العلاقات الاقتصادية بين الجزائر وفرنسا الى مزيد من التصدع

تراجع التبادل التجاري وانسحاب شركات ومصارف... شح الاستثمارات الفرنسية وصادراتها من القمح تتراجع 80%

رويترز
رويترز
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، خلال قمة مجموعة السبع الاقتصادية، في بروغو إنيازيا في إيطاليا، 14 يونيو 2024

العلاقات الاقتصادية بين الجزائر وفرنسا الى مزيد من التصدع

بعد أن توالت فصول الأزمة الديبلوماسية بين الجزائر وفرنسا، أثير نقاش ساخن عن التداعيات والتبعات الاقتصادية السلبية على البلدين. ومنذ مدة، لم نعد نسمع عن إبرام اتفاقات ثنائية جديدة تخص الاستثمار والتجارة، وانحسر الحضور الفرنسي للأعمال بشكل لافت خلال السنوات الثلاث المنصرمة، في مقابل تعزيز الجزائر شراكاتها الاقتصادية مع دول أخرى على غرار أميركا والصين وتركيا وقطر، وإيطاليا، والسعودية، وألمانيا.

انطلاقا من هذه المعطيات، ثمة تساؤلات مهمة تطرح بإزاء هذا المشهد: ما الذي تغير اقتصاديا اليوم؟ ومن المستفيد والخاسر منها؟ وما هي مكامن القوة والضعف لكل طرف من المعادلة الحالية؟

في نظرة إلى الأوضاع الاقتصادية بين البلدين على كل الصعد، أظهرت أرقام رسمية نُشرت في وكالة الأنباء الجزائرية بعنوان "الجزائر - فرنسا: عن أي مساعدة للتنمية نتحدث؟"، تسجيل استثمارات فرنسية شحيحة في الجزائر توازي 2,5 مليار دولار، وهو رقم بعيد كل البعد عن حجم الاستثمارات الأجنبية الأخرى في البلاد على غرار أميركا وتركيا وإيطاليا وقطر وسلطنة عمان ومصر وغيرها من الدول الصديقة.

التبادل التجاري بين البلدين بلغ نحو 11,8 مليار دولار في عام 2023 ، إلا أن هذا الرقم مرشح جدا للتراجع، لا سيما مع بروز العديد من المتغيرات أهمها استبعاد الجزائر القمح الفرنسي من عروض المناقصات

وكشفت الوكالة: "نجد في الاقتصاد الجزائري صادرات فرنسية بلغت قيمتها 3,2 مليارات دولار في 2023، تتركز معظمها في القطاعات المالية والمصرفية وبعض الفروع الصناعية الأخرى على غرار إنتاج مواد البناء والأدوية. وهناك أيضا قطاع المحروقات من خلال الشركات المتخصصة في التنقيب والإنتاج وغيرها في إطار الشراكة مع شركة "سونطراك" النفطية.

وعلى الرغم من أن التبادل التجاري بين البلدين بلغ نحو 11,8 مليار دولار في عام 2023، وإقرار الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون في حوار أجراه مع جريدة "لوبينيون" (l'Opinion) الفرنسية باستمرار العلاقات التجارية في ظل "المناخ السام" بين البلدين، فإن هذا الرقم مرشح جدا للتراجع، لا سيما مع بروز العديد من المتغيرات أهمها استبعاد الجزائر القمح الفرنسي من عروض المناقصات.

أ.ف.ب.
ساحة الأمير عبد القادر وسط العاصمة الجزائر، 5 سبتمبر 2024

ووفقا لما صرح به بينوا بييتريمان، وهو رئيس المجلس الفرنسي للمحاصيل الكبرى، "فرانس أغري مار"، في ندوة صحافية عقدها في نهاية يناير/ كانون الثاني الماضي، فقد توقع أن تتعرض صادرات الحبوب الفرنسية، وخصوصا القمح، لضربة موجعة هذا الموسم. وبحسب تصريحات المسؤول الفرنسي، فإن القمح الفرنسي والحبوب بصفة عامة تواجه ضربات متتالية بسبب إغلاق الجزائر الباب أمام الصادرات من فرنسا، إذ تراجعت قيمة واردات الجزائر من الحبوب الفرنسية، لا سيما القمح، من 834 مليون يورو سنة 2022، إلى 166 مليون يورو سنة 2023، وفقا لبيانات فرنسية رسمية.

وتُقدّر نسبة تهاوي صادرات القمح الفرنسية إلى الجزائر بنحو 80 في المئة خلال سنة واحدة، في وقت بلغت صادرات المحروقات الجزائرية إلى فرنسا سقف 15,3 في المئة لتصل إلى 6 مليارات يورو (13 في المئة من صادرات المحروقات الجزائرية التي بلغت قيمتها 50 مليار دولار في عام 2023)، 51,8 في المئة منها للغاز بمختلف أنواعه و48,2 في المئة نفطا خاما.

طالت سهام التوتر الديبلوماسي المتصاعد وغير المسبوق بين الجزائر وفرنسا شركات باريس الكبرى الناشطة في هذا البلد العربي، إذ فقدت حصصا معتبرة في السوق الجزائرية

وقد سُجلت هذه القفزة في صادرات النفط والغاز الجزائريين إلى فرنسا في وقت قررت فيه دول الاتحاد الأوروبي خفض اعتمادها على الغاز الروسي مباشرة عقب اندلاع الحرب في أوكرانيا في فبراير/ شباط 2022.

انحسار الاستثمارات الفرنسية لمصلحة دول أخرى

اللافت أيضا، أن فرنسا لم تعد مميزة كما في السابق بعد أن تراجعت حصتها في السوق الجزائرية أمام منافسين آخرين على غرار إيطاليا، ألمانيا، تركيا، روسيا وقطر التي أبدت رغبتها في تعزيز التعاون الاقتصادي لا سيما في مجالات التجارة والاستثمار، وأخيرا الصين التي أصبحت أهم ممون للجزائر، لتزحزح بذلك مكانة فرنسا التقليدية لسنوات عدة.

Shutterstock
تراجع الشراكة الاقتصادية بين الجزائر وفرنسا على أثر الأزمات المتكررة

وأصابت سهام التوتر الديبلوماسي المتصاعد وغير المسبوق بين الجزائر وفرنسا شركات باريس الكبرى الناشطة في هذا البلد العربي، إذ فقدت حصصا معتبرة في السوق الجزائرية، والبداية كانت مع شركة "راتيبي باريس" المتخصصة في النقل بالسكك الحديد ومترو الأنفاق (كُلفت تسيير وصيانة مترو أنفاق العاصمة منذ عام 2011) والتي غادرت الجزائر في أكتوبر/ تشرين أول 2020 بعد إعلانها عدم تجديد التعاقد معها. الوضع نفسه شهده مجمع "سياز" الفرنسي، الذي كان  مسؤولا عن إدارة تسيير المياه والصرف الصحي في العاصمة الجزائرية، وتم تجديد عقده ثلاث مرات ما بين 2006 و2021 وتعاقب على رئاسة الشركة أربعة مديرين عامين جميعهم من الجنسية الفرنسية، كذلك توقف مصنع سيارات "رينو" الفرنسية عن الإنتاج عام 2020.

رحيل "كريدي أغريكول" بعد سحب رخصته!

ومن الأدلة الدامغة التي تؤكد انحسار النشاط الفرنسي في الجزائر، مغادرة مصرف "كريدي أغريكول" الذي يطلق عليه أيضا البنك الأخضر، وهو أحد أكبر المصارف الفرنسية على الأراضي الجزائرية، بعد أن سحب البنك المركزي الجزائري رخصة نشاطه اثر دخوله البلاد عام 2007. وفي عام 2023، انسحبت شركة "توتال" الفرنسية من مشروع مصنع بتروكيمياويات كبير في مدينة وهران في غرب البلاج بالشراكة مع شركة المحروقات الجزائرية "سونطراك". 

الاستثمارات أو الفرص الفرنسية في الجزائر بدأت تتلاشى بعد تبني الجزائر سياسة جديدة لتنويع موارد الاقتصاد

جمال الدين شرياف، أستاذ الاقتصاد في جامعة الجزائر

وقبل أسابيع قليلة فقط، قررت شركة "ميشلان" الفرنسية المتخصصة في صناعة العجلات والإطارات مغادرة السوق الجزائرية بعد 60 عاما من وجودها فيها، وقد بدأت الشركة نشاطها في عام 1963 وتوقفت عن الإنتاج المحلي عام 2013 بعد أن كانت تُسير مصنعا لإنتاج إطارات الشاحنات في منطقة باش جراح.

من المستفيد والمتضرر من تبني تنويع موارد الاقتصاد؟

تشير هذه التطورات بوضوح إلى أن الخاسر الأكبر من الأزمة السياسية والديبلوماسية القائمة هي فرنسا التي وصل عدد شركاتها العاملة في الجزائر إلى 400 شركة بحسب تصريحات حديثة أدلى بها رئيس الغرفة التجارية والصناعية الجزائرية الفرنسية ميشال بيزاك، وكانت تجني أرباحا تتراوح بين 8 و9 مليارات دولار سنويا، لا سيما خلال حقبة الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة، بينما لا يتجاوز عدد الشركات الجزائرية العاملة هناك أصابع اليد الواحدة.

ويوجز أستاذ الاقتصاد في جامعة الجزائر، جمال الدين شرياف، قائلا إن "الاستثمارات أو الفرص الفرنسية في الجزائر بدأت تتلاشى بعد تبني الجزائر سياسة جديدة لتنويع موارد الاقتصاد، فالسوق المحلية، وعلى مدار العقدين الماضيين، كانت سوقا استهلاكية بحتة لكل المنتوجات الأوروبية والعالمية، وهو ما أزعج كثيرا فرنسا". وهنا يمكننا الاستدلال بتصريحات سابقة أدلى بها السفير الفرنسي الأسبق كزافييه درانكور، قال فيها إن "الجزائر اختارت شركاء آخرين على غرار الصين وتركيا وكوريا" وهناك دول أوروبية أخرى تنافس بلاده على غرار ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا. وأوضح الديبلوماسي الفرنسي في حوار لـ"راديو الجنوب" الفرنسي، أن "بلاده كانت أكبر مورد للقمح الى الجزائر قبل أن تتوجه هذه الأخيرة إلى روسيا منذ نحو سنتين".

وعلى الرغم من الانفتاح الديبلوماسي على التكتلات العالمية كمنظمة "شنغهاي"، فإنها أظهرت رغبتها في تعزيز التبادلات الرفيعة المستوى بين البلدين وفق عقيدة جديدة قوامها الندية واحترام سيادة الدولتين والنأي عن سلوكيات التدخل في الشؤون الداخلية. ويقول جمال الدين شرياف إن "الجزائر دعت مرارا وتكرارا للجلوس إلى طاولة المفاوضات من أجل إثراء الاتفاقات والتوصل إلى أرضية وفاق جديدة وفق مبدأ رابح – رابح والموافقة على ولوج المنتج الجزائري للأسواق الفرنسية، وهو مطلوب هناك بقوة من طرف أفراد الجالية الجزائرية، والأمر ذاته ينطبق على المنتج الفرنسي".

أ.ف.ب.
مقر شركة "توتال" الفرنسية، في باريس، 14 سبتمبر 2023

وفي وقت كانت تتسابق فيه العديد من الدول للظفر باستثمارات أجنبية مباشرة، لا سيما بعد دخول قانون الاستثمار الجديد حيز التنفيذ، سجلت استثمارات شحيحة بين البلدين. وللتدليل على هذا المعطى، يقول المحلل الاقتصادي إن "الاستثمارات المسجلة عقيمة غير مولدة للثروة ولم تراع إطلاقا متطلبات سوق العمل كما أنها غير ناقلة للتكنولوجيا".

وفي ضوء هذه المعطيات، لا يمكن إلا الاستنتاج أن فرنسا أهدرت الكثير من الفرص التي لو استغلت بشكل صحيح لربما خرج اقتصادها بأقل الأضرار، لا سيما بعد انفتاح الجزائر على السوق الأفريقية بهدف تشكيل كيان اقتصادي وسياسي متكامل للنهوض بالتنمية من جهة، ومن جهة أخرى للحصول على مكاسب العملة الصعبة وتسويق المنتوجات الوطنية، وتشجيع الاستثمار والصناعة الموجهة للتصدير. ويشير جمال الدين شرياف إلى أن "العديد من الشركات الكبرى أبدت رغبتها بالاستثمار في الجزائر خلال الفترة المقبلة لا سيما مع عودة الثقة في المناخ الاستثماري، والدليل على ذلك القفزة التي حققتها الاستثمارات المحلية والأجنبية خلال الأشهر التي تلت صدور قانون الاستثمار الجديد ودخول نصوصه التطبيقية حيز التنفيذ". وتكشف أحدث الإحصاءات الصادرة عن الوكالة الجزائرية لترقية الاستثمار عن تسجيل 1605 مشاريع مسجلة خلال أقل من 150 يوما (من 1 نوفمبر/تشرين الثاني 2022 إلى 23 مارس/آذار 2023)، واحتل قطاع الصناعة ريادة المشاريع الجديدة، في حين تم تسجيل 35 مشروعا أجنبيا، بين استثمارات مباشرة أو شراكات.

font change