنوات كفنانة لا يمحى اسمها عن الحضارة الموسيقية المصرية في الشرق الأوسط، ويضيف أنها غزت قلوب الملايين بموسيقاها وصوتها الفريد وموهبتها. وأثرت بشكل كبير في الناس في منطقة شاسعة من المغرب إلى الخليج العربي.

يشار إلى أن المؤلف مراد أوزيلدريم، هو باحث موسيقي وأكاديمي تركي، ولد في سامسون عام 1970، تخرج في جامعة إسطنبول، كلية الآداب، قسم اللغات والثقافات القديمة (اللغة اللاتينية وآدابها). وحصل على الماجستير في جامعة إسطنبول، معهد العلوم الاجتماعية. عمل محاضرا في جامعة مرسين، قسم الآثار، بين عامي  1997 و2024. نشر كثيرا من الأبحاث حول العلاقات الموسيقية بين العرب والأتراك، صدر له كتاب "وحدة الموسيقى العربية والتركية في القرن العشرين" (2013)، وصدرت ترجمته العربية عام 2023.

font change