شهدت الساحة السياسية السودانية تغيرات متسارعة ظلت متوقعة منذ فترة، لكنها أتت بشكل له ما بعده. ففي 10 فبراير/شباط 2025، أعلن تحالف "تقدم" عن حل نفسه وانقسامه إلى كيانين جديدين: "تأسيس" و"صمود"، بعد خلافات حول تشكيل حكومة موازية في المناطق الخاضعة لسيطرة ميليشيا "قوات الدعم السريع". هذا الانقسام، أعلنت عنه "تقدم" كخلاف حول الوسائل والتكتيكات، إلا أنه يعيد إلى الأذهان سيناريو حكومة فيشي في فرنسا خلال الحرب العالمية الثانية، تلك الحكومة التي رفعت شعارات الاستقلال والسيادة، بينما كانت في الواقع غطاء سياسيا للنازية. وهو بالضبط ما يحاول دعاة تكوين الحكومة الموازية في السودان العمل عليه، أي تقديم منصة سياسية جديدة لإعادة تعليب الفاشية.
لم يكن انحياز شخصيات مثل عضو مجلس السيادة السابق محمد حسن التعايشي، ووزير العدل السابق نصر الدين عبد الباري، إلى جانب قيادات من الحركات المسلحة الدارفورية مثل الهادي إدريس والطاهر حجر، إلى معسكر "الدعم السريع" أمرا خفيا، بل كان أمرا مفضوحا منذ وقت مبكر من الحرب. فقد شارك التعايشي وعبد الباري في اجتماع توغو عام 2023، الذي أقامته "قوات الدعم السريع"، وقدما أوراقا في ذلك المؤتمر شكلت الأساس في صياغة الخط السياسي الذي اعتمدته الميليشيا في تبرير حربها. أما الطاهر حجر والهادي إدريس، فقد انخرطت قواتهما بشكل مباشر في القتال إلى جانب "الدعم السريع" في مناطق متفرقة من دارفور، ما كشف عن تداخل المصالح السياسية والعسكرية بشكل لم يعد قابلا للإنكار.
ورغم كل ذلك، استمر عبد الله حمدوك ومن معه في التعامل مع هؤلاء المنتمين فكرا وسلاحا إلى "الدعم السريع" كجزء من تحالف "مدني" يدعي الحياد، مانحين إياه شرعية سياسية وغطاء للترويج لخطاب الميليشيا، وهي تمضي في ممارسة انتهاكاتها وجرائمها بشكل ممنهج. وأصبحت "تقدم" خلال أكثر من عام مظلة رمادية تجمع تحتها من يدّعون الحياد، بينما يميلون عمليا لصالح أحد أطراف الحرب، وهو ما عمق أزمة الثقة في هذه القوى المدنية التي حاولت احتكار هذا التوصيف لنفسها.
على مدى أكثر من عام، استخدمت العناصر الموالية لـ"الدعم السريع" التمويل البريطاني والأميركي والنرويجي والهولندي الذي تم رصده لتكوين تحالف "تقدم" كجبهة للمدنيين، للترويج للخط السياسي والدعائي لـ"قوات الدعم السريع". واستمر الدبلوماسيون الذين تورطوا في دعم تكوين "تقدم" في استخدام أموال دافعي الضرائب في بلادهم لمواصلة هذا الدعم السخي، حتى بعد توقيع "تقدم" لاتفاق حمدوك-حميدتي في يناير/كانون الثاني 2024 والذي كشف عن التقارب بينهما، بينما كانت الميليشيا ترتكب جرائمها في ولاية الجزيرة، على طريقة "أنا الغريق فما خوفي من البلل" حتى انتهى الأمر بحل التحالف نفسه وانقسامه.
وواصلت الأطراف المنقسمة في "تقدم" تسويق خلافها على أنه تباين في الوسائل وليس في الأهداف، وتصوير الاختلاف بينها على أنه حول "سبل نزع الشرعية عن حكومة بورتسودان". لكن ما يبدو واضحا أنه ليس سوى إعادة تموضع استراتيجية، أشبه بتوزيع أدوار ماكر بين فصيلين من فريق واحد. خصوصا أن كثيرا من الأصوات التي ظلت تصنع انحياز "تقدم" بأكملها باتجاه "الدعم السريع" وتدعم خيار تكوين حكومة الميليشيا، ظلت باقية في تحالف "صمود" الجديد، وعلى رأسها المحامي طه إسحق، الذي استمر في تمثيل تحالف "صمود" بعد الانقسام، بمعية رئيس التحالف المعلن: عبد الله حمدوك، وظهر معه علنا في لقاء الرئيس الكيني وليام روتو وفي اجتماعات أخرى في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، مع ترويج مداولات لترشيحه نائبا لحمدوك في التحالف الجديد.