في ذكراها الثالثة... هل اقتربت ساعة نهاية الحرب في أوكرانيا؟

استنزاف عسكري وخسارة مستمرة للأراضي

رويترز
رويترز
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قبل حفل تنصيبه في الكرملين، موسكو في 7 مايو 2024

في ذكراها الثالثة... هل اقتربت ساعة نهاية الحرب في أوكرانيا؟

مع دخول الحرب الروسية على أوكرانيا عامها الرابع، يسود اعتقاد بأن هذا العام سيشهد نهاية للعمليات العسكرية الواسعة والانتقال إلى مفاوضات لا تتعلق فقط بإنهاء الحرب، ومصير المناطق الجنوبية الشرقية من أوكرانيا، بل اصطفاف الجمهورية السوفياتية السابقة سياسيا وعسكريا واقتصاديا. ومع نجاح اجتماعات الرياض في الأسبوع الماضي في كسر الجليد بين الولايات المتحدة وروسيا، بدا أن نتائج المفاوضات ستنعكس على طبيعة النظام الأمني المستقبلي في القارة الأوروبية، وشكل النظام العالمي الجديد، وعلاقة القوى العظمى والقوى الصاعدة عالميا. وبعيدا عن تأثير جهود وضغوط الرئيس الأميركي دونالد ترمب لإنهاء الحرب، فإن نقاط الضعف وحالة عدم اليقين لدى الطرفين المتحاربين بالحسم العسكري، إضافة إلى الكلفة البشرية والاقتصادية الهائلة دفعت عددا متزايدا من الروس والأوكرانيين دعم مفاوضات إنهاء القتال.

تقلبات في موازين القوى والتكتيكات

شهدت السنوات الثلاث الماضية من الحرب في أوكرانيا تقلبات كثيرة في موازين القوى، وتغيرات في تكتيكات القوات الروسية والأوكرانية، والانتقال من وضعية الهجوم إلى الدفاع عدة مرات. ففي بداية الحرب، 24 فبراير/شباط 2022، شنت القوات الروسية هجمات ضخمة، وعلى نطاق واسع من الجهات، بهدف حسم مسار الحرب سريعا. واستطاعت القوات الروسية بالفعل احتلال مساحات شاسعة من الأراضي الأوكرانية من ضمنها مدينة خيرسون الاستراتيجية، والوصول إلى ضواحي العاصمة كييف، خلال الأسابيع الأولى من الحرب، لكن ضعف اللوجستيات المتعلقة بالاتصالات وتأمين العتاد والوقود للقوات المتقدمة، وصمود القيادة الأوكرانية في كييف، ولاحقا تصاعد الدعم الغربي، أدت إلى تغييرات جذرية في طبيعة وشكل المعارك.

وأُجبرت القوات الروسية المهاجمة، في شهر أبريل/نيسان 2022، على الانسحاب من ضواحي كييف.

وركزت القوات الروسية لاحقا على جبهتي جنوب وجنوب شرق أوكرانيا، من أجل بناء جسر بري بين الأراضي الروسية وشبه جزيرة القرم، وسيطرت على الكثير من المدن الاستراتيجية، من أهمها ماريوبول، وجعلت بحر آزوف بحرا روسيا خالصا. وحققت القوات الأوكرانية مفاجأة من العيار الثقيل بنجاح الهجوم المعاكس الذي شنته في نهاية صيف، وخريف 2022، على الجبهتين الجنوبية والشرقية، واستعادت من خلاله أجزاء واسعة من مقاطعتي خيرسون جنوبا وخاركيف شرقا، بفضل منظومات الأسلحة الغربية الحديثة التي حصل عليها الجيش الأوكراني.

وبعد فشل الهجوم المعاكس الذي شنته القوات الأوكرانية، متأخرة لعدة شهور، صيف عام 2023، تحولت الحرب عمليا إلى حرب استنزاف، لم تغير كثيرا من طابعها على المستوى الاستراتيجي الهجمات المتبادلة التي تخللتها، وأبرزها توغل القوات الأوكرانية في مقاطعة كورسك الروسية الحدودية، في أغسطس/آب 2024، مع ملاحظة أن نجاح الأوكرانيين تكتيكياً في كورسك انقلب خسارة كبيرة في الجبهات وسط وجنوب دونباس في جبهات دونيتسك وزاباروجيا، وفي المقابل فإن التقدم الروسي كان مكلفا على مستوى الخسائر البشرية والعتاد.

بعد فشل الهجوم المعاكس الذي شنته القوات الأوكرانية، متأخرة لعدة شهور، صيف عام 2023، تحولت الحرب عمليا إلى حرب استنزاف

استنزاف القدرات البشرية والمادية

واجهت روسيا وأوكرانيا خلال ثلاث سنوات من الحرب خسائر كبيرة على صعيد القوة البشرية والمعدات العسكرية والذخائر وتوفير استمرار الدعم اللوجستي والإنفاق الدفاعي. حيث خسرت روسيا عددا كبيرا من الدبابات والعربات المصفحة والطائرات والمروحيات وقطع المدفعية. ولا يقتصر هذا على تدمير المعدات، بل أيضا على استهلاكها بشكل كبير. وتجعل العقوبات الغربية على روسيا من الصعب على روسيا تجديد أو استبدال الكثير من الأسلحة والمعدات الحديثة، مما يعوق إمكانية أن تحافظ قواتها على قدرة قتالية عالية.

بالإضافة إلى أن استهلاك الذخائر والصواريخ وقذائف المدفعية كان مرتفعا، مما يتطلب أن تستمر روسيا في تصنيع أو شراء المزيد منها. لكن العقوبات على القطاع الصناعي الروسي، وتقييد الوصول إلى التكنولوجيا المتقدمة، جعلت من الصعب أن تحافظ الصناعات العسكرية الروسية على وتيرة عالية في الإنتاج من الأسلحة الدقيقة تكفي للاستمرار في اعتماد الجيش الروسي على تكتيك الاستهلاك المفرط للقذائف والذخائر على الجبهات. ورغم ما سبق فإن "عسكرة" الاقتصاد الروسي مكنتها من إنتاج أربعة أضعاف ما تنتجه البلدان الأوروبية مجتمعة، حسب تقارير أوروبية.

ووفقا لما صرح به الجنرال ألكسندر سيرسكي، القائد العام للقوات المسلحة الأوكرانية، في مقابلة مع القناة الأوكرانية "TSN"، في 19 يناير/كانون الثاني الماضي، سُجِّل في الشهور الأخيرة من العام الماضي انخفاض في معدل استهلاك الجيش الروسي لذخيرة المدفعية إلى النصف تقريبا. فبينما كان الرقم سابقا يصل إلى 40 ألف قذيفة يوميا، أصبح 20 ألف قذيفة فقط، مقابل ارتفاع عدد القذائف التي يطلقها الجيش الأوكراني إلى 15 ألف قذيفة.

.أ.ب
جندي يطلق قذيفة من منظومة صواريخ "غراد" التابعة للجيش الأوكراني، في اتجاه مواقع روسية بالقرب من باخموت، منطقة دونتسيك، أوكرانيا، الخميس 24 نوفمبر 2022.

وفي الوقت ذاته، فإن الخسائر البشرية الكبيرة لا تعتبر مشكلة عسكرية كبيرة بالنسبة لروسيا، على المدى المنظور، لأنها ما زالت تستطيع تجنيد ما يكفي من جنود جدد والزج بهم إلى جبهات القتال بسبب الميزان الديموغرافي الراجح لصالحها. بالإضافة إلى حصولها على دعم من كوريا الشمالية بالجنود في مقاطعة كورسك. وعلى المدى الطويل من المتوقع أن يشكّل ما سبق معضلة شائكة بالنسبة لروسيا، لأن قواتها تخسر مع مرور الوقت جزءا كبيرا من خبراتها وكوادرها العسكرية عالية التدريب، ناهيك عن ردود الفعل المجتمعية السلبية على الخسائر الفادحة بالأرواح.

وفي المقابل، أصبحت أوكرانيا أيضا منهكة بعد ثلاث سنوات من القتال، وتعاني نقصا كبيرا في الأسلحة والذخائر، وصعوبات متزايدة في تعبئة الجنود. وتخسر البلاد المزيد من الأراضي على الجبهات، في عملية قضم تدريجي فرغم الدعم الغربي الكبير والمكثف لحقت بأوكرانيا خسائر فادحة في المعدات العسكرية، بما في ذلك دبابات ومدافع وطائرات مسيرة. ويبدو اليوم أن أوكرانيا لا يمكنها المراهنة على استمرار الدعم الغربي بالوتيرة السابقة، فالبلدان الأوروبية ليست قادرة على تعويض أوكرانيا عن توقف، أو تراجع الدعم العسكري الأميركي.

وأقر الرئيس الأوكراني في مقابلة له مع قناة "إن بي سي نيوز"، يوم الجمعة 16 فبراير/شباط الجاري، بأن فرصة أوكرانيا ستكون ضئيلة للبقاء على قيد الحياة دون دعم الولايات المتحدة.

الخسائر بالأرقام

يحجم الجانبان عن كشف الخسائر، ووفقا للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (IISS)، خسرت روسيا منذ بداية العدوان في فبراير/شباط 2022 وحتى مطلع 2025، ما لا يقل عن 783 ألف جندي وضابط، ويشمل ذلك 172 ألف قتيل و611 ألف جريح، من بينهم 376 ألفا أصيبوا بجروح خطيرة أدت إلى إعاقة وعدم القدرة على مواصلة الخدمة العسكرية، أما الآخرون فقد أصيبوا بجروح يمكن الشفاء منها وعادوا إلى الخدمة.

وفيما يتعلق بخسائر المركبات المدرعة، يقدر محللو المركز أن قوات الدفاع الأوكرانية قد عطلت ما يقرب من 1400 دبابة قتال رئيسة وأكثر من 3700 مركبة مشاة قتالية وناقلات جنود مدرعة تابعة للجيش الروسي. وإجمالا، منذ 24 فبراير 2022 وحتى نهاية ديسمبر/كانون الأول 2024، بلغت خسائر روسيا من المركبات المدرعة حوالي 14 ألف مركبة قتالية.

وبالنسبة لخسائر الجانب الأوكراني تختلف التقديرات حول الخسائر البشرية التي لحقت بالقوات المسلحة الأوكرانية. غير أنه وفقا لصحيفة "بوليتكو" الأميركية، كشف الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، في 9 ديسمبر 2024، عن مقتل 43 ألف جندي أوكراني، وجرح 370 ألفا آخرين، منذ بداية الحرب 2022. وتؤكد الكثير من المصادر أن عدد القتلى أعلى بكثير من الرقم الذي قدمه زيلينسكي، فهذا الرقم يتعلق بالمراحل الأولى من الحرب. 

شاترستوك
وحدة دفاع جوي تابعة للقوات المسلحة الأوكرانية، والمعروفة باسم صائدي الطائرات بدون طيار، تضيء السماء بكشاف ضوئي قوي في الليل في موقع في منطقة كييف في أوكرانيا

وإلى جانب أعداد القتلى العسكريين، قالت مصادر في الأمم المتحدة، في يناير/كانون الثاني الماضي، إن حوالي 12300 ألف مدني أوكراني قتلوا خلال ثلاث سنوات من الحرب.

ولا توجد تقديرات مؤكدة حول حجم الأسلحة والمعدات التي خسرتها أوكرانيا منذ بداية الحرب. لكن بعض التقارير، استنادا إلى بيانات مفتوحة، تشير إلى أن أوكرانيا فقدت 700 دبابة، و800 ناقلة جنود، و900 عربة قتال مدرعة، وما يقارب 80 طائرة مقاتلة.

تحديات اليوم التالي إذا توقفت الحرب

يرى خبراء غربيون أن أحد شروط نجاح إيجاد تسوية سياسية للحرب الأوكرانية يتطلب تغيرات داخلية في روسيا وأوكرانيا. ويحذر الخبراء من أن التحديات التي من المرجح أن تواجه موسكو وكييف بعد وقف الحرب قد تدفع نحو مواصلة الحرب، في مسعى سيبذله كل طرف لتقريب شروط التسوية ومخرجاتها من مطالبه.

على الرغم من أن 79 في المئة من الروس يدعمون توقيع معاهدة سلام مع أوكرانيا، بحسب دراسة أجرتها مجموعة الأبحاث "راشان فيلد" في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. وتأييد 52 في المئة من الأوكرانيين إجراء مفاوضات مع روسيا لإنهاء القتال، وفقا لاستطلاع أجرته مؤسسة "غالوب" في الشهر نفسه.

من المتوقع أن تمر أوكرانيا بمرحلة عدم استقرار سياسي، وأن يواجه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي وحكومته ضغوطا هائلة لإعادة بناء البلاد واستعادة الاستقرار

ومن المتوقع أن تمر أوكرانيا بمرحلة عدم استقرار سياسي، وأن يواجه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي وحكومته ضغوطا هائلة لإعادة بناء البلاد واستعادة الاستقرار. وقد تنشأ قوى معارضة داخلية تطالب بإصلاحات سياسية جذرية، تضع المستقبل السياسي للرئيس زيلينسكي والمقربين منه على المحك. مع الإشارة إلى أن الانتخابات الرئاسية الأوكرانية كان من المقرر إجراؤها في نهاية مارس/آذار 2024، لكن هذا الاستحقاق أُلغي في ظل استمرار الحرب، وانتهت ولاية زيلينسكي في 20 مايو/أيار الماضي. وستعاني البلاد من انقسامات في المجتمع ستخلفها الحرب، حيث قد يظهر قلق بشأن القومية والهوية الوطنية، خاصة في المناطق التي شهدت معارك عنيفة أو التي ستبقى خاضعة للسيطرة الروسية.

بالإضافة إلى ما سبق، ستعترض التعافي الاقتصادي لأوكرانيا عقبات هائلة، تتمثل في إعادة بناء البنية التحتية المدمرة، مثل الطرق والجسور والمرافق العامة والمستشفيات والمدارس. والانكماش الشديد في الاقتصاد، مع انخفاض كبير في الناتج المحلي الإجمالي، وتراجع في الإنتاج الصناعي والزراعي.

أ.ف.ب
الرئيس الأميركي دونالد ترمب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال قمة مجموعة العشرين في أوساكا في 28 يونيو 2019

ما يؤكد أن عودة الأوضاع الاقتصادية في أوكرانيا إلى ما كانت عليه قبل الحرب ستستغرق وقتا طويلا. ويزيد من صعوبتها الأطماع الأميركية في الثروات الطبيعية الأوكرانية. فضلا عن أن ملايين الأوكرانيين الذين فقدوا منازلهم سيكونون بحاجة إلى إعادة توطينهم ودمجهم في المجتمع، الأمر الذي سيشكل تحديات إنسانية واجتماعية ومالية ضخمة.

وبدورها ستواجه روسيا أيضا في اليوم التالي للحرب تحديات اقتصادية وسياسية واجتماعية كبيرة. ففي حال استمرار العقوبات الغربية، وهذا مرجح في المدى المنظور، ستعيق هذه العقوبات إمكانية استعادة الاقتصاد الروسي لوضعه الطبيعي، لا سيما إذا بقيت العقوبات لفترة طويلة.

وقد يعاني الاقتصاد الروسي من ركود وانكماش طويل الأمد، مع تراجع واردات قطاعي النفط والغاز اللذين يشكلان جزءا كبيرا من عائدات الدولة. علاوة على ذلك، ستكون هناك حاجة لإعادة بناء بعض القطاعات التي تضررت بسبب الحرب. وسيتأثر القطاع الخاص الروسي بقوة بالعقوبات الغربية، خاصة الشركات الروسية العاملة في قطاع التكنولوجيا والابتكار.

بدورها ستواجه روسيا أيضا في اليوم التالي للحرب تحديات اقتصادية وسياسية واجتماعية كبيرة. ففي حال استمرار العقوبات الغربية

وعلى المستوى السياسي، من غير المستبعد أن تظهر انقسامات داخل النخبة الروسية بشأن مستقبل البلاد بعد الحرب، خاصة إذا فشلت الحكومة في تحقيق أي انتصارات ملموسة، أو عدم تحقيق الأهداف التي تم الترويج لها كسبب للحرب. وقد يواجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وحكومته تحديات سياسية كبيرة، وغير مسبوقة، بعد توقف الحرب، حيث سيكونون تحت ضغط من الشعب الروسي الذي قد يعبر عن استيائه من الخسائر البشرية والاقتصادية الكبيرة.

وفي المحصلة الإجمالية، حتى لو توقفت الحرب الأوكرانية ستترك بصمتها العميقة على العالم، سواء من الناحية السياسية أو الاقتصادية أو الإنسانية. فتوقفها لن يعني نهاية التحديات، فهذه الحرب شكلت نقطة تحول في العلاقات الجيوسياسية، حيث أعادت تشكيل التحالفات العالمية وزادت من حدة الانقسامات بين الشرق والغرب. كما أنها كشفت عن مدى هشاشة الأمن الأوروبي وأعادت النقاش حول أهمية الردع العسكري والدبلوماسي، وسيستمر هذا النقاش خلال الفترة القادمة، لأن خطة الرئيس ترمب تتحدث عن تجميد الحرب، وليس تسوية سياسية تعالج جذور الأزمة، على أسس متوازنة.

font change