السودان...انقسام "تقدم" وشبح حكومة فيشي

الأطراف المنقسمة في "تقدم" تسوق خلافها على أنه تباين في الوسائل

 رويترز
رويترز
ممثلو القوى المشاركة في الاجتماع التمهيدي لتوقيع الميثاق السياسي "لحكومة السلام والوحدة" في المناطق التي تسيطر عليها "قوات الدعم السريع" في العاصمة الكينية نيروبي في 18 فبراير

السودان...انقسام "تقدم" وشبح حكومة فيشي

شهدت الساحة السياسية السودانية تغيرات متسارعة ظلت متوقعة منذ فترة، لكنها أتت بشكل له ما بعده. ففي 10 فبراير/شباط 2025، أعلن تحالف "تقدم" عن حل نفسه وانقسامه إلى كيانين جديدين: "تأسيس" و"صمود"، بعد خلافات حول تشكيل حكومة موازية في المناطق الخاضعة لسيطرة ميليشيا "قوات الدعم السريع". هذا الانقسام، أعلنت عنه "تقدم" كخلاف حول الوسائل والتكتيكات، إلا أنه يعيد إلى الأذهان سيناريو حكومة فيشي في فرنسا خلال الحرب العالمية الثانية، تلك الحكومة التي رفعت شعارات الاستقلال والسيادة، بينما كانت في الواقع غطاء سياسيا للنازية. وهو بالضبط ما يحاول دعاة تكوين الحكومة الموازية في السودان العمل عليه، أي تقديم منصة سياسية جديدة لإعادة تعليب الفاشية.

لم يكن انحياز شخصيات مثل عضو مجلس السيادة السابق محمد حسن التعايشي، ووزير العدل السابق نصر الدين عبد الباري، إلى جانب قيادات من الحركات المسلحة الدارفورية مثل الهادي إدريس والطاهر حجر، إلى معسكر "الدعم السريع" أمرا خفيا، بل كان أمرا مفضوحا منذ وقت مبكر من الحرب. فقد شارك التعايشي وعبد الباري في اجتماع توغو عام 2023، الذي أقامته "قوات الدعم السريع"، وقدما أوراقا في ذلك المؤتمر شكلت الأساس في صياغة الخط السياسي الذي اعتمدته الميليشيا في تبرير حربها. أما الطاهر حجر والهادي إدريس، فقد انخرطت قواتهما بشكل مباشر في القتال إلى جانب "الدعم السريع" في مناطق متفرقة من دارفور، ما كشف عن تداخل المصالح السياسية والعسكرية بشكل لم يعد قابلا للإنكار.

ورغم كل ذلك، استمر عبد الله حمدوك ومن معه في التعامل مع هؤلاء المنتمين فكرا وسلاحا إلى "الدعم السريع" كجزء من تحالف "مدني" يدعي الحياد، مانحين إياه شرعية سياسية وغطاء للترويج لخطاب الميليشيا، وهي تمضي في ممارسة انتهاكاتها وجرائمها بشكل ممنهج. وأصبحت "تقدم" خلال أكثر من عام مظلة رمادية تجمع تحتها من يدّعون الحياد، بينما يميلون عمليا لصالح أحد أطراف الحرب، وهو ما عمق أزمة الثقة في هذه القوى المدنية التي حاولت احتكار هذا التوصيف لنفسها.

على مدى أكثر من عام، استخدمت العناصر الموالية لـ"الدعم السريع" التمويل البريطاني والأميركي والنرويجي والهولندي الذي تم رصده لتكوين تحالف "تقدم" كجبهة للمدنيين، للترويج للخط السياسي والدعائي لـ"قوات الدعم السريع". واستمر الدبلوماسيون الذين تورطوا في دعم تكوين "تقدم" في استخدام أموال دافعي الضرائب في بلادهم لمواصلة هذا الدعم السخي، حتى بعد توقيع "تقدم" لاتفاق حمدوك-حميدتي في يناير/كانون الثاني 2024 والذي كشف عن التقارب بينهما، بينما كانت الميليشيا ترتكب جرائمها في ولاية الجزيرة، على طريقة "أنا الغريق فما خوفي من البلل" حتى انتهى الأمر بحل التحالف نفسه وانقسامه.

وواصلت الأطراف المنقسمة في "تقدم" تسويق خلافها على أنه تباين في الوسائل وليس في الأهداف، وتصوير الاختلاف بينها على أنه حول "سبل نزع الشرعية عن حكومة بورتسودان". لكن ما يبدو واضحا أنه ليس سوى إعادة تموضع استراتيجية، أشبه بتوزيع أدوار ماكر بين فصيلين من فريق واحد. خصوصا أن كثيرا من الأصوات التي ظلت تصنع انحياز "تقدم" بأكملها باتجاه "الدعم السريع" وتدعم خيار تكوين حكومة الميليشيا، ظلت باقية في تحالف "صمود" الجديد، وعلى رأسها المحامي طه إسحق، الذي استمر في تمثيل تحالف "صمود" بعد الانقسام، بمعية رئيس التحالف المعلن: عبد الله حمدوك، وظهر معه علنا في لقاء الرئيس الكيني وليام روتو وفي اجتماعات أخرى في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، مع ترويج مداولات لترشيحه نائبا لحمدوك في التحالف الجديد.

بينما تصدح الميليشيا بخطاب يزعم الدفاع عن المهمشين، ترتكب قواتها جرائم القتل والإبادة الجماعية ضد مجتمع المساليت في غرب دارفور، وتواصل قصف معسكر زمزم للنازحين في شمال دارفور

تماهي إسحق الصريح مع الميليشيا منذ وقت مبكر في الحرب، والذي وصل إلى تأييده بشكل معلن من منصة "قوى الحرية والتغيير" لضرورة استمرار وجودها السياسي، يرجح تفسير تقسيم الأدوار، الذي قد لا تكون بعض المكونات في تحالف "صمود" على وعي كامل به. فبينما تذهب "تأسيس" لإنقاذ الموقف السياسي لميليشيا "قوات الدعم السريع"، يبقى تحالف "صمود"، الذي يتزعمه عبد الله حمدوك، ليؤدي دورا مكملا عبر الاستمرار في تقديم الدعم السياسي والإعلامي، لكن من موقع يبدو أكثر "اتزانا" و"اعتدالا"، مستخدما لغة الحياد الزائف التي تخفي وراءها انحيازات لم تعد قابلة للتمويه. وهو تكرار للدور الذي حاول تحالف "تقدم" أن يلعبه، بتسويق موقفه على أنه سعي للحل السياسي، بينما كان يتيح فعليا مساحة لميليشيا "الدعم السريع" لترويج روايتها وكسب الاعتراف الدولي الذي تسعى إليه.

 أ ف ب
سودانيون يشاركون في تجمع في مدينة القضارف تأييدا للجيش في 22 فبراير

على الجانب الآخر، تتجه مجموعة "تأسيس"، التي تضم التعايشي وعبد الباري وآخرين، نحو إنشاء منصة سياسية جديدة تمنح الشرعية لمشروع ميليشيا "قوات الدعم السريع"، متبنية فكرة تشكيل حكومة موازية في المناطق الخاضعة لسيطرة الميليشيا. الهدف من هذه الخطوة هو توفير واجهة سياسية تخفي وراءها الجرائم والانتهاكات التي ارتكبتها الميليشيا منذ اندلاع الحرب، بل وحتى قبل ذلك. كما ستصلح هذه الحكومة الجديدة كأداة لضم الحلفاء المدنيين الذين يعملون في الترويج لها، بشكل يساهم في إعادة تشكيل الخطاب السياسي حول الصراع، بحيث لا يُنظر إلى "الدعم السريع" كمجرد قوة عسكرية منفلتة، بل ككيان يمتلك هياكل سياسية وإدارية تدّعي إدارة شؤون المناطق الخاضعة لسيطرتها.
إعادة صياغة هذا الخطاب السياسي، وتقديم "الدعم السريع" في صورة تحظى بالمشروعية النضالية، هو ما اجتهدت فيه الميليشيا وحلفاؤها منذ اندلاع الحرب. وقد تجلى ذلك في شكل عبثي متناقض بين الخطاب الإعلامي الذي تتبناه الميليشيا وما تنفذه قواتها على أرض الواقع. فبينما تصدح الميليشيا بخطاب يزعم الدفاع عن المهمشين، ترتكب قواتها جرائم القتل والإبادة الجماعية- التي اعترفت بها الإدارة الأميركية رسميا في ديسمبر/كانون الأول الماضي- ضد مجتمع المساليت في غرب دارفور، وتواصل قصف معسكر زمزم للنازحين في شمال دارفور. وتتغنى بالعدالة والحفاظ على الحقوق، بينما تنهب قواتها الممتلكات، وتخطف النساء وتغتصبهن، وتقتل الناس في بيوتهم وقراهم بولايتي الخرطوم والجزيرة. وتتشدق بالتنمية و"السودان الجديد"، في حين تقصف قواتها البنى التحتية الأساسية وتدمرها، مثل مواقع إنتاج الكهرباء وتنقية المياه وغيرها. يمضي هذا التناقض العبثي في محاولة تصوير قائد الميليشيا، محمد حمدان دقلو (حميدتي) على أنه جون قرنق جديد يدافع عن حقوق الهامش والمهمشين!

حضر عبد العزيز الحلو، رئيس "الحركة الشعبية لتحرير السودان- شمال"، وخاطب الحضور واصفا حميدتي بـ"الرفيق" الذي انتفض للمطالبة بحقوق أهل دارفور

من الواضح أن هذا المشروع يحظى بدعم إقليمي كبير، خاصة من أطراف بات استمرارها في تسليح وتمويل "قوات الدعم السريع" يشكّل عبئا أخلاقيا وإحراجا دوليا لها. لذلك، وجدت هذه القوى في فكرة الحكومة الموازية حلا يتيح لها الاستمرار في تقديم الدعم العسكري واللوجستي عبر قناة تبدو أكثر "شرعية"، بدلا من التعامل المباشر مع ميليشيا. تتحول الحكومة الموازية إلى مجرد غطاء سياسي يخدم الأهداف العسكرية ذاتها، في تكرار لسيناريوهات مشابهة شهدها التاريخ، عندما حاولت قوى احتلال وميليشيات مسلحة فرض نفسها عبر أدوات سياسية مصطنعة، لم تصمد طويلا أمام الحقائق على الأرض.
نجح تحالف "تأسيس" في جمع عدد كبير من القيادات السياسية في قاعة جومو كينياتا بالعاصمة الكينية نيروبي، يوم الثلاثاء 18 فبراير/شباط، بهدف التوقيع على ميثاق سياسي لتشكيل حكومة ميليشيا "قوات الدعم السريع". ولكن، لم تكن كل هذه القيادات مدعومة مؤسسيا من تنظيماتها. وتولى محمد حسن التعايشي مهمة استقبال المشاركين، والترحيب بهم ومن بينهم رئيس حزب "الأمة القومي"، فضل الله برمة ناصر، الذي أعلن حزبه، في بيان جماهيري صريح، تبرؤه من هذه المشاركة، مؤكدا أنها تمثل موقفا شخصيا لبرمة ناصر ولا تعكس موقف الحزب المؤسسي. كما حضر عبد العزيز الحلو، رئيس "الحركة الشعبية لتحرير السودان- شمال"، وخاطب الحضور واصفا حميدتي بـ"الرفيق" الذي انتفض للمطالبة بحقوق أهل دارفور، وهو تصريح يتناقض مع تاريخ الرجل وأفعاله، مما أثار عاصفة من الانتقادات ضد الحركة الشعبية، أدت إلى استقالات جماهيرية لبعض كوادرها، بينما دافع آخرون منهم عن هذا الموقف. 
وفي مشهد أكثر غرابة، تحدث إبراهيم الميرغني، الذي كان وزيرا في حكومة البشير الأخيرة قبل الثورة، والمعروف باحتكاره طباعة البوسترات الدعائية للبشير في انتخابات 2015. وقد ألقى كلمته بلسان فصيح، متناولا شعارات الثورة وكأنه أحد روادها. تم تقديم إبراهيم كممثل لـ"الحزب الاتحادي الديمقراطي" الأصل، رغم أن الحزب أصدر عدة بيانات أكدت فصله من صفوفه منذ عام 2202. ورغم هذا الحضور الاحتفالي اللافت، لم توقّع هذه الكيانات على الميثاق السياسي. وتسرب أن السلطات الكينية سمحت بعقد الاجتماع، لكنها اشترطت عدم التوقيع على الميثاق، الذي يُنظر إليه كمقدمة صريحة لتقسيم السودان.

 أ ف ب
شاحنة تمر قرب دبابة للجيش السوداني عند مدخل مدينة ود مدني في ولاية الجزيرة في 20 فبراير بعدما استعاد الجيش السيطرة على المدينة

لم يقلل ذلك من حجم العاصفة السياسية الداخلية التي واجهت الحكومة الكينية جراء سماحها بهذا الدعم الصريح للميليشيا. فقد انتقد كالونزو موسيوكا، نائب الرئيس الكيني السابق (2008-2013) ووزير الخارجية الأسبق، استضافة كينيا لاحتفالية تهدف إلى إعلان حكومة موازية في السودان، معربا عن تخوفه من أن تتحول كينيا إلى دولة منبوذة في الإقليم بسبب تدخلات الرئيس الكيني وليام روتو في شؤون الدول المجاورة. واستنكر الاحتفاء في بلاده بقوات "الجنجويد"، المتهمين بارتكاب جرائم إبادة جماعية، وربط ذلك بتهريب الذهب السوداني، الذي يتم تهريبه عبر "الجنجويد" إلى كينيا ثم يُعاد تصديره للعالم باعتباره قادما من كينيا. وفي رده على سؤال حول حديث روتو عن سعيه لتحقيق السلام من خلال هذه الخطوة، قال موسيوكا: "دعوني أستخدم لغة غير دبلوماسية… هذا هراء". 

منهج حكم الميليشيا القائم على القتل، والنهب، والاغتصاب، والإجرام في المناطق التي سيطرت عليها، يفتقر إلى أي مشروع سياسي أو مشروعية وطنية

كما عبّر موخيسا كيتوي، السياسي الكيني البارز والأمين العام السابق لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (UNCTAD)، عن انتقاده لتحركات الرئيس الكيني وليام روتو في السودان، قائلا: "إنه يحاول إضفاء الشرعية على عصابة إجرامية تقوم بتقطيع أوصال الناس"، واصفا هذه الخطوة بأنها "غير مسؤولة جنائيا"، وتمثل "تخليا عن النهج الدبلوماسي التقليدي لكينيا".

وبرغم كل ذلك، في وقت متأخر من مساء السبت 22 فبراير 2025، وقعت "قوات الدعم السريع" والتنظيمات المتحالفة معها ميثاق التحالف الجديد في العاصمة الكينية نيروبي.

وفي يوليو/تموز 1940، تشكَّلت حكومة فيشي، التي عُرفت رسميا بـالدولة الفرنسية، من رماد الكارثة الوطنية التي حلَّت بفرنسا عقب الاجتياح النازي. تبقى تجربة حكومة فيشي درسا صارخا في أن التعاون مع الفاشية، مهما كانت مبرراته، لا يغفره التاريخ. ولم يكن هذا الدرس مقصورا على فرنسا وحدها، بل تكرر عبر العصور في أمثلة عدة، حيث اختارت شخصيات وحكومات التحالف مع قوى القمع والطغيان لأسباب انتهازية، ليجدوا أنفسهم في نهاية المطاف على هامش التاريخ، منبوذين ومحتقرين.

لن تختلف حكومة ميليشيا "الدعم السريع" في السودان عن هذه النماذج. فمنهج حكم الميليشيا القائم على القتل، والنهب، والإجرام في المناطق التي سيطرت عليها، يفتقر إلى أي مشروع سياسي أو مشروعية وطنية. لا يمكن لأحد التحالف مع الطغيان والإفلات من الحساب، وسيجدون أنفسهم يوما ما ملاحقين بعار لا يمحوه الزمن، كما حدث مع بيتان، وكويزلينغ، وانغ جينغوي، والحركيين، وأنطوان لحد. فالتحالف مع الفاشية ضد الناس هو رهان خاطئ لا يغفره التاريخ.

font change