أوكرانيا... حقائق جديدة وتحديات قديمة لأوروبا

ثلاث سنوات من الحرب بين موسكو وكييف

Axel Rangel Garcia
Axel Rangel Garcia

أوكرانيا... حقائق جديدة وتحديات قديمة لأوروبا

تحل الذكرى الثالثة لاجتياح روسيا لأوكرانيا وسط قلق متزايد بين القادة الأوروبيين. فقرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب بالانخراط في محادثات مباشرة مع روسيا في المملكة العربية السعودية– من دون الأوروبيين والأوكرانيين– تنازل كبير لصالح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وإهانة صريحة لكل من بروكسل وكييف. إن عداء ترمب الواضح لفلوديمير زيلينسكي وإصراره على المضي في اتفاق السلام الذي وعد به خلال حملته الانتخابية قد تترتب عليهما عواقب وخيمة، ليس فقط على أوكرانيا، ولكن أيضا على الأمن الأوروبي على المدى البعيد. يسعى القادة الأوروبيون جاهدين للتكيف مع الواقع الجديد الذي فرضته سياسات ترمب، لكنهم يواجهون تحديات مألوفة، أبرزها تشكيل جبهة موحدة رغم هشاشتها المتأصلة.

واقع جديد

تلقت أوروبا سلسلة من الصدمات السياسية في فبراير/شباط نتيجة توجهات إدارة ترمب الجديدة، جاءت أولاها عندما أعلن وزير الدفاع الجديد، بيت هيغسيث، أن الولايات المتحدة لن تكون بعد الآن "الضامن الرئيس لأمن أوروبا". وبعد ذلك بأيام، صرح نائب الرئيس، جي دي فانس، خلال مؤتمر ميونيخ الأمني، بأن "العدو الداخلي" يشكل تهديدا أكبر على أوروبا من روسيا أو الصين. ثم مضى إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث أبدى دعما ضمنيا لحزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني المتطرف، من خلال لقائه بزعيمه قبيل الانتخابات الألمانية، بينما تجاهل عمدا المستشار أولاف شولتز.

على أن الأسوأ كان على الطريق، فبعد يومين فقط، انقلب ترمب على سياسة العزل التي تبنتها إدارة بايدن تجاه موسكو، وأجرى مكالمة طويلة مع بوتين، تلاها في 18 فبراير اجتماع بين مسؤولين أميركيين، بقيادة وزير الخارجية ماركو روبيو، بوفد روسي في الرياض لمناقشة الأزمة الأوكرانية. ولم يقتصر الأمر على استبعاد أوكرانيا والقوى الأوروبية عن هذه المحادثات الأولية، بل إن ترمب بدا، في أعقابها، وكأنه يحمل كييف مسؤولية الحرب بدلا من موسكو. ولم يكتفِ بذلك، بل دعا إلى إجراء انتخابات رئاسية في أوكرانيا، ما يمكن أن يمهد الطريق لإقصاء زيلينسكي– وهو السيناريو الذي طالما سعى إليه بوتين. وبعد أيام قليلة، صعّد ترمب من حدة خطابه، واصفا زيلينسكي بأنه "ديكتاتور".

في مواجهة هذا التحول الزلزالي في السياسة الأميركية، اجتمع القادة الأوروبيون الرئيسون في باريس قبل يوم واحد من المحادثات التي استبعدوا منها في الرياض

تشير هذه التطورات مجتمعة إلى تحول جوهري في العلاقات الأميركية-الأوروبية. فقد أسقط ترمب اثنتين من الركائز الأساسية لاستراتيجية "الناتو" منذ عام 2022: استبعاد روسيا من المفاوضات، وإشراك كييف في أي قرارات تتعلق بمستقبل أوكرانيا. وباستهداف زيلينسكي والدفع نحو إجراء الانتخابات المؤجلة منذ 2024، يزيد ترمب إضعاف موقف كييف. وأثار اجتماع الرياض احتمالا مقلقا بأن واشنطن قد تعقد صفقة فوق رأس أوكرانيا، ما قد يجبر كييف على الاختيار بين قبول تسوية غير مواتية أو المخاطرة بفقدان الدعم العسكري الأميركي بالكامل. وزاد الأمرَ سوءا اهتمام ترمب بالحصول على 500 مليار دولار من المعادن الأوكرانية الاستراتيجية كتعويض عن المساعدات العسكرية السابقة، ما يعزز الشعور بأن التزام واشنطن العميق بالدفاع عن أوكرانيا قد غدا من الماضي.

وفي المقابل، لا يزال معظم الحكومات الأوروبية ينظر إلى أوكرانيا باعتبارها الخط الأول في مواجهة أطماع روسيا التوسعية. وبالنسبة لهم، لا يقتصر خطر بوتين على أوكرانيا، فلو نجح بوتين من خلال التفاوض مع ترمب في الاحتفاظ بمساحات واسعة من الأراضي الأوكرانية، وتقييد احتمالات انضمام كييف إلى حلف شمال الأطلسي أو الاتحاد الأوروبي، وإعادة أوكرانيا إلى منطقة نفوذ روسيا، لأمكن أن تتجرأ موسكو على محاولة القيام بشيء مماثل في منطقة البلطيق أو أوروبا الشرقية.

 رويترز
وزير الخارجية الاميركي ماركو روبيو متوسطا مستشار الامن القومي الاميركي مايك والتز ومبعوث الولايات المتحدة الى الشرق الاوسط ستيف ويتكوف اثناء مقابلة بعد اجتماعهم بوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في الرياض في 18 فبراير

ولا ريب في أن الأوروبيين يريدون التوصل إلى اتفاق سلام، ولكنه فقط اتفاق توافق عليه أوكرانيا ولا يفتح باب أوروبا أمام بوتين على مصراعيه. ولهذا السبب تثير تعليقات هيغسيث وفانس المخاوف. فعلى الرغم من التزامها تجاه أوكرانيا، فإن القوى الأوروبية تفتقر إلى القدرة العسكرية والأسلحة التي يمكن أن تعوض دعم الولايات المتحدة إذا ما سحبته واستمر القتال. كما يجب التساؤل أيضا عما إذا كان نشر قوات عسكرية أوروبية سيكون كافيا، من دون دعم أميركي، لردع روسيا عن العدوان في المستقبل.

تحديات قديمة

في مواجهة هذا التحول الزلزالي في السياسة الأميركية، اجتمع القادة الأوروبيون الرئيسون في باريس قبل يوم واحد من المحادثات التي استبعدوا منها في الرياض. وعلى الرغم من أنهم أظهروا وحدة في التزامهم تجاه كييف ورغبتهم في مشاركة كل من أوكرانيا وأوروبا في محادثات السلام، فإن مشكلة قديمة أطلت برأسها من جديد.

نددت المجر وسلوفاكيا، اللتان يحكمهما يمينيون شعبويون متعاطفون مع كل من ترمب وبوتين، باجتماع باريس الذي استُبعدتا منه. ووصف رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان القمة بأنها "اجتماع الخاسرين" لعرقلة خطة ترمب للسلام

إن في روسيا والولايات المتحدة حكومتين فقط ما يسمح لكل منهما بوضع استراتيجيات وسياسات واضحة نسبيا، بينما يفتقد الأوربيون هذه الميزة، وهم يكافحون من أجل صياغة مسار موحد، ولكن بوجود كثرة من صناع القرار. وللإنصاف، أدى غزو عام 2022 إلى مستوى ملحوظ من التفكير المتقارب والاستراتيجية المشتركة، حين اتفق الحلفاء الأوروبيون، ومعهم المملكة المتحدة، على معاقبة روسيا ودعم كييف عسكريا والترحيب بملايين اللاجئين الأوكرانيين. وسرعان ما تخلوا عن عاداتهم القديمة، مثل تردد ألمانيا في زيادة الإنفاق العسكري وتردد بريطانيا في استقبال المهاجرين، بينما خففت القارة بأكملها من اعتمادها على الغاز الروسي، على الرغم من التكلفة العالية على الاقتصادات المحلية.

 اف ب
قوات من حلف "الناتو" اثناء مناورات في رومانيا في 19 فبراير

ومع ذلك، يبقى الانقسام سمة من سمات صنع السياسات الأوروبية. وقد تجلى ذلك في اجتماع باريس، حيث كانت فرنسا حريصة على إرسال قوات أوروبية إلى أوكرانيا لضمان أي سلام مستقبلي توافق عليه كييف إذا كانت الولايات المتحدة غير راغبة في إرسال قواتها الخاصة، كما اقترح هيغسيث. وأبدت بريطانيا، التي دُعيت رغم خروجها من الاتحاد الأوروبي بسبب قوتها العسكرية الكبيرة، بيد أن رئيس الوزراء كير ستارمر أصر على ربط إرسال قوات أوروبية بضمان أمني أميركي "مساند"، وهو ما قد يثبت استحالة حدوثه. وبينما كانت هولندا منفتحة على الفكرة، كانت ألمانيا وأسبانيا وبولندا مترددة.
لكن الانقسامات أعمق من هذه السياسة الواحدة. فقد نددت المجر وسلوفاكيا، اللتان يحكمهما يمينيون شعبويون متعاطفون مع كل من ترمب وبوتين، باجتماع باريس الذي استُبعدتا منه. ووصف رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان القمة بأنها "اجتماع الخاسرين" لعرقلة خطة ترمب للسلام. كما أن موقف إيطاليا متضارب بالمثل. ففي حين أن زعيمتها الشعبوية، جورجيا ميلوني، ليست من المعجبين ببوتين، إلا أنها مقربة من ترمب ويقال إنها تبغض الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. وعلى الرغم من تأييدها في السابق للحرب في أوكرانيا، فإنها قد تكون أكثر تأييدا لخطة ترمب إذا ما جاءت أكثر من الأوروبيين الآخرين. حتى الدول الأكثر تأييدا للاتحاد الأوروبي مثل سلوفينيا انتقدت اجتماع باريس لأنه لم يضم سوى الدول الكبرى في الاتحاد الأوروبي وبريطانيا فيما أُهمِلت الحكومات الأصغر.

منذ الحرب العالمية الثانية بنى أعضاء حلف "الناتو" في أوروبا دفاعاتهم على افتراض استمرار الوجود الأميركي والوصول إلى الأسلحة والتكنولوجيا الأميركية

وتعكس هذه التوترات بشأن أوكرانيا من نواحٍ عديدة التحديات الأكبر التي تتربص بأوروبا لمواجهتها في حال قلصت إدارة ترمب من مشاركة الولايات المتحدة في القارة. وعلى الرغم من أن معظم الدول الأوروبية– باستثناء المجر وسلوفاكيا– لا تزال ملتزمة بالوقوف في وجه روسيا، فإن الكثير منها مترددة في تحمل مسؤولية أكبر لوحدها. وإلى جانب التردد في إرسال قوات، هناك مقاومة واسعة النطاق لزيادة النفقات الدفاعية. فالكثير من الدول، بما في ذلك البرتغال وأسبانيا وإيطاليا وبلجيكا والدول الأصغر، لا تزال أقل من هدف "الناتو" المتمثل في تخصيص اثنين في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للدفاع. وحتى ألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة لا تنفق أكثر من ذلك بكثير، على الرغم من أن بريطانيا طرحت احتمال زيادة الإنفاق من 2.5 في المئة إلى ثلاثة في المئة. ومن النتائج الرئيسة لاجتماع باريس التقدم نحو آليات جديدة تسمح لدول الاتحاد الأوروبي بزيادة الإنفاق الدفاعي دون خرق القواعد المالية للاتحاد الأوروبي. على الرغم من أن هذا سيؤدي على الأغلب إلى تغييرات تدريجية أبعد من جهود إعادة التسلح الكبيرة.  

أوروبا من دون أميركا


وعلى أي حال، لا ينبغي التقليل من حجم التحدي الذي يواجه الحكومات الأوروبية. فمنذ الحرب العالمية الثانية بنى أعضاء حلف "الناتو" في أوروبا دفاعاتهم على افتراض استمرار الوجود الأميركي والوصول إلى الأسلحة والتكنولوجيا الأميركية. 

أب

وفي حالة انتهاء هذا الأمر سيستغرق الأمر سنوات ومليارات من اليورو للتعويض عنها. وثمة الآن 90 ألف جندي أميركي في أوروبا، وفقًا لصحيفة "فايننشيال تايمز"، بما في ذلك 20 ألف جندي أرسلهم بايدن إلى دول البلطيق وبولندا ورومانيا. فإذا ما تحققت توقعات هيغسيث وسُحبت هذه القوات والأسلحة والتكنولوجيا، سيحتاج الأوروبيون إلى إنفاق أكثر بكثير من اثنين في المئة من ناتجهم المحلي الإجمالي لتعويضها. إن أي انسحاب غير منظم من هذا القبيل من جانب ترمب سيشكل فرصة جذابة لبوتين، مما يجعل منعه أو تأخيره أولوية للقادة الأوروبيين. في هذا السياق، هناك حاجة واضحة إلى تحقيق توازن دقيق في العلاقة مع واشنطن حول أوكرانيا: الحرص على عدم استفزاز ترمب للانسحاب السريع من أوروبا. وفي الوقت نفسه حماية المصالح الحيوية لأوروبا وأوكرانيا في أي تسوية، والأفضل أن يتم ذلك من خلال حصول كليهما على مقعد على الطاولة. ولكن أوروبا في حاجة- للقيام بذلك بفعالية- إلى أن تكون موحدة قدر الإمكان، وهو أمر تجد فيه صعوبة منذ غزو عام 2022، بل وقبل ذلك بكثير.

font change