جازان منطقة تقع في أقصى الجنوب الغربي من المملكة العربية السعودية. عاصمتها هي جازان كما يقول لها بعض أهلها، والبعض الآخر يقول لها جيزان. والأرجح أن جيزان هي المدينة العاصمة لمنطقة جازان، أو هكذا كانت، ثم غلب عليها اسم المنطقة. مهما يكن، فهي جيزان أو جازان، المدينة الجميلة التي تقع على ساحل البحر الأحمر. كان لي أن أزورها مؤخرا، بدعوة من هيئة الأدب والنشر والترجمة في السعودية، للمشاركة في فعاليات معرض الكتاب الذي يقام فيها للمرة الأولى. وذلك من 11 إلى 18 فبراير.
في المدينة حركة ثقافية تتمثل في الكثير من الكتّاب والشعراء والنقاد والمهتمين بقضايا الأدب والمتابعين. وكان لقائي بهم في غاية السلاسة والألفة. وبات لي من بينهم أصدقاء سأتابع التواصل معهم. وما ذكرتُهُ من سلاسة وألفة ينسحب على حُسن التنظيم للمعرض وفعالياته. فكل من التقيتُهم يتميّزون بالدماثة واللطف، ويجعلونك تشعر وكأنك بين أهلك.
في الأمسية التي أحييتُها كان الحضور مميّزا، تقدمتْه نخبة من الأدباء. قرأت في بدايتها قصيدتين. ثم انتقلنا إلى حوار في الشعر وقضاياه، أداره معي دكتور محمد عاتي، وشارك فيه أشخاص من الحاضرين. كان الحوار حيويا ودافئا وعميقا. وبعد الأمسية أخذنا بعض الأصدقاء إلى جلسة لطيفة خارج المعرض لمتابعة أحاديثنا. ومن بينهم الشاعران محمد إبراهيم يعقوب وعلي الحازمي، اللذان أهدياني دواوين لهما. كذلك تلقيت كتبا أخرى في القصة والرواية.
لم يتسنّ لي حتى الآن أن أقرأ هذه الكتب. إلا أنني تصفّحت الأعمال الكاملة لمحمد إبراهيم يعقوب، الذي شكل مفاجأة سارّة بالنسبة إليّ، جعلتني أشعر بالتقصير لأنني لم أقرأ سابقا الكثير من الشعر الذي يصدر في المملكة.
كتابة يعقوب الشعرية تتميز بلغة صافية، تنمّ عن تمكن واضح. هذا التمكن يتجلى في حسن التصرف بتأليف العبارات من جهة، وفي التفنن في استخدام الأوزان من جهة ثانية. الأعمال الكاملة ليعقوب تقع في جزأين يضمان عشر مجموعات، أحدثها في آخر الجزء الثاني، صدرت في عام 2022، وعنوانها "مجازفة العارف". وفي هذا العنوان ما يشي بأجواء صوفية نجدها في القصائد التي يُبنى بعضها على "العمود"، ويُبنى بعضها الآخر على التفعيلة. وفي خلالها نجد أكثر من إشارة إلى "النفري" وإلى أقوال من كتابه المشهور "المواقف والمخاطبات".
التفنن ليس في استخدام الوزن وحده، وإنما يظهر أيضا في استخدام القوافي، التي يحسِن الشاعر سوْقَها بسلاسة لا تُشعر القارئ بتعمّد أو تكلف
ولكن الأهم في قصائد يعقوب هو ما يرمي إليه من تجديد أو تحديث في القصيدة الموزونة، وخصوصا العمودية. وهذه المهمة تبدو لديه جادة ومثمرة. من ذلك مثلا هذه الأبيات من قصيدة بعنوان "حالة التباس":
خطَّ في الضوء باسمه
ما به الضوء يُقرأُ
وانتمى لانكشافه
كلُّ كشف تنبّؤُ
سال ذكرى خسارة
في الخسارات لؤلؤُ
التفنن ليس في استخدام الوزن وحده (والشاعر لا يحصر نفسه في الأوزان الشائعة، بل يميل أحيانا إلى غير الشائع منها)، وإنما يظهر أيضا في استخدام القوافي، التي يحسِن الشاعر سوْقَها بسلاسة لا تُشعر القارئ بتعمّد أو تكلف، وإن كانت هي أيضا غير شائعة في الشعر بعامة، أي غير مستخدمة كثيرا. والأمر لا يقتصر على التفنن بالوزن والقافية، بل يتعدى ذلك إلى ابتكار الصور والرؤى الجديدة. وهنا مثال آخر:
لأنني فيكِ لم أخطئ ولم أصِبِ
آثرتُ أن أترك الأسباب تذهب بي
جرّحتُ تفاح أيامي وجرّحني
ولم أذق غير ترحالي ومنقلَبي
خذي يقيني وضيعي فيَّ لستُ أنا
إذا تخلّيت عن شكّي وعن تعبي
لقد حمّستني قراءتي السريعة هذه لبعض قصائد محمد إبراهيم يعقوب. حمّستني نحو المزيد من الاطلاع على النتاج الأدبي في جازان وفي غيرها من المناطق السعودية. وها أنا الآن أعِدُ نفسي بقراءة ما زوّدني به الأصدقاء الجازانيون من كتب في الشعر أو القصة أو الرواية.
عُدنا، أنا وزوجتي، من زيارتنا القصيرة إلى جازان بانطباعات جميلة جدا، ستترك في ذاكرتنا صُورا مؤثرة. لقد تعرّفنا، ولو بسرعة، إلى تلك المدينة الساحلية بطابعيْها الحديث والقديم (التراثي). وكان لنا أن نتزود بأجمل الذكريات إزاء جميع الأشخاص الذين التقيناهم، وأن نأخذ فكرة عن حيوية المشهد الثقافي الذي يعِدُ بالكثير. فمعرض الكتاب الأول في جازان لن يكون سوى بداية لنشاطات ثقافية مقبلة.